تمتليء الحياة بالمنعطفات الحادة، والحافّات القاسية، أشبه برحلة طويلة نحو المجهول.. الطريق فيها ملتو متعرج حينا، سهل مستقيم حينا آخر، تعترضه جبال ووهاد. وتخترقه غابات مظلمة متشابكة الأغصان. تسكنها حيوانات مفترسة، ومخلوقات غريبة، وطيور عابرة، لاتحمل الطرق فيها علامات أو إشارات تحذرك من خطر قادم، أو ثعبان زاحف، أو ذئب متربص. يتجول الإنسان فى هذه الحياة وكأنه يعرف طريقه، ولكنه فى الأغلب لا يعرف شيئا، وفى كل مرة يفلت الطريق من بين يديه وقدميه، كما تفلت الفراشة الملونة من بين يدى طفل بريء لم تنضجه التجارب، ومع ذلك فهو يحاول أن يتعامل معها وكأنها شىء طبيعى مادى ملموس، ربما يراها من بعيد وكأنها سراب، ويلمسها وكأنها هواء.. ويحاول الإمساك بها لكى يجد لنفسه مكانا فيها، أو على مقربة منها، فإذا أعوزه الصبر وضاقت به الحيلة، فقد يبحث عن ركن آخر من أركانها، أو غابة أخرى يأوى إليها ويسكن فى أحضانها. فى عالم الصحافة، يشق على المرء أن يجد ركنا دائما مستديما فى الغابة يسكن إليه، يبدأ الصحفى متحررا من القيود والمواءمات، يظن نفسه وقد ملك الدنيا وجلس على عرش الكتابة والقلم، وينتهى وقد استعبدته المهنة، وطاردته المخاوف والأشباح، وأكلته الهموم والسنون، ولم تترك له غير بقايا أوهام وأحلام. لا يعرف الصحفى فى الوطن العربى معنى الطموح الذى تخلقه الموهبة، ولكنه يعرف معنى التسلق الذى يولد الطموح ويقتل الموهبة، فلا يمتد بصره فى مشواره الصحفى إلى أبعد من «الكرسى» فى تراتبية المجد الزائف، الذى يزول بزوال العهد والمرحلة.. الصحافة فى العالم العربى تؤرخ بزمن الأسر الحاكمة، فلا تتطور ولا تتقدم بتراكم الخبرات، واكتساب المهارات، والانفتاح على العالم.. ولكنها تتطور أو قل تتغير، بتغير الحكام والعهود، ولذلك يكون التطور فيها تطور «نقلة» وليس تطور «حركة»، «النقلة» تكون من عهد إلى عهد، وأما «الحركة» فهى التفاعل مع الظروف المحيطة والثقافات المتنوعة ونقل التجارب من مجال إلى آخر، ولذلك صار الإعلام الحديث هو الإعلام المتداخل CONVERGED الذى تستخدم تقنياته ومهاراته فى الصحافة المطبوعة، وفى التليفزيون والإنترنت، لتصنع معا الفضاء الإعلامى الهائل الذى يعيش فيه العالم. خطرت لى هذه الأفكار، وأنا على وشك الانتقال من بيت إلى بيت.. من «الأهرام» الذى أمضيت فيه سنى شبابى وكهولتي، وجمعت فيه الرحيق من تجارب وخبرات عمالقة وأساتذة كبار أدين لهم، وسوف أظل أحنّ إليه، ولكن وهن العمر وضعف. الطاقة لم تعد تسمح لى بأن أبعثر ما بقى من صحة وكبرياء واعتزاز. وعزائى أن يجدنى قرائى فى مكان آخر، إن كان فى العمر بقية!