توق إلى التحرر والانطلاق وإحساس عميق بالعجز، ربما تولد لدى البشر منذ الأزل القديم، عندما نظروا إلى الطيور المحلقة وقدرتها على الفرار، وربما كان ذلك دافعا أصيلا وعميقا لهم لتطوير تقنيات للطيران بمرور الزمن. لطالما حاول بشر إلصاق أنفسهم بما اعتقدوا أنه قادر على أن يكون أجنحة، إلا أن الفشل كان حليفهم، كان المثال الأشهر على محاولات الطيران بجناحين لتجربة العالم الأندلسي عباس بن فرناس (810-887م)، خلال الحكم الأموي، وقد ألهمت هذه التجربة بالرغم من فشلها الكثيرين ممن حلموا بالتحليق عاليا. محاولات لا تنتقص من قيمة وذكاء فاعليها، بقدر ما كانت البوصلة فقط في الاتجاه الخطأ، وربما يرجع ذلك إلى أن معجزة الإنسان الكبرى لم تكن في الجسد وقوته بل في العقل، لذا عندما اتجهت البوصلة إليه صار باستطاعتنا الطيران. - رغبة متقدة على الرغم مما وصلنا إليه اليوم من تقنيات طيران معقدة، إلا أن الرغبة الداخلية في التحرر لا تزال متقدة، فما أن دخل العالم في تداعيات جائحة فيروس كورونا (كوفيد 19)، ومع بدء عمليات الإغلاق العام والتباعد الاجتماعي التي اجتاحت العالم وإن تفاوتت صرامتها بين الدول، شهد العالم بزوغا للكثير من الأنشطة الترفيهية والتي كان بعضها قد تلاشى في مواجهة بريق التكنولوجيا، وفي مصر كان من ضمن تلك الأنشطة الترفيهية إطلاق الطائرات الورقية. خلال السنوات الماضية شهد موسم إطلاق الطائرات الورقية في مصر ضعفا، حتى ظن البعض اندثارها، وهو ضعف عزاه البعض إلى الطفرة التكنولوجية في أجهزة الهواتف وانتشارها والانترنت، والتي ربما أزاحت تلك الهواية عن نظر الكثيرين من محبيها، أما اليوم وبفضل وباء كورونا والإغلاق تشهد سماء المحافظات المصرية ازدحاما يوميا بها، العودة المثيرة للانتباه والإعجاب، ربما كانت بنظرة ساخرة تعويضا عن غياب حركة الطيران خلال الشهور الماضية. يختلف هذا النشاط الترفيهي عن أي نشاط آخر قد حدث في زمن كورونا، فربما كان في إطلاق الطائرات الورقية بهذه الكثافة رمزية ودلالة على رغبة في قول "نحن هنا". - عودة وتطور بعدما كان يصنعها المراهقين لأنفسهم والهواة بات العديد من الشباب يعتمد على صناعة الطائرة الورقية وبيعها كمصدر دخل إضافي، وهو ما أعكس تطورا في أشكالها وأحجامها وما يزينها من صور، وبطبيعة الحال المواد المصنوعة منها، فعادة ما كانت تصنع من البوص أو الغاب البلدي، ولم يكن ليتخطي قطرها المتر، لكنها تطورت خلال السنوات الماضية إلى أحجام كبيرة ما كان ليصنعها في السابق إلا المهووسين بها، كما أستبدل الغاب بالخشب، وبالرغم من أن مسمى "الطائرة الورقية" يأتي من تغليفها والذي يلعب دور الشراع إلا أنه يتطور بحسب تطور المواد المتاحة في كل بيئة، فبعدما كان ورقيا ويلصق بالغراء سريع الجفاف وهي الطريقة المفضلة لهواة اللعبة القدامى في مصر صار بلاستكيا، لكن ما لم يتغير بالتأكيد هو هندستها وضرورة ضبط ميزانها حتى لا تجنح يمينا أو يسارا. - البداية والانتصار الأول هناك أسطورة تقول أن ولادة الطائرة الورقية، حدثت عندما ربط مزارع صيني خيط بقبعته لمنعها من الطيران بعيدًا. كانت الطائرة الورقية من أوائل التقنيات الناجحة في محاولات الطيران، ورغم عدم معرفتنا متى تم اختراعها ولا المنشأ الدقيق لها، إلا أن أقدم الروايات المعروفة عنها أنها قد طارت في أجواء الصين وأرخبيل الملايو قبل نحو اثنين إلى ثلاثة آلاف سنة، بحسب أقدم الروايات المكتوبة عن مآثر وبطولات الجنرال الصيني هان- سين، من سلالة هان والتي حكمت الصين في الفترة من (206 قبل الميلاد - 220 