صدر مؤخراً عن مركز تحقيق التراث العربي والنشر بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا كتابٌ للعلامة الأستاذ الدكتور أحمد فؤاد باشا يحمل اسم "التراث الثقافي العربي مقاربة معرفية برؤية نقدية حداثية" ط 1438ه 2017م. وفي تصديره للكتاب، قال مدير مركز تحقيق التراث العربي والنشر الأستاذ الدكتور أنس عطية الفقي: يأتي هذا الكتاب ضمن إصدارات مركز التراث العربي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا ليؤكد على أهداف هذا المركز الرامية إلى إيقاظ الشعور العام بقيمة الجذور التي ينتمي إليها الإنسان العربي؛ بما يحمل من القيم الأخلاقية والعلمية والحضارية الداعمة لمعنى المواطنة، والمدعومة من دين قويم جامع لمعاني الحب والإخاء والحرية والانفتاح الثقافي والفكري بما يهيئ لقيام حضارة متكاملة ترعى حاجات الإنسان الدنيوية والدينية على حد سواء. ويُعد الاهتمام بالتراث –في حد ذاته- مظهرًا حضاريًا تتبناه الأمم المعاصرة لربط مواطنيها بجذورهم الثقافية، فالتاريخ يشهد بأنه ما انقطعت أمة عن جذورها إلا أصابها الوهن واهتزت هويتها، وصارت عرضة للضياع والنسيان. وليس أدل على هذا المعنى من حرص الأمم المتقدمة على إحياء تراثها القديم، ومحاولة نفث الروح في دقائقه، وإبرازه بصورة متميزة ليمثل رمزًا لأبنائها ومنطلقًا للتماسك والبذل والمنافسة. ولقد جال مؤلف هذا الكتاب في دهاليز الحضارة الإسلامية ليخرج بمشروعه الفكري العام الذي عاش يتبناه طوال حياته وهو ما أسماه ب «نظرية العلم الإسلامية» التي تنطلق من الرؤية الإيمانية فتربط بين الدين والعلم وعمارة الدنيا، وترسخ من أجل ذلك قيم التعايش بين المواطنين تحت مظلة واحدة دون نظر إلى دين أو عرق أو لون، والتي تؤكد على قيمة المعرفة، وتدعو إلى العلم النافع بمعناه المطلق، كما تؤكد على قيمة العقل حينما شرعت –كما ذكر المؤلف- «فريضة التفكير» فحررت الإنسان من الفكر الأسطوري الذي لا يستند إلى منطق، وأيقظت «مقومات الحس النقدي»؛ حيث اعترفت بأهمية «الشك قبل اليقين» وما يؤدي إليه من القدرة على الاستدلال. كذلك أبرز المؤلف جوانب التفرد في الفقه الإسلامي الذي أعمل العقل في تفسير وفهم النصوص انطلاقا من القياس الأصولي ووصولا إلى الفقه التقديري أو الافتراضي، والتأسيس للمدارس العقلية في الإسلام التي جمعت بين العقل والنقل ورعاية المصالح العامة، مما أسفر عن ظهور النهضة الشاملة التي حملت النتاج العلمي للحضارات السابقة، وأضافت له زادا ثريا من الإبداعات والابتكارات العلمية الفريدة، ما أسهم في إنشاء المؤسسات العلمية التي أثمرت حضارة زاهرة شهد لها القاصي والداني في العصور الوسطى ، فكانت الملاذ الآمن لحفظ التراث العالمي، وأساسا لبناء الحضارة الغربية التي تسلمت القياد في العصر الحديث. أما مؤلف هذا الكتاب فهو الأستاذ الدكتور أحمد فؤاد باشا، أستاذ علم الفيزياء، وعضو مجمع اللغة العربية، الذي أثرى المكتبة العربية بمؤلفاته القيمة في مجال التراث العلمي العربي، وحاول –جهده- أن يقدم للأجيال الصورة الحقيقية لجهود أجدادهم في هذا المجال؛ لتكون منطلقا طبيعيا للتواصل البنّاء الذي يتفاعل مع الآخر، فيعطي ويأخذ، ولكنه يعرف جيدا ماذا يأخذ وماذا يدع في إطار هويته التاريخية والحضارية. ومن جانبه، قال الأستاذ الدكتور أحمد فؤاد باشا في تقديمه للكتاب: إن نظرة واحدة إلى واقع الأمة العربية والإسلامية اليوم تكفي لنتبين منها أننا لا نشارك في الإبداع الحضاري، العلمي والتقني والثقافي على وجه الخصوص، بالقدر الذي يتناسب مع تاريخنا المجيد؛ إذ ليس إسهامًا حضاريًا أن ننقل عن المتقدمين في الشرق والغرب علومهم وأجهزتهم وتقنياتهم، حتى لو بلغنا غاية المهارة في حفظها ومحاكاتها، وليست معاصرة أن نأخذ عنهم ما أصابهم من قلق وسأم وانهيار في القيم. والطريق السليم لابتعاث النهضة الحضارية المنشودة لأمتنا لن يبدأ إلا بالفهم الواعي لقانون التفاعل بين الحضارات، والتكامل بين الثقافات, القائم على تبادل العطاء، مع الاحتفاظ بالخصوصيات الذاتية وتوظيفها بأفضل طريقة لتنشيط كل الطاقات والقوى الدافعة لإحراز التقدم والرقي. وفي ضوء هذا السياق التاريخي والحضاري الشامل، يكون التأصيل المعرفي مقوّما أساسيًا من مقومات البناء والتنمية المستدامة. ذلