- الانشغال الفلسفى لازمه طوال مسيرته الإبداعية.. - أسأل نفسى: كيف كان يتصور حل مشكلة «سد النهضة» وكيفية التعامل مع «كورونا»؟.. - كتاباته «متجددة باستمرار» وعرفناه مهموما بقضايا وطنه وبالمصير الإنسانى كله.. - صاحب «أولاد حارتنا» لم يتوقف عن الكتابة المنتظمة حتى الشهر الأخير قبل وفاته.. - تلقى تعليما ممتازا وأتقن الإنجليزية إلى درجة ترجمته كتابا وهو طالب بالثانوية.. منذ الثلاثين من أغسطس عام 2006، وفى مثل هذا التاريخ من كل عام، تتجدد الأسئلة والعناوين والتأويلات والأفكار حول مشروع الروائى المصرى العالمى نجيب محفوظ، الذى رحل عن عالمنا فى ذلك اليوم، مخلفا وراءه منتجا إبداعيا ضخما لا يزال موضوعا خصبا للمزيد من التأمل والدراسة والفهم، كما يقول أستاذ الأدب والنقد بجامعة القاهرة د. حسين حمودة، الذى ظل لسنوات طويلة، قريبا من الروائى الكبير الراحل نجيب محفوظ، بل إنه كتب بخط يده اثنى عشر حلما من «أحلام فترة النقاهة / الأحلام الأخيرة»، أملاها عليه محفوظ، حين غاب عنه سكرتيره الحاج صبرى. فما الذى أبقى إبداع محفوظ الراحل حيا حتى لحظتنا الراهنة؟ وما الشروط التى توفرت له من دون أن تتحقق لسواه؟ وكيف يمكن أن نستقبل ذكرى رحيله بعد مرور كل تلك السنوات؟.. هذه الأسئلة وغيرها، أجابنا عنها حمودة، مؤلف كتاب «فى غياب الحديقة.. حول متصل الزمان / المكان فى روايات نجيب محفوظ»، وواحد من أبرز المقربين لصاحب «أولاد حارتنا»، على امتداد أعوام طويلة.. وإلى نص الحوار: ما الذى أبقى أدب نجيب محفوظ مؤثرا ونابضا بالحياة منذ الستينيات وحتى يومنا هذا؟ لعل أدب نجيب محفوظ لا يزال مؤثرا ونابضا بالحياة حتى الآن، ومنذ فترة أسبق من هذا، وطبعا يمكن التفكير فى تفسيرات عديدة لهذا التأثير ولهذه القدرة على الامتلاء بأسباب الحياة وعلى الامتداد فيها وبها، يمكن أن يكون من بين هذه التفسيرات ما اهتم به محفوظ فى أعماله من تناولات لقضايا ومشكلات وهموم إنسانية قديمة ومتجددة، ليست مؤقتة وليست عابرة يمكن أن تنقضى بانقضاء ملابسات عارضة، ويمكن أن يكون من بين هذه التفسيرات انشغال نجيب محفوظ دائما بما هو جوهرى فى شخصيات أعماله وما يتصل بها من وقائع، ويقترن بهذا حرصه الدائم على أن يقدم، فى هذه الأعمال، ما يجسد بعدا من أبعاد «الامتلاء الزمنى»، بما يجعل فترات تاريخية بعينها تتشكل وتتجسد بتفاصيلها وملامحها وأحداثها المرتبطة بالزمن الذى يتدفق خارج هذه الأعمال ويحيط بها، كذلك يمكن التفكير فى تفسيرات أخرى تتعلق بالصياغات الجمالية الغنية التى استبصرها وبلورها نجيب محفوظ فى كتاباته، وهى صياغات مسكونة بالتساؤل الأبدى عن قيم فنية خاصة ومتجددة فى الوقت نفسه، حافلة بإمكانات واسعة ومستويات متعددة لتلقيها وللاستجابة لها، ولم تكن أبدا مرتهنة بذائقة محدودة أو متغيرة أو ضيقة. وإلى أى مدى تراه «أدبا إنسانيا» إن جاز التعبير؟ أرى أدبه إنسانيا لأبعد مدى، وذلك بسبب التفسيرات التى أشرت إليها وأيضا لأنه استطاع أن يلتقط دائما جوانب إنسانية مشتركة فى العوالم التى تناولها، وأن يرنو فيما هو محلى ومحدد، وربما محدود، إلى ما يمكن أن يكون جزءا أساسيا مكونا للإنسان فى كل زمن وكل مكان.. بالإضافة إلى أن الانشغال الفلسفى، الذى لازمه طوال مسيرته، جعله ينأى عما هو ظاهرى مبذول وقريب إلى ما هو جوهرى وبعيد وعميق.. وطبعا يمكن أن نضيف إلى هذا كله ما نعرفه عن تساؤل محفوظ واهتمامه، بطرائق شتى، بالمصير الإنسانى كله.. لقد ظل مهموما بقضايا وطنه، وبالناس الذين عرفهم، ولكنه أيضا ظل منشغلا بما يصل هذا الوطن وهؤلاء الناس بالعالم الواسع كله وبالبشرية جميعها، وبالمسيرة التى قطعتها هذه البشرية، وبالمشكلات الكبرى التى تواجهها فى حاضرها، وبالأفاق التى يمكن أن تبلغها فى أزمنة قادمة. وما الشروط التى توافرت لنجيب محفوظ حتى نال ما بلغ من مكانة لم تتحقق لغيره؟ بعض هذه الشروط ارتبط بالسياق الذى بزغت تجربته فيه وتنامت معه، وهو سياق غنى جدا.. أتاح له هذا السياق أن يتلقى تعليما ممتازا، وأن يتقن الإنجليزية وهو طالب بمرحلة الدراسة الثانوية، وقد ترجم كتابا فى هذه المرحلة، كما نعرف جميعا، (كتاب «مصر القديمة» للكاتب الإنجليزى جيمس بيكى) بما فتح له مجالا واسعا للتعرف على ثقافات متنوعة، وأتاح له هذا السياق أيضا أن يمتلك رؤية ليبرالية تؤمن بالتعدد والتحرر، وأتاح له هذا السياق كذلك أن يأتى بعد، وأن يجايل ويزامن، عددا من القامات الثقافية والفكرية والأدبية الكبيرة، وفى هذه الوجهة هناك حشد من الأسماء يصعب حصرها.. ومن وجهة أخرى، اقترن بعض هذه الشروط بتجربة نجيب محفوظ الذاتية الخاصة التى نهضت على نوع من استبصار معالم مشروعه الإبداعى منذ وقت مبكر، والقيام بتعديل مسار هذا المشروع الإبداعى فى وقت مبكر أيضا، وذلك بعد أن جرب الكتابات الفلسفية والروايات التاريخية التقليدية وكتابة القصص القصيرة فى فترة الثلاثينيات.. وبجانب هذا، أى بجانب استبصار معالم مشروع خاص فى فترة مبكرة، هناك العمل المتواصل والدائب والمنظم بشكل لا يصدق من أجل رعاية هذا المشروع، وفى هذه الناحية هناك القراءات الموسعة والمنظمة فى الموروث الثقافى الإنسانى، والمتصلة والمستمرة خلال برنامج دقيق وصبور، وهناك التأمل الدائم، وهناك الحرص على الكتابة المنتظمة التى لم تتوقف أبدا حتى الشهر الأخير قبل وفاته، وهناك المراقبة والتقصى لتغيرات الواقع باستمرار، ثم هناك التساؤل المتجدد عما أنجزه فى كتاباته وعما يمكن أن ينجزه.. إلخ.. نجيب محفوظ، فى الحقيقة، مثال أو نموذج مكتمل المعالم للاستجابة لأقصى ما يمكن للمبدع الوصول إليه من خلال الشروط الممكنة المتاحة، ومن خلال العمل للإفادة من هذه الشروط، بل والبحث عن شروط أخرى غير متاحة. وكيف يمكن النظر إلى أدب نجيب محفوظ ومنتجه الإبداعى بعين مختلفة بعد كل هذه السنوات؟ كتابات نجيب محفوظ متجددة باستمرار، لأنها ببساطة ظلت دائما مسكونة بسؤال حقيقى حول إمكانات التجدد. وبعد سنوات مرت منذ رحيل محفوظ، وسنوات وعقود مرت على كتابة أعماله، لا تزال كتاباته حاضرة فى دوائر واسعة جدا للقراءة، عبر لغات كثيرة مختلفة. وطبعا كل قراءة يمكن أن تستكشف فى هذه الكتابات أبعادا متباينة، وأن تئولها تأويلات متنوعة، وأن تفسرها وتعيد تفسيرها بأعين وبأفهام تنتمى إلى أزمنة مغايرة، وهذا مرتبط بأن هذه الكتابات تسمح بهذا كله. وهل ترى أن عبارة «قتل بحثا» تسرى على النقد الأدبى فى حالة نجيب محفوظ أم أن فى عالمه الفريد ما يغرى بمزيد من الدراسة؟ لا أتصور أن أعمال محفوظ، على كثرة الدراسات النقدية عنها، يمكن أن تكون قد قتلت بحثا أو نقدا، فهناك جوانب متنوعة جديدة فى هذه الأعمال يكشف عنها النقد الذى يتناولها يوما بعد يوم. وفى تقديم كتاب لى عن روايات محفوظ، قبل سنوات بعيدة قلت: «ما أكثر ما كتب، وما قيل، عن أعمال نجيب محفوظ.. ما أكثر ما يمكن أن يكتب عن هذه الأعمال، وأن يقال».. ورأيت أن «عالم محفوظ قد استدعى، وسيظل يستدعى، المزيد من المقاربات والقراءات، وأن كتاباته، بغناها وبقدرتها على البث المتجدد، سوف تظل تكتنز بداخلها تلك «الغواية» الجاذبة التى تستثير العديد، والمزيد، من محاولات الفهم والتفسير، محاولة تستكمل أخرى، ومحاولة بعد أخرى». وما الذى تثيره بداخلك ذكرى رحيل نجيب محفوظ عندما تمر كل عام؟ تثير الكثير فى الحقيقة، وبعض هذا الكثير موصول بالقيم النبيلة الذى أرساها «الأستاذ» نجيب محفوظ فى كتاباته وفى حياته وممارساته، وبعضه متصل بذكريات جميلة عشتها معه.. وبعضه متعلق باستدعاء مشاهد كثيرة مقترنة به، وتفاصيل صغيرة أصبحت كبيرة بعد رحيله.. وبعضه قائم على تخيلات أتخيلها فى حوار داخلى، لأسئلة وإجابات: «ماذا لو كان (الأستاذ) لا يزال بيننا؟».. كيف كان يتصور الحل لمشكلة «سد النهضة»؟.. ترى ماذا كيف تكون نصائحه للتعامل الأمثل مع هذه الجائحة؟ (جائحة فيروس كورونا المستجد التى تضرب العالم).. ذكرى الأستاذ تثير الكثير فى الحقيقة، عندى وعند كل من حظوا بنعمة الاقتراب منه. ما الذى تود إضافته إلى هذا الحوار؟ لا أريد أن أضيف شيئا.. شكرا لك.. ولكل من يتذكرون وتتذكرن هذه الذكرى لمبدع عظيم ونبيل.