على الرغم من أن عبارة (القاهرة تكتب ، وبيروت تطبع ، وبغداد تقرأ) تلخص شغف العراقيين ، وولعهم بالكتاب والقراءة ، وتشير إلى عراقتهم في الثقافة ، فإنها تضمر في الوقت نفسه مدلولاً سلبياً يظهرهم شعباً مستهلكاً فقط للإنتاج الثقافي والمعرفي والعلمي مثل استهلاكهم لكثير من البضائع والصناعات والمواد الغذائية التي لا تنتج في بلادهم ، في حين أنها تظهًر الأخوة المصريين بوصفهم منتجين للثقافة والمعرفة ، والأخوة اللبنانيين منتجين وشاطرين في صناعة النشر وطباعة الكتب. وإذا سلمنا بوجود عشق لامتناهْ بين بيروت والحرف ، وأن قطاع النشر في لبنان هو أعرق القطعات الاقتصادية اللبنانية وأهمها ، وأن دور النشر اللبنانية هي بالفعل أكثر دور النشر العربية إنتاجاً ، وأفضلها جودةً ، وأنجحها تسويقاً ، إلى الحد الذي جعل لبنان يوصف ، من هذه الناحية ، بأنه (مطبعة العرب ودار نشرهم) ، وأن شهرة الكثيرين من الكتاب العرب قد انطلقت من بيروت ، وبخاصة في زمانها الخصب السابق يوم كانت أحد المراكز الأساسية في الثقافة العربية ، إذا سلمنا بكل ذلك ، فكيف نسلم بأن العراقيين لا يكتبون ، بل يقرأون فقط ما يكتبه أبناء الكنانة من روايات وأشعار وقصص ومسرحيات ونقد أدبي وعلوم انسانية وطبيعية وغير ذلك ، وكأن عالم الثقافة والمعرفة والإبداع العربي حكر على القاهرة وليس فيه سوى طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والعقاد وشوقي وصلاح عبد الصبور وعلي الراعي ، وغيرهم ، على الرغم من تبجيلنا لهم ، (ادّعت نشرة صادرة عن اتحاد منتجي برامج الكومبيوتر في نيسان عام 2003 أن الكتاب المصري يحظى بإقبال كبير في العالم العربي نظراً لأن أغلب المحتوى الثقافي العربي يأتي من مصر)، ، وكأن بغداد فضاء خال من الجواهري والسياب وغائب طعمة فرمان ومصطفى جواد والبياتي ويوسف العاني وعلي جواد الطاهر ونازك الملائكة وشيركو بيكه س ولميعة عباس عمارة ، وعشرات غيرهم ممن قرأت لهم القاهرة وعواصم العرب الأخرى كتباً بعضها منشور في بيروت وبعضها الآخر في بغداد. ولكن ثمة حقيقة قد لا تعرفها لا القاهرة ولا بيروت هي أن ليس كل ما يكتبه المؤلف العراقي يجد طريقه إلى النشر ، فلم تشهد حركة تأليف عربية غبناً خلال أكثر من ثلاثة عقود مضت مثلما شهدته حركة التأليف في العراق ، ولو جرى إحصاء للمخطوطات المركونة في البيوت والمكتبات الشخصية العراقية ، وهي في مختلف حقول المعرفة والأدب والعلم ، لاكتشفت آلاف منها لم يستطع مؤلفوها نشرها لأسباب كثيرة في مقدمتها غياب حرية التعبير خلال العقود الماضية ، وشحة حركة النشر ، ومحدودية دور النشر الأهلية ، وضعف علاقة المؤلفين بدور النشر العربية. ولا أقول هذا من باب التكهن ، أو المبالغة في تصوير حجم حركة التأليف في العراق ، بل من باب الاطلاع والتجربة ، فما دخلت يوماً بيتاً لأحد الكتاب أو المثقفين في بغداد أو البصرة أو الموصل أو السليمانية أو الناصرية إلاّ وجدت مخطوطةً أو بضع مخطوطات يغطيها الغبار بانتظار اليوم الذي ترسل فيه إلى