ما زالت صورة الملك أو الملاكم الأسطورة محمد على كلاى ماثلة فى الأذهان، وهو يقفز ويدور حول خصمه كفراشة فى حلبة الملاكمة. يحرك رأسه ويديه بصورة مدهشة فى حركات سريعة مدروسة تتناسق تماما وحركة ساقيه القوية الرشيقة لينقض عليه فى ضربة قاضية تفقد عزيمة توازنه وتنهى المباراة لصالحه فيظل يقفز فى الهواء منتشيا بنصر تكرر مرارا. لكن ولأن الدنيا لا تدوم على حال واحد ففى ذات الألبوم صورة أخيرة للبطل فى عرس ابنته، وهو يحاول اخفاء ارتعاشات يده المتكررة اللاإرادية بابتسامة تضئ ملامحه السمراء، وهو يخطو إلى جوارها فى خطوات بطيئة متناقلة تعلن عن إصابته بمرض الباركنسون. مرض المبدعين. لم يكن محمد على كلاى أول ضحايا مرض باركنسون ولا آخرهم فقد سبقه العديد من الأسماء اللامعة: بابا روما جان بول الثانى، الكاتب يوجين أوينل، الرسام العبقرى سلفادور دالى، طاغية إسبانيا فرانكو، هتلر، رونالدريجان، هارى ترومان والمحتل الكندى الوسيم.. مايكل فوكس، الذى أوقف ثروته على مؤسسة لأبحاث الباركنسون وعلاجه. منذ أن أعلن الطبيب الإنجليزى جيمس باركنسون وصفه المبدئى للمرض، الذى لاحظ أن عددا من مرضاه يعانون منه: تخشب الأطراف وثقل الحركة مع رعشة لا إرادية مستمرة فى اليد، وإلى الآن لم يتحدد بعد السبب الحقيقى لتلك الأعراض مجتمعة. رغم أن هناك عددا من الأسباب يمكنها أن تحدث ذلك المرض مثل تأثير بعض الأدوية والسموم المعدنية والعدوى بالفيروسات وربما تكرار إصابات الرأس كما فى حالة الملاكم الأشهر. يظهر المرض نتيجة موات الخلايا العصبية التى تفرز مادة مهمة فى المخ« الدوبامين» تعمل كناقل عصبى لمختلف الإشارات، التى يرسلها ويتلقاها المخ فى منطقة محدودة تسمى المنطقة السوداء «Substantia nigra»، حينما يتحدث ما يقرب من نصف خلايا تلك المنطقة المنتجة للدوبامين تبدأ الأعراض فى الظهور وتزداد سوءا كلما تزايد موت الخلايا وبالتالى نقص مادة الدوبامين المهمة. تبدأ الأعراض فى الظهور ببطء لا تعلن صراحة عن المرض، فتور الهمة ومعالم الإرهاق، تعثر الخطوات والسقوط بدون مبرر كافٍ. ثم الرعشة التى تبدأ فى اليد ويمكن ملاحظتها خاصة فى الكتابة أو التطريز، الأمر الذى يستدعى قدرة على التحكم. ثم تتوالى الأعراض ومنها تيبس العضلات، ومنها عضلات الوجه فيبدو المريض متجهما بلا سبب واضح كمن يرتدى قناعا يثير دهشته إذا ما نظر إلى نفسه فى المرآة، فالتغير فقط فى الملامح وليس الشخصية. تزداد الرعشة فى اليد حتى تصبح حركة ملازمة لا إرادية للمريض لتزيد من توتره ورغبته فى الخلاص منها. يعانى مريض الباركنسون من أعراض أخرى غير الأعراض التقليدية، التى تصاحب المرض نتيجة لتيبس عضلات مختلفة فى أماكن متعددة وفقا لدرجة إصابته وأعراض أخرى مشابهة: قد تتأثر قدرات المريض على الحركة السلسة التى تعودها الإنسان نتيجة فقدان التوافق بين إشارات المخ والجهاز الحركى مما يتسبب فى ارتباك الحركة وعدم قدرة المريض على تصحيح وضعه فى الوقت المناسب مما يعرضه لسقوط مؤلم. قد يتغير الصوت نتيجة تيبس عضلات الصدر فتصبح غير قادرة على دفع الهواء بصورة طبيعية خارج الرئة مما يجعل الصوت غير معبر أو يخرج بصورة واحدة لا أثر فيها لنغمات مختلفة. نفاد الدوبامين يؤثر على كل العضلات ومنها عضلات العين التى تقل حركتها وتتعرض للجفاف. بطء حركة العضلات فى الجهاز الهضمى قد تؤدى للإمساك المزمن. قد يقترن المرض ببعض من فقدان القدرة على التركيز وانحسار الذاكرة مما ينعكس على القدرات الذهنية والمعرفية للإنسان ليقوده إلى ما يعرف بالعته. يعانى أكثر مرضى الباركنسون من اضطرابات النوم ومشكلات الأرق. كيف يمكن تشخيصه؟ رغم الأعراض الواضحة التى تعلن عن وجود المرض فإن تشخيصه فى بداياته يشكل مشكلة حقيقية للطبيب. يجب استبعاد عدد من الأمراض التى تتشابه فى ملامحها وأعراضها مع الباركنسون، الذى تتراكم أعراضه فى بطء خاصة أنه فى حالات نادرة يصيب الشباب، أما أعلى نسبة لحدوثه فتواكب العقد الخامس من عمر الإنسان خاصة الرجال إذ يصيب المرأة بصورة أقل قد تصل إلى 3:1. التاريخ المرضى والإصابات المهمة للرأس إن وجدت وجميع الأدوية التى يتناولها أو الظروف البيئية، التى يعيش فيها المريض، كلها معلومات يجب أن تسجل بدقة قبل فحص المريض بدقة خاصة جهازه العصبى. استبعاد الإصابة بالسكتة الدماغية أو أورام المخ أمر قد يستوجب إجراء بعض من تحاليل الدم المختلفة والأشعات العادية والمقطعية والتصوير بالمجال المغناطيسى. ما مستقبل مريض الباركنسون؟ لا أحد يمكن التنبؤ بمستقبل مريض الباركنسون إنه مرض مزمن للأسف حتى الآن ليس له علاج جذرى معروف لغياب سببه. قد يعانى البعض من إعاقة كاملة بسببه، بينما يعانى البعض الآخر من أعراض محتملة ربما توقفت عند حد رعشة اليد، التى تصبح أمرا معتادا للمريض ومن حوله بعد فترة من الزمن. هل من علاج؟ العلاج بعقار الدوبا L-Dopa أو مزيج من Levodopa and carbidopa فى البداية يعطى نتائج مشجعة، لكن للأسف لا يستمر ذلك الأثر الجيد إلا لسنوات معدودة لا تتجاوز الخمس سنوات يبدأ المريض بعدها فى التدهور غير مستجيب للعقار مما يستدعى مساندته ببعض العقارات الأخرى المساعدة، التى قد تزيد من فاعلية العقار الفاعل. لكن فى أغلب الأحوال تزداد حدة الحركات اللاإرادية التى يبادر إليها الجسم دون وعى المريض بها أو حتى توقعه لها مما يزيد الأمر تعقيدا ويصبح تغيير العلاج باستمرار أمرا واردا. تظل الجراحة خيارا آخر وربما أصبح أكثر أمنا إذ يتم تحت مراقبة التقنيات المتطورة من أجهزة الفحص المختلفة مثل الآشعة المقطعية. تعد فكرة الجراحة التى تتم إما بالكى أو التنبيه الكهربى حول الحد من نشاط خلايا المخ العشوائى فى غياب مادة الدوبامين «الناقل العصبى». ما الذى يدور حوله الأبحاث الحالية؟ يعيش فى أمريكا الآن أكثر من مليون إنسان أسير لمرض باركسنون لذا يأتى على قائمة لائحة أولويات البحث. تتبادل المراكز البحثية المختلفة خبراتها فى محاولة معرفة السبب المبدئى للمرض وطرق علاجه. منها أبحاث تتعلق بدراسة الجينات أو الأسباب البيئية التى قد تسبب فى حدوثه. هناك أيضا دراسات على علاجات جديدة متطورة تعتمد على استخدامات الخلايا الجذعية خاصة بعد التصريح الأخير لإدارة الرئيس أوباما ببدء العمل فى أبحاثها. كلمة أخيرة الباركنسون أحد الأمراض المزمنة التى تحتاج لرعاية خاصة يمكن أن يقدمها مجتمع لا ينقصه التكامل لمرضاه، تكوين مجموعات دعم صغيرة تضم المرضى مع بعض متطوعى العمل العام فى أماكن مفتوحة كالنوادى أو المستشفيات ووجود طبيب أمراض عصبية يمكنه شرح الأمر والإنصات للمرضى وحثهم على تبادل خبراتهم مع المرضى وطريقة كل منهم الخاصة فى التعامل: فكرة أظنها تستحق المناقشة وتنفيذها رسالة تدعو من يتصدى لها. يدنا معكم.. فهل من استجابة؟