بقلم أ. د. إلهام سيف الدولة حمدان – مصر بوابة شموس نيوز – خاص هذه مقولة نرددها كثيرًا نحن معشر المصريين؛ ولا ندري أين ومتى ومن الذي أطلقها من قديم الزمان على أهل هذا البلد الطيب الأمين، القابع في أحضان التاريخ منذ بدأت سطوره في كتاب الحياة على هذه الأرض ؟ صحيح أن الفقراء هم غالبية أهل الأرض نجاحًا وسماحة وطيبة؛ لأنهم لايملكون سوى عافيتهم للسعي بالكاد على قوت يومهم؛ ولا يملكون من متاع الأرض سوى اللقمة والهِدمة والسقف الذي يقيهم قيظ الصيف وزمهرير الشتاء . وهذا يعطيهم الوقت الكافي للتحليق عاليًا بأجنحة الأمل في سماء الأحلام؛ وربما وهذه طبيعة البشر شذرات مما نطلق عليه تطلعات "الحقد النبيل" ؛ إلى بعض الرقي في المعيشة من المأكل والمشرب والتعليم والمكانة المرموقة؛ فيستمتعون بما حباهم الله به من نعمة الأحلام التي قد تعوضهم بعض الشىء عن الواقع الذي يحيط بهم، بل تعطي لهم التبرير الأوفى لمقولة "الإمام على رضي الله عنه " : لو كان الفقر رجلاً .. لقتلته" ! ودعوني أذكر أمثلة واضحة وجلية لبعض النماذج التي عاصرناها في جيلنا الحالي، والتحديات التي واجهها هؤلاء الفقراء في حياتهم منذ نشأتهم الأولى بين أحضان عائلاتهم؛ وكيف فرضوا نجاحاتهم في مسيرتهم الحياتية المؤلمة؛ ليقطفوا ثمار تعبهم وبسواعدهم نجوم السماء ليطرزوا بها جيد أحلامهم المشروعة . ولعل أصدق مثال على هذا التحدي؛ هو صاحب اللقب الرفيع "أمير الفقراء" الزعيم جمال عبد الناصر؛ الذي ولد في 15 يناير1918 بحي باكوس الشعبي بالإسكندرية ، وكان الابن الأكبر لعبد الناصر حسين الذي ولد في عام 1888 في قرية بني مر بصعيد مصر في أسرة من الفلاحين، ولكنه حصل على قدر من التعليم سمح له بأن يلتحق بوظيفة في مصلحة البريد بالإسكندرية، وكان مرتبه يكفى بصعوبة لسداد ضرورات الحياة ، فألحق ابنه بروضة الأطفال بمحرم بك بالإسكندرية، ثم إلتحق بالمدرسة الإبتدائية بالخطاطبه؛ وفى عام 1925 دخل جمال مدرسة النحاسين الابتدائية بالجمالية بالقاهرة، وأقام عند عمه في حي شعبي لمدة ثلاث سنوات، وكان يسافر لزيارة أسرته بالخطاطبه في العطلات المدرسية، وحين وصل في الإجازة الصيفية في العام التالي 1926،علم أن والدته قد توفيت قبل ذلك بأسابيع ولم يجد أحد الشجاعة لإبلاغه بوفاتها، ولكنه اكتشف ذلك بنفسه بطريقة هزت كيانه .واستطاع أن يقهر أحزانه والتغلب على مظاهر الفقر من حوله، ليقوم بتكوين وجدانه الثوري مبكرًا؛ ويقوم بقيادة مظاهرات الطلبة التي تهتف بسقوط الاستعمار وبعودة الدستور؛ وليرأس في مرحلة لاحقة تنظيم الضباط الأحرار الذي صنع ثورة يوليو المجيدة . ولنا أيضًا من بلاد المال والأعمال المثال الحي في المدعوة "أوبرا غايل ونفيري"؛ وهي أشهر مقدمة برامج حوارية بالتليفزيون الأمريكي، بعد نجاحها في التمثيل المسرحي، وأشهر شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي والصحف والمجلات والقنوات