م). فخلال إحدى حملاته العسكرية، قيل إن الجنرال أطلق طائرة ورقية فوق أسوار مدينة أو بلدة محاصرة لحساب المسافة إلى نقطة معينة والتي سيضطر جيشه إلى أن يقطعها في توقيت معين لأجل مفاجأة العدو؛ ومع علمه بقياس المسافة الدقيق بفضل الطائرة، فاجأت قواته عدوهم وانتصرت. كان هذا الانتصار بالطائرة الورقية بمثابة بداية لأسرة هان الغربية التي كانت ستحكم الإمبراطورية الصينية على مدى 200 عام قادمة. وربما يكون أول انتصار قادته طائرة. - مواد مثالية لصقور ورقية ما عزز من افتراض أن أولى الطائرات والتي عرفت حينها باسم "الصقور الورقية"، قد صنعت في الصين، هو توافر مواد مثالية لبنائها بسهولة هناك مثل أقمشة الحرير للشراع، والحرير الناعم عالي الشد لخيط الطيران، إضافة إلى الخيزران المرن لإطار قوي وخفيف الوزن. كان التصميم المبكر للطائرات الورقية في الصين مستطيلا مسطحا وغير منحن، ولاحقا ولحفظ توازنها في الهواء ادمج لها ذيل نصف حلقي، مع تزيينها بزخارف وعناصر وشخصيات من الأساطير الشعبية. كما جهز بعضها بأوتار وصفارات لإصدار نغمات موسيقية في أثناء الطيران، وفقا للموسوعة البريطانية "بريتانيكا". - انتشار من الصين وعلى طول الطرق التجارية إلى كوريا والهندواليابان وصولا إلى الجزيرة العربية وشمال إفريقيا انتشرت شعبية الطائرات الورقية؛ حيث طورت كل منطقة تقاليد خاصة وتطبيقات فريدة من نوعها في استخدام الطائرة الورقية. في اليابان ظهرت الطائرات الورقية للمرة الأولى خلال فترة هييآن (794-1185)، وقيل إنها جلبت إلى اليابان من قبل الرهبان البوذيين في القرن السابع، وعرفت بنفس اسمها في الصين، في تلك الفترة غالبا ما كانت تستخدم "صقور الورق" في توصيل الرسائل، وقيل إنها استخدمت لنقل الرسائل السرية عبر الخنادق إلى أبراج القلاع. وعلي مدار ألف عام خضعت الطائرة الورقية في اليابان لتطور كبير وتم ابتكار أنواعا عديدة منها، بفعل توافر الخامات الجيدة من الورق والخيزران وخيوط القنب، ولكنها حتى ذلك الوقت كان اللعب بها حكرا على النبلاء فقط بفعل التكلفة العالية للورق. لكنها دخلت عصرها الذهبي خلال فترة إيدو (1603-1868)، وانتشرت تدريجيًا بين عامة الناس، تزامنا مع تطور فن الطباعة الخشبية ما أدى إلى إنتاجها بصور ملونة، فاستخدمت خلال المراسم ولاحتفالات لدرء الأرواح الشريرة، والتضرع إلى الآلهة أملا في حصاد مثمر. أما في الهند فإن أقدام الدلائل على تحليق الطائرات الورقية الهندية يظهر في لوحات "المنمنمات" من فترة المغول (1483-1530)، كانت سمتها الغالبة هي لعاشق شاب يسقط بمهارة فائقة طائرة ورقية تحمل رسالة على سطح سقف منزل بينما تنتظره حبيبته العذراء الجميلة المحتجزة في عزلة صارمة عن العالم الخارجي. - معارك شرسة مع الانتشار الواسع للطائرات الورقية في جميع أنحاء آسيا، أصبحت المعارك والقتال بالطائرات الورقية وسيلة ترفيهية شائعة، كان للطائرات تصميم واحد قديم برغم الاختلافات في الهندواليابان، كانت صغيرة ومسطحة وتأخذ شكل الماسة مع دعامة مدببة من الخيزران وقوس متوازن بدون ذيول من شأنها أن تعيق خفة الحركة. وعلى الرغم من اختلاف قواعد القتال بالطائرات الورقية من بلد إلى آخر، كانت القاعدة الأساسية هي المناورة لقطع خيط طائرة الخصم. في الرواية الشهيرة "عدَّاء الطائرة الورقية" يؤكد الكاتب والطبيب الأفغاني الأمريكي، خالد حسيني، على شراسة تلك المسابقات ويقول على لسان بطل روايته "أمير": "مسابقة الطائرات الورقية كانت تقليدا شتويا في أفغانستان، تبدأ مبكرا في الصباح ولا تنتهي حتى تحلق