بعد أكثر من أربعين عاما.. الهيئة المصرية العامة للكتاب تعود لبيروت، كان مفاجئا غياب الأدباء والمثقفين اللبنانيين وكذلك الصحافة اللبنانية عن حفل افتتاح فرع الهيئة المصرية العامة للكتاب فى بيروت. هذا ما نشرته جريدة إندبندنت عربية Independent Arabia منذ أيام عندما افتتحت الهيئة فى قلب منطقة الحمراء الشهيرة، بحضور وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبدالدايم، وسفير مصر لدى لبنان نزيه النجارى، ووزير الثقافة اللبنانى محمد داود، وهيثم الحاج رئيس الهيئة، مع وفد مصرى من الهيئة وبعض الإعلاميين المصريين الذين لبوا دعوة الهيئة لتغطية حفل الافتتاح مع وصلة فنية شعبية مصرية أدتها فرقة فولكلورية أمام الفرع فى شارع الصيدانى. ونقلا عن الصحيفة بدا الحضور اللبنانى ضئيلا جدا ومقتصرا على وزير الثقافة، ولم يحضر من الناشرين اللبنانيين سوى نبيل مروة صاحب دار (الانتشار العربى) الذى تلَّقى دعوة عبر «الواتساب»، أما الصحافة الثقافية فقد غابت تماما مثلها مثل اتحاد الكتاب اللبنانيين ونقابة الناشرين وسائر النوادى والهيئات الثقافية اللبنانية الناشطة فى حقل النشر والكتاب، وحضر مصورون لبعض قنوات تليفزونية لبنانية اكتفت ببث الخبر سريعا فى سياق نشرات الأخبار، ولم ينشر أى خبر أو مقال فى الصحافة اللبنانية المكتوبة أو الإلكترونية التى تتكاثر مواقعها. هذا الغياب الفادح طرح الكثير من التساؤلات، خصوصا أن الحدث مهم ويعنى لبنانوبيروت التى لا تزال تمثل أحد مراكز النشر والطباعة عربيا. هذا الحدث يذكرنى بأيامى فى بيروت عندما سافرت إليها عام 1967 كمستشار فنى للهيئة المصرية العامة لفرعها فى بيروت لتعيد ملامح من ذاكرة بيروت الثقافية. بيروت المنطقة اللوجيستية المهمة للثقافة والفنون والنشر التى قضيت فيها أجمل سنوات العمر. كان انتقالى إلى بيروت مفاجئا عندما قدمنى الصديق والزميل مفيد فوزى لإسلام شلبى خريج الجامعة الأمريكيةببيروت، والذى عمل فى النشر مع دور النشر اللبنانية، واختير ليكون مديرا لمكتب الهيئة المصرية العامة للكتاب ببيروت، وقدمنى بالتالى للدكتور محمود الشنيطى، رئيس الهيئة فى حينها الذى انتدبنى للعمل مستشارا فنيا لمكتب الهيئة المصرية للكتاب، ومن ضمن مهام عملى تأسيس مطبعة لها فى بيروت بغرض طباعة ونشر كتب المؤلفين والكتاب المصريين والسيطرة على سوق تزوير الأعمال الأدبية المصرية مثل أعمال كُتابنا محمود عباس العقاد، ود. طه حسين، ونجيب محفوظ، وغيرهم، حتى مجموعة إصدارات (كتابى) لحلمى مراد لم تسلم من التزوير. كانت دار (الشروق) المصرية سباقة بافتتاح مكتب لها فى بيروت، لتعيد طباعة أعمالها وأعمال قدمتها دور مصرية أخرى لكن فى شكل أرقى وشكل جمالى أفضل، فلم تكن مصر بعد النكسة لديها القدرة على منافسة بيروت طباعيا وجماليا، ربما لتوافر أنواع من المطابع فى بيروت لا نظير لها فى مصر، بالإضافة إلى عدم وجود رقابة فى بيروت تمنع نشر أى كتاب مهما كان توجهه السياسى أو الثقافى أو الدينى. محمد المعلم كان رائد النشر العربى ومرت على وفاته 24 عاما وهو تخرج فى كلية العلوم، واختاره العالم الكبير مصطفى مشرفة ليصبح معيدا بها تحت إشرافه، لكن عالم الطباعة جذب الكيميائى الشاب بعيدا عن مجاله الأصلى فاشترك فى مشروع صغير لإنتاج أحبار الطباعة ثم تحول إلى مجال النشر ليصبح