التليفزيونية والإذاعية، فهي بتصرف قد ولدت في 29 يناير 1954وعاشت طفولة فقيرة، فوالدها كان حلاقًا بسيطًا؛ بالإضافة إلى عمله ببعض الأعمال التجارية الصغيرة، والدتها كانت تعمل في خدمة البيوت، وعاشت عند جدتها في حي فقير بعد انفصال والديها إلى أن بلغت السادسة من عمرها. وبدأت حياتها مراسلة لإحدى قنوات الراديو وهي في التاسعة عشر من عمرها، وأكملت تعليمها الجامعي في ولاية تينيسي من خلال منحة تعليمية حصلت عليها بمثابرتها واجتهادها ، حيث كانت من أوائل الطلاب الأمريكيين من أصل أفريقي في الجامعة مما سبب لها صعوبات عديدة، انتقلت إلى بالتيمور عام 1976 وبدأت تعمل في تقديم برنامجها الناجح وأصدرت أحدث كتبها : Live the best of your life، كما أنها تمتلك استوديوهات هاربو وتُصدر مؤسستها مجلة أوبرا واسعة الانتشار . وسبحان من له ملكوت السموات والأرض؛ فكأنه يضع "جينات التفوق والتحدي" في أدمغة أبناء الفقراء البسطاء؛ لتكون الحافز والمحرك الرئيس في شحذ قدرتهم على استيعاب العلوم التي يدرسونها في المدارس والجامعات؛ فيحصدون المراكز الأولى ويتفوقون على أقرانهم زملاء مقاعد الدرس والتحصيل . ولعل أصدق الأمثلة التي تدلل على صحة رؤيتي ومشاهداتي؛ هو نتائج أوائل الثانوية العامة ، وكان الفخر كل الفخر أن الفائزة بالمركز الأول العام الماضي بمجموع 99.3% هي ابنة "حارس عقار" تسكن وعائلتها في حجرة بسيطة أسفل العقار الذي يعمل به والدها، ومن الطريف قولها إنها لاتملك صفحة من صفحات التواصل الاجتماعي ، لأنها فوق قدرات والدها المادية والحياتية، وقد تفوقت في كلية الطب في عامها الدراسي الأول كذلك. وفاز بالمركز الأول هذا العام طالب من محافظ أسيوط بمجموع 99.76% ويشرُف بأنه ابن الفلاح الذي يعمل باليومية في أراضي الملاك الكبار،وكذلك تفوق ابن بائعة أنابيب الغاز الذي كان يساعد والدته دون أدنى خجل. والذي أريد ان أسوقه هنا؛ هو تأكيد أصالة معدن هؤلاء حين تحدثا عن والديهما بكل الفخر والعزة والكرامة ، وإن كانا لم يخفيا خوفهما من عدم التمكن من الالتحاق بالكليات التي يتمنونها وتداعب أحلامهما؛ إشفاقًا على أولياء أمورهما- وغيرهما كثيرون- من المصروفات التي ستتطلبها تلك الكليات وقد تحجب عنهم بسبب الوضع الأسري والاجتماعي . وأجدني من هذا المنطلق؛ أهيب بمؤسسات الدولة التعليمية ومنظمات المجتمع المدني؛ أن تبادر بتبنِّي هؤلاء الأوائل، والالتزام بالرعاية الكاملة في مراحل الدراسات القادمة؛ لتحقيق أحلامهم البسيطة والمشروعة ، ولنا أن نأخذ بالأسباب في الحياة الدنيا ؛ للحفاظ على استمرارية هذا "الحبل السُّري" بينهم وبين التفوق، وصيانة وتنمية هذه الهبة الإلهية العظيمة في عقول أبنائنا .. فنحن جميعًا فقراء إلى الله .. وشكرًا لصاحب مقولة جبر الخواطر : الفقراء أحباب الله ! ونردد بتحفز واضح.. آه لو كان الفقر رجلاً لأجهزنا عليه جميعا وفتكنا به قبل أن يفتك بأخيارنا !