صناعة الكتاب واحدة من أقدم الصناعات التى عرفتها مصر؛ حيث يعود تاريخ أول كتاب إلى العصور الفرعونية، فقد ألّف المصريون القدماء «كتاب الموتى»، الذى يعد أشهر كتاب دينى فى العالم القديم، وتنوعت موضوعاته ما بين العلوم الاجتماعية، والإنسانيات، والعلوم الطبيعية، والتطبيقية، كما شمل مجالات الفنون أيضًا. وكان ورق البردى وسيلة القدماء لنقل أفكارهم وتدوينها. عرفت مصر الطباعة بشكلها التقليدى مع مجيء الحملة الفرنسية فى 1798، عندما أحضر نابليون بونابرت قائد الحملة مطبعة باللغة العربية كى تحمل رسائله إليهم، ولكن معرفة المصريين بآلات الطباعة وأدواتها- فى هذه المرحلة لم تتجاوز الورق الملموس بين أيديهم. فيما عرفت مصر أول مطبعة فى عام 1820 على يد محمد على مؤسس الدولة المصرية الحديثة، والذى كان يولى اهتمامًا كبيرًا بالتعليم والفنون، وتعتبر مطبعة بولاق والتى عرفت بعد ذلك باسم «المطابع الأميرية» من أقدم المطابع فى مصر. * ثورة يوليو وصناعة الكتاب تعتبر ثورة يوليو 1952، نقطة تحول فى تاريخ صناعة الكتاب؛ حيث ارتفع عدد العناوين من 500 عنوان سنويًا إلى 10 آلاف نسخة، ولذا تعتبر الثورة بمثابة نقطة الانطلاق وتحول لهذه الصناعة المهمة؛ حيث تختلف أهميتها عن غيرها من الصناعات فى قوة واستمرارية تأثيرها، فالكتاب هو الوسيلة الأولى للثقافة والتعليم، والوعاء الجامع والشامل لكل مكونات الثقافة؛ لأنه يحمل فى مكنونه فكر وإبداع الإنسان. أسهمت ثورة يوليو فى زيادة عدد الكتب المطبوعة، وأصبحت مصر تصدر ثلثى الكتب المنشورة فى الوطن العربى حتى نهاية الستينيات، ثم انخفض العدد إلى النصف، وصارت الآن تنتج نحو ثلث ما ينتج فى العالم العربي. * عبدالناصر والثقافة أولى نظام عبدالناصر اهتماما كبيرا لكافة المجالات، وكانت الثقافة على رأس هذه المجالات، فعرفت مصر نوادى ومراكز الثقافة الجماهيرية، والتى باتت تعرف حاليًا باسم «قصور الثقافة»، وتمتد فروعها فى جميع أنحاء الجمهورية وليس فى المدن فقط، فلم تعد الثقافة حكرًا على العاصمة، فامتدت بل كان لهذه القصور بوصولها إلى القرى دور مهم فى نشر الثقافة الاشتراكية وأفكار ثورة يوليو. وكان أحد النتائج المباشرة لثورة يوليو تدشين اتحاد الناشرين فى السادس من يونيو عام 1965، بقرار من الرئيس جمال عبدالناصر، وحسب نصوص القانون: «ينشأ اتحاد للناشرين باسم اتحاد الناشرين المصريين بالجمهورية العربية المتحدة، يكون له الشخصية الاعتبارية ومقره مدينة القاهرة، وتكون لها فروع فى المحافظات». * أول وسائل طباعة الكتاب كانت المؤسسات الصحفية هى الطريق الوحيد لإصدار الكتاب فى القرن التاسع عشر، وتعتبر مؤسسة «الأهرام» من أقدم المؤسسات الصحفية التى تقوم بطباعة الكتب إلى جانب إصداراتها الصحفية؛ حيث تم تدشينها فى عام 1876 على يد سليم وبشارة تقلا. تبع هذه المؤسسة تدشين عدد من المؤسسات، ومنها دار الهلال فى 1892 على يد جورجى زيدان، وحققت دار الهلال نجاحًا هائلًا، وأصبحت من أكثر المجلات انتشارًا، ونشرت الهلال عددا من الكتب المهمة ضمن سلسلة «كتاب الهلال»، التى أشرف على تحريرها عدد من الصحفيين، ومن أبرزهم إميل وشكرى زيدان، فكرى أباظة، على أمين، أحمد بهاء الدين، صالح جودت، أمينة السعيد، مكرم محمد أحمد. ومن بين الكتب التى أصدرتها دار الهلال، كانت مؤلفات الكاتبة الصحفية أمينة السعيد ومنها «وجوه فى الظلام» و«آخر الطريق» و«من وحى العزلة». كما دشنت أيضًا مؤسسة «روز اليوسف» للممثلة فاطمة اليوسف فى عام 1925، كما أسس محمد المعلم «دار القلم»، وعقب الثورة طبق على هذه المؤسسات قرارات التأميم، فآلت جميعها إلى الدولة، فيما أغلق بعضها وحلت مؤسسات أخرى محلها، ومنها دار التحرير للطبع والنشر، والتى تأسست فى 1953، وتم إنشاؤها لتتحدث بلسان الثورة، وتدعو لها، وتتبنى قضاياها محليًا وعربيًا وعالميًا. صدرت عنها مجلة «التحرير»، وهى أول صحيفة تصدرها الثورة اعتبارًا من العدد رقم 24 الصادر فى 12 أغسطس سنة 1953، وكانت تصدر من قبل عن إدارة الشئون العامة بالقوات المسلحة، منذ صدورها فى سبتمبر 1952. تعاقب على رئاسة مجلس إدارتها 10 من رجال السياسة والصحافة والأدب. كما تأسست أيضًا «المؤسسة العربية الحديثة» عام 1960، تقوم بإصدار سلسلة كتب «سلاح التلميذ» للمرحلة الابتدائية، وسلسلة «كتب المعلم» للمرحلتين الإعدادية والثانوية. وتوجه المؤسسة إصداراتها إلى فئة الشباب خاصة، ولها العديد من الإصدارات، من أشهرها ما تطلق عليه روايات «مصرية للجيب»، كسلاسل «نبيل فاروق مثل: رجل المستحيل، وملف المستقبل»، وسلاسل أحمد خالد توفيق: مثل ما وراء الطبيعة - فانتازيا، إلى جانب سلاسل أخرى كفلاش - كوكتيل 2000 - سافارى - سلة الروايات - مغامرات س - زهور - المكتب رقم 19 - المكتب رقم 17» والعديد من الروايات الأخرى. كما تأسست «دار النهضة العربية» عام 1960، وتخصصت الدار منذ تدشينها فى العلوم الاجتماعية بصفة عامة والقانون والإعلام بصفة خاصة، وتوالى عدد دور النشر الخاصة منذ هذه الفترة حتى وصل عددها حاليًا إلى 800 دار نشر، بالإضافة إلى قطاع النشر الحكومى والذى يعرف حاليًا باسم «الهيئة المصرية العامة للكتاب». أتاحت هذه المؤسسات فرصة لمؤلفات عدد من الشباب الذين أصبحوا أعلاما للفكر والثقافة، ومنهم توفيق الحكيم، الذى أصدر أولى مسرحياته تحت عنوان «أهل الكهف» فى عام 1933، ونجيب محفوظ، وتعتبر فترة الستينيات وما تلاها العصر الذهبى للنشر؛ حيث تصدرت أقلام عدد كبير من المبدعين، ومن بينهم الكاتب الكبير بهاء طاهر، ويوسف السباعى ويوسف إدريس... وغيرهم. وتعتبر دار «نهضة مصر» من أقدم دور النشر الخاصة، بالمفهوم المتعارف عليه، والتى تقوم بطباعة الكتب بمجالاتها المختلفة، وليس ضمن إصدارتها الصحفية، وتأسست «نهضة مصر» فى 1938، وكانت استراتيجية الدار تتلخص فى دعم عملية التواصل والحوار بين مختلف الثقافات، وتهدف إلى إثراء فكر الأسرة العربية بمحتوى علمى وثقافى وتعليمى متميز وإتاحته لكل قطاعات المجتمع. فى السبعينيات ظهرت عدة دور نشر لعبت دورًا كبيرًا فى تقديم عدد من الأقلام المهمة، ومن أبرز هذه الدور «دار الشروق»، التى تم تأسيسها فى عام 1968، تأسست «دار الشروق» فى 1948 تحت اسم «دار القلم» من قبل محمد المعلم، ثم تأممت «دار القلم» فى 1966، مع مجموعة من دُور نشر أخرى مثل «دار المعارف» و«دار الهلال»، وبعد تأميمها بسنتين، حاول المعلم مرة أخرى أن يؤسس دار نشر خاصة، فنجح فى تأسيس «دار الشروق». وبعد نجاحه فى القاهرة، فتح المعلم فى السنة التالية فرعا آخر فى بيروت، ومن ثم أضاف لكلا الفرعين قسم طباعة، كما تم تأسيس مكتبة ودار «مدبولى» فى عام 1977، والتى استطاعت أن تنشر لعدد من الكتاب المثيرين للجدل، وكان على رأسهم الدكتورة نوال السعداوي، والتى أدت نشر مؤلفاتها إلى حالة من الجدل لم تنته إلا بحرق الناشر لعدد من أعمالها. * انتقال دراماتيكي ألقت الأحداث السياسية التى شهدتها مصر عقب ثورة 52، وانتقال مصر من عصر الملكية إلى عصر الجمهورية بظلاله على طبيعة الأعمال الأدبية التى كانت تصدر فى هذه الفترة وما تلاها، ففى أعقاب السبعينيات كان الانتقال من العصر الاشتراكى إلى الليبرالى، وكذلك الانفتاح السياسى والاقتصادى يسيطر على موضوعات الأعمال الأدبية فى هذه الفترة، وعلى الرغم من تزايد أعداد دور النشر فى فترة الثمانينيات والتسعينيات وتزايد الإنتاج الأدبى الضخم، إلا أن هذه الأعمال حسب رؤية النقاد كانت تفتقد للرؤية، بل وكان معظمها إعادة لطرح أفكار قديمة، لم ينتج من هذه الأعمال إلا قلة قليلة من الأعمال الجادة فكانت الروايات وكتب التنمية البشرية أبرز هذه الأعمال. * يناير وصناعة النشر أدت ثورة الخامس والعشرين من يناير إلى ظهور عدد كبير من دور النشر، الأمر الذى أتاح كما هائلا من الإنتاج الإبداعي، وفى دراسة أعدها خالد عزب، حول مستقبل صناعة النشر فى أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير، تحت عنوان: «صناعة النشر فى مصر.. إلى أين؟»، يتعرض فيها إلى حجم الانهيار والتدهور الذى أصاب الصناعة التى كان يعتبرها فرصة لإعادة النظر فى نشاطها. يقول الكاتب: «تعرضت صناعة النشر فى مصر لهزة عنيفة فى أعقاب العام 2011، هذه الهزة كان من الممكن أن تكون فرصة لمراجعة هذه الصناعة، لكن للأسف أهدرت، فما زال الناشر المصرى يفتقد جانبًا مهمًا من مراجعة الذات، فهو يركز على فكرة دعم الدولة، دون أن يفكر فى بناء هذه الصناعة بصورة مختلفة، فعلى الرغم من أن عددا من الناشرين فى الأردن والسعودية بادروا نحو النشر الرقمى بصورة تجارية؛ فإن الورقى ما زال هو محور نشاط الناشر المصري، لذا لم نر مبادرات مصرية فعلية سواء للتوزيع عبر شبكة الإنترنت أو عبر النشر الرقمى سوى محاولة مكتبة «الأنجلو». ويتابع: «الخطورة الحقيقية التى تهدد صناعة النشر فى مصر، هى تركيز الناشرين على حقوق الناشر، فيما أن القاعدة الأساسية لصناعة النشر وهى المؤلف مهدورة الحقوق، فمعظم دور النشر المصرية لا تدفع حق التأليف للمؤلف، بل أحيانًا ما نجد أن المؤلف ينشر على نفقته الشخصية دون أن يستعيد ما دفعه من الناشر بعد توزيع الكتاب، فكأن المجهود الذهنى والإبداع ليس له ثمن، وهو لا يقدر بثمن فعليًا، لكن هذا المؤلف أهدر وقته وماله من أجل أن يقدم لنا معرفة، لا تساوى شيئًا عند عدد كبير من الناشرين، وهو ما أهمله اتحاد الناشرين خلال السنوات الماضية، إذ كيف نضمن تجدد مجهود المؤلف وتقديمه المزيد دون أن يحصد نتاج مجهوده. إن واحدة من القضايا الحساسة الآن هى مكانة مصر فى عالم الثقافة العربية، هذه القضية ترتكز على عمود أساسي، هو الإنتاج المعرفى فى مصر، فدون أن نحفز التأليف فى موضوعات جديدة، ونطرق كل ما هو جديد فى العلم والمعرفة، لن يكون لنا موطأ قدم فى عالم الريادة المعرفية باللغة العربية، هذا ما يقتضى نقاشًا مفتوحًا حول العديد من القضايا والتأكيد على العلم ودوره فى حياتنا. ويضيف: كما أن الخدعة الكبرى أو الشرك الكبير الذى ينصب للقراء حول الأكثر مبيعًا، هو فى حقيقة الأمر تسويق الرديء، هنا تبرز أهمية نقد الكتب والروايات وغيرها، دون هذا النقد المنهجي، وكذلك دون برامج ثقافية فى محطات التلفاز وبرامج تناقش الكتب لن يكون هناك حراك ثقافى، لذا فتجاهل الفضائيات حقوق المشاهد فى تتبع العلوم والمعارف، هو جريمة يجب على المشاهد إدراكها، لأن فى هذا تسطيح لعقولنا، فلا تتعجب إذا أُخرِجت الأجيال الجديدة بعيدة عن الجديد فى العلم. * ارتفاع أسعار الورق تواجه صناعة النشر حاليًا عددًا من التحديات، والتى تزايدت عقب ثورة 30 يونيو؛ حيث أثرت الأزمة الاقتصادية الراهنة التى كانت تحرير سعر الصرف أبرز معالمها على هذه الصناعة، فارتفعت أسعار الكتب مع تراجع القدرة الشرائية وانخفاض معدل القراءة. تسعى اتحادات النشر المحلية والعربية لمواجهة التحديات والأزمة الراهنة التى تواجه صناعة النشر، ولا سيما بعد تحرير سعر الصرف وارتفاع سعر الدولار، مما أثر فى ارتفاع سعر الكتاب إلى 50 بالمئة بسبب ارتفاع سعر الورق والطباعة وفى ظل انخفاض معدلات القراءة. ولخص الحاضرون فى مؤتمر «صناعة النشر فى مصر.. الصعوبات والأسباب والمقترحات»، الذى نظمته وزارة الثقافة فى عام 2015، أهم الصعوبات التى تعانى منها صناعة النشر فى قلة أعداد المكتبات وتقليص ميزانياتها، فإلى جانب نقص عدد المكتبات مقارنة بعدد السكان؛ فإن المكتبات المتواجدة تعانى نقصًا كبيرًا فى ميزانيتها، وعدم التحديث. وتتمثل أبرز المشكلات التى تواجه الناشرين فى انخفاض معدلات القراءة فى مصر، وعدم وجود الوعى القرائى لدى المجتمع، والواقع يشير إلى أن هناك قلة نادرة تقرأ، وأغلب هذه القلة من الخاصة كما أن أنظمة التعليم فى مصر لا تسمح بالبحث وممارسة القراءة الحرة، وإن معظم الدارسين يبتعدون عن القراءة بعد انتهاء دراستهم. يأتى على رأس المشكلات أيضًا مشكلة التزوير، وتهدد هذه الآفة الخطيرة بالسلب على حركة التأليف والإبداع، والتقدم الثقافى. وخلص الناشرون والمختصون إلى أن أبرز الاقتراحات التى يمكن أن تسهم فى حل أزمة النشر فى الدعوة إلى مواصلة الجهود الحكومية لإصلاح المنظومة التربوية والتعليمية والاجتماعية، واللغوية الأمر الذى من شأنه أن يؤدى إلى رفع معدلات القراءة، والعمل على زيادة حجم الإنتاج المعرفى المنشور إلكترونيًا وإنشاء مختبرات متخصصة لتصنيع البرامج الحاسوبية، والإسراع فى إنشاء شركة عربية تتولى التوزيع، وإعادة النظر فى المعارض العربية التى تنظم فى البلاد العربية والتنسيق بينهم، وإعادة النظر فى الرسوم الجمركية على الكتب وتخفيض تكاليف نقل الكتب بين البلاد العربية، وتغليظ العقوبة على جرائم التزوير، لحماية حقوق المؤلفين والناشرين، وإعفاء الورق وماكينات تصنيعه من الرسوم الجمركية، وكذلك ضربية المبيعات لإتاحة الفرصة للشركات المصرية لمنافسة شركات الورق فى الدول الأخرى وتحسين المنتج المحلي، والبدء فى بحث المشاكل القانونية التى نجمت عن التداول الكتاب الرقمى، خاصة علاقة المؤلف بالناشر وحماية حقوق المؤلف من القراصنة.