لاحقا عميدا للنشر فى العالم العربى. وخاض غمار العمل الصحفى فعمل بجريدة (البلاغ) ثم (الأساس) ثم ترأس تحرير مجلة الإذاعة المصرية، وعمل بالإذاعة المصرية رئيسا لقسم الشئون الخارجية والشئون السياسية مسئولا عن كل البرامج السياسية وكان نواة لإذاعة صوت العرب ثم مؤسسا (لدار القلم) عام 1959. ثم أنشأ (دار الشروق) فى بيروت عام 1968 يساعده نجله المهندس إبراهيم المعلم. كانت معرفتى بالأستاذ كمصمم فنى لبعض أغلفة الكتب التى يقوم بنشرها إلى جوار أستاذ التصميم الطباعى د. عبدالسلام الشريف أستاذى بكلية الفنون الجميلة وزميلى الفنان مصطفى حسين اللذين يحضران لمدة شهر كل عام يقضيان وقتهما بجبل لبنان ويصممان العديد من إصدارات (دار الشروق). كانت خطة الدكتور محمود الشنيطى محاولة أيضا لفتح أفق جديد لتوزيع الكتاب المصرى ساعيا إلى التعاون والاستفادة من خبراتهم الطباعية فى بيروت كمركز مؤثر فى صناعة الكتاب العربى، ولأن الإقبال على كتب الهيئة ضعيف لأن نوعية الورق التى تستخدمه الهيئة وشكل الكتاب وإخراجه عناصر تعد ضعيفة مقارنة بما يقوم به الناشرون اللبنانيون، ويلفت النظر أن السوق اللبنانية هى سوق موزعة للكتاب أكثر منها سوقا متلقية له. تزوير الكتب بدأ فى السبعينيات من القرن الماضى فى بيروت التى تضم أكبر عدد من المطابع على أن يتم ترويج الكتب المزورة فى القاهرة وكان من أشهر الكتب المزورة فى حينها رواية (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ التى زورتها دار الآداب اللبنانية لسنوات عديدة دون أن يحصل ناشره الأصلى على مليم واحد، وانتشرت وقتها المقولة (أن القاهرة تكتب وبيروت تطبع). الدكتورة سهير القلماوى كانت صاحبة الفضل الأول فى حل مشاكل الناشرين وتزوير الكتاب العربى فى بيروت فأقامت أول معرض للكتاب فى المنطقة العربية عام 1969 ببيروت وواكب المعرض ندوة لمناقشة (دور الكتاب العربى فى المجال العربى والدولى). وقد كانت الدكتورة سهير القلماوى رئيسة للهيئة قبل تولى الشنيطى رئاستها فى الفترة من عام 1972 إلى عام 1979 بعد أن كان وكيلا لوزارة الثقافة لشئون دار الكتب والوثائق القومية، وامتد عطاؤه الفكرى نحو خمسين عاما، وكان صاحب فكرة الفهرس المئوى لدار الكتب ورئيس المؤتمر الدولى لليونسكو عن نظم المعلومات الوطنى، وهو رائد المدرسة العربية فى المكتبات والمعلومات وعميد المكتبيين، حصل على رسالة الدكتوراه فى المكتبات من جامعة شيكاغو، وله العديد من المؤلفات وأشرف على العديد من رسائل الدكتوراه وناقش العديد من الأطروحات. خلال هذه المرحلة كنت أسافر للقاهرة للحصول على نصوص الأعمال الأدبية للكاتب الكبير توفيق الحكيم، كانت لقاءاتى معه فى مكتبه بجريدة الأهرام، كان الكاتب الكبير حريصا على ماله، واتهم بالبخل رغم أن راتبه فى الأهرام تعدى ألفى جنيه، وهو رقم كبير فى حينه، كان يخبئ ماله فى حافظة نظارته الخاصة بحجة أن السارق سيسرق المحفظة وسيجدها فارغة، وفقا لما قاله الحكيم فى أحد حواراته السابقة. وكان هناك موقف للحكيم مع أم كلثوم عندما كانت نقيبا للموسيقيين، طلبت منه مبلغا للتبرع، فأعطاها المحفظة وقال لها (خديها كلها بالفلوس اللى فيها) لكنها لم تجد فيها شيئا فأخبرها أنه يضعها فى حافظة النظارة خوفا من السرقة. وفى أحد مقالات الصحفى ناصر النشاشيبى فى جريدة الشرق الأوسط كتب عن حياته فى مصر لسبعة عشر عاما وانطباعاته عن أدبائها أن العقاد يكتب للمثقفين، وتوفيق الحكيم يكتب للراتب، وأنيس منصور يكتب للفلاسفة، وكامل الشناوى يكتب للحب. قال النشاشيبى (كان توفيق الحكيم يؤكد بأن توفر المال فى حياته يجعله سعيدا وهادئا وسالما، ولكن إذا غاب هذا المال تحول توفيق الحكيم إلى ذئب كاسر. ومن هنا أطلق عبارته المشهورة التى تقول (إذا رأيت الوحوش الكاسرة فى الغاب تنطلق حرة يرفرف عليها السلام، فاعلم أن بطونها مملوءة بالطعام).. لهذا كان الطعام مرتبطا بالحرية والسلام. عدت من زيارتى الأولى مكسور الجناح فلم يوافق الكاتب الكبير أن يسلمنى النص قبل الحصول على حقوقه، وتكررت زيارتى لمكتبه فى الأهرام للحصول على النصوص فى انتظار أن يحول إسلام شلبى حقوق الكاتب الكبير وكنت أستمتع خلال هذا الزيارات بمجالسة الفنان التشكيلى صلاح طاهر الذى كان يشارك توفيق الحكيم مكتبه الذى حمل رقم 606 وكان أكبر مكاتب الدور السادس بمبنى الأهرام بشارع الجلاء، فالعلاقة بينى وبين الكاتب الكبير لا تتعدى علاقة مندوب النشر بالمؤلف سلم واستلم، وتنفست الصعداء عندما تسلمت بعد أيام نصوص كتب الكاتب الكبير بعد أن تسلَّم حقوقه بالكامل فى مكتبه بجريدة الأهرام. بدأ نشاطى فى فرع الهيئة العامة للكتاب فى بيروت بإعادة تصميم العديد من الكتب التى سبق أن قامت الهيئة بإصدارها فى مصر بشكل جديد والاهتمام بالصفحات الداخلية للكتاب من صفحاته الأولى إلى تصميم صفحات الفواصل بين فصوله وتصميم الغلاف والإشراف على طباعته فى المطابع الخاصة فى لبنان، والبحث فى نفس الوقت عن مقر جديد لمطابع الهيئة واستقر الاختيار على مساحة ألف متر مجهزة بالمنطقة الصناعية بالمكس ثم التفاوض مع وكلاء الماكينات على التعاقد لتوريد الأجهزة المطلوبة وماكينات الطباعة فأتفقت مع أ. جوزيف عبود وكيل ماكينات الصف (مونوتيب) وإحسان القرا وكيل ماكينات (رولاند) الألمانية للطباعة على توريد المطلوب لتأسيس أحدث مطبعة فى بيروت ووضعت على مكتب إسلام شلبى ملفا كاملا بالدراسات التى سبقت التفاوض والبحث مع أفضل عروض الأسعار التى أذهلت د. محمود الشنيطى فى وقتها لنجاحى فى الحصول على أسعار لم تنجح الهيئة بمصر فى تاريخها مع مورديها أن تنافس هذه الأسعار. حمل إسلام شلبى الملف إلى القاهرة ليعرضه على رئيس الهيئة ونجح فى الحصول على موافقته، وانتظرنا فى بيروت مع الوكلاء وإعطاء مكتب الهيئة تحويلات مقدم شراء الماكينات من القاهرة. انتظرت وطال الانتظار وجاءت الأخبار بما لا نشتهى، فقد اقنع د. سيد أبوالنجا رئيس مجلس إدارة دار المعارف والأهرام والمشرف على إدارتى مؤسسة روز اليوسف ومؤسسة التحرير والذى رأس بعدها بسنوات المجلس الأعلى للثقافة عام 1980 وكانت المنافسة المهنية بينه وبين د. الشنيطى على أشدها أقنعه بعدم جدوى المنافسة خارج مصر ومن الأفضل للهيئة الاستثمار فى مصر وخصص له قطعة أرض بشارع فيصل على أن تكون منطقة حرة يفعل فيها الدكتور الشنيطى ما يشاء، وكأنه فى بيروت، وتعامل بقوانين المناطق الحرة، وتبدد الحلم ولم يحقق د. الشنيطى أمنياته بأن تكون الهيئة المصرية العامة للكتاب مركز إشعاع جديدا للثقافة العربية عبر مؤلفات وإبداعات للكتاب المصريين. وأُغلق المكتب وخرجت الهيئة من بيروت قبل أحداث الحرب اللبنانية فى منتصف السبعينيات.