المطبعة. وأعرف بعض الأحوال التي وصل فيها يأس كتاب معينين إلى درجة حرق مخطوطاتهم ، أو تحويل أوراقها إلى أكياس أسوة بأرشيفهم من المجلات والصحف ليبيعها أولادهم إلى أصحاب الدكاكين بسبب عوزهم المادي خلال سني الحصار العجاف، في حين لجأ بعض الكتاب الشباب ، وخاصة الشعراء ، إلى طريقة متقشفة في نشر دواوينهم على نطاق محدود داخل العراق تتمثل بطباعة قصائدهم بالكومبيوتر ، ثم تصوير النسخة المسحوبة وتجميعها وتجليدها لتتكون لديهم مائة نسخة أو أكثر أو أقل بهدف إهدائها إلى من يرغبون ، وقد وصلني قبل سنوات إلى عمان أكثر من كتاب منشور بهذه الطريقة ، فكنت أشعر بالخجل لأنني وأغلب الكتاب العراقيين في الخارج ننشر كتبنا في دور نشر عربية معروفة بحلة بهية ، كما يقولون ، ونتباهى بإرسال نسخ منها كهدايا إلى أصدقائنا المحرومين في الداخل. لقد تفاقمت مشكلة الكتاب ، نشراً واستيراداً ، في العراق بعد حرب الخليج عام 1991 ، ليس بسبب الحصار فقط ، بل بسبب السياسة الثقافية أيضاً ، فقد تقلصت إصدارات دار الشؤون الثقافية العامة ، ودار المأمون ، ودار الحرية ، والجامعات ، ومراكز الأبحاث ، وهي كلها مؤسسات حكومية ، إلى الحدود الدنيا ، وتوقفت أغلب دور النشر الأهلية عن النشر ، وتراجع استيراد الكتب تدريجياً حتى وصل إلى الصفر بعد أن كان العراق يستورد نصف ما تنتجه دور النشر العربية ، وخاصة اللبنانية والأردنية ، كما تقول مصادر في اتحاد الناشرين العرب ، بل أن أحد الكتاب اللبنانين يشير إلى أن لبنان كان قد اكتسب صفة ناشر العرب ومطبعة العرب بفضل السياسات العامة الداعمة للكتاب التي كانت سائدة في بعض البلدان العربية ، في مقدمتها العراق ، ونتيجةً لتوقف تدفق الكتب إلى السوق العراقي ، الذي أدى إلى إفلاس بعض دور النشر العربية ، فقد انتشرت في بغداد والمحافظات ما تعرف ب (ثقافة الاستنساخ) خلال العقد الماضي ، فما أن يصل إليها كتاب حديث من الخارج حتى تتلقفه أجهزة الاستنساخ لتفرخ منه آلاف النسخ التي يقبل على اقتنائها القراء وطلبة العلم في بسطات شارع المتنبي الذي تشبه عملية بيع الكتب وتجمع المثقفين فيه أيام الجمعة ما يحدث في منطقة الأزبكية في القاهرة. ولاشك في أن سوقاً للكتاب كسوق العراق ، وفضاءً للتأليف والإبداع كفضاء العراق ، يحتاجان ، إذا ما تخلص البلد من النظام الطائفي البغيض الحالي ، إلى نهضة تعوّض عن عقود من الحرمان والممنوعات ، نهضة تستعيد فيها دور النشر القديمة حيويتها ، وتطور آلية صناعة الكتاب ، وتستثمر أحدث تقنيات تصميم الكتاب وإخراجه وطباعته ، وتسعى إلى توزيعه في جميع أنحاء العالم العربي. وتتحمل وزارة الثقافة العراقية المسؤولية الثقافية والأخلاقية الأولى في دعم هذه النهضة وتشجيعها ، لأن صورة البلدان العريقة والمتحضرة تقاس اليوم بما تنتجه من علم وثقافة رفيعة وغزيرة تغطي بها حاجة مواطنيها ، وتفيض في الوقت نفسه بإشعاعها على غيرها من البلدان. ناقد عراقي مقيم في الأردن ** منشور بجريدة "الدستور" الأردنية بتاريخ 29 سبتمبر 2007