الطائرة الرابحة وحدها في السماء... كانت القواعد بسيطة، لا قواعد!. اجعل طائرتك تحلق، اقطع حبل طائرات الخصوم، وحظا سعيدا... تبدأ المتعة الحقيقية عندما يقطع حبل طائرة، ويأتي دور مطاردي الطائرات... مرة تسلق أحدهم شجرة سقطت عليها طائرة، وانكسر الجذع وسقط وكسر ظهره ولم يمش ثانية، ولكنة سقط والطائرة بين يديه، عندما يضع أحد مطاردي الطائرات يده على طائرة فلا يستطيع أحد أخذها منه". وعلى الرغم من وصول قصص الطائرات الورقية إلى أوروبا نهاية القرن الثالث عشر عبر الرحالة والمستكشف الايطالي ماركو بولو الذي قيل إنه احضر واحدة منها معه إلى أوروبا مطلع القرن الثالث عشر بعد رحلاته على طول طريق الحرير، إلا أن الطائرات الورقية لم تحلق في سماء أوروبا إلا في وقت متأخر مقارنة بآسيا، ولم تظهر إلا في القرن السابع عشر مطبوعة في هولندا وانجلترا تزامنا مع اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح البحري وبداية التجارة مع جزر الهندالشرقية. وخلال القرن الثامن عشر، كانت الطائرات الورقية عديمة أو قصيرة الذيل لا تزال غير معروفة هناك، لكن الطائرات المسطحة ذات الذيل والتي تأخذ شكل القوس أو حبة الكمثرى كانت قد أصبحت هوائية شائعة خاصة بين الأطفال. - تطبيقات علمية استخدامات الطائرات الورقية البعيدة عن الترفية كانت كثيرة، ابسط استخدامها كان في صيد الأسماك من قبل سكان جزر المحيط الهادئ، وهي طريقة لا تزال تستخدم إلى اليوم. لقد كان الهدف الأول من صناعة الطائرة الورقية عسكريا، وكانت ذات أحجام كبيرة فمنذ عصرها الأول استخدمت كرافعة كانت قوية بما يكفي لرفع رجل بحسب ما تشير الموسوعة البريطانية "بريتانيكا". في عام 1749 شهدت أوروبا تسجيل أول تطبيق علمي لطائرة ورقية كجهاز للأرصاد الجوية، وذلك عندما استخدم الجراح والفلكي الاسكتلندي ألكسندر ويلسون، قطارا من طائرات ورقية تطير في الهواء على ارتفاعات مختلفة لقياس تغيرات درجات الحرارة. تبع ذلك بثلاث سنوات وتحديدا في يونيو 1752، قيام المخترع الأمريكي وأحد أبرزِ الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، بنجامين فرانكلين، بمساعدة ابنه، بأشهر تجارب الطائرات الورقية، وفيها رفعت طائرة ورقية مسطحة مزودة بسلك مدبب وشراع "غلاف" من الحرير خلال عاصفة رعدية. تجنب فرانكلين وابنه الصعق بالكهرباء عندما تفرغت الشحنة في أحد المفاتيح المعدنية التي وضعها فرانكلين على الخيط، ليوحي له ذلك باختراع قضيب البرق أو مانع الصواعق والتي كانت تتسبب في حرق المنازل، كما برهن أيضا أن البرق هو ظاهرة طبيعية تدعى الكهرباء وليس غضبا من السماء. كانت المساهمة التكنولوجية الكبرى للطائرة الورقية، في تطوير الطائرة الحديثة، حيث استخدم العالم البريطاني السير جورج كايلي أحد أنواعها وكذا استيعابه لقوى الدفع والرفع لصنع آلة للطيران، نتج عنها عام 1835، القيام بأول رحلة مسجلة لإنسان في طائرة شراعية. لم يكن كايلي وحدة هو من نجح في استخدام الطائرات الورقية في الطيران فقد كان هناك محاولات لروس وألمان أيضا. برغم ذلك كان هناك دائما في كل تلك المحاولات مكونا مفقودا ألا وهو السيطرة وهو ما عمل عليه الأخوان أورفيل وويلبر رايت. مع اختراع الطائرة، عادت الطائرة الورقية مرة أخرى إلى هواية المهووسين بالتحليق وللمراهقين والأطفال، بعدما ساهمت ربما الصدفة في ولادتها انتهاء إلى تطورها لأداة علمية ساهمت في تطور حياتنا للأفضل. المصادر: https://www.britannica.com/topic/kite-aeronautics https://kite.org/education/history-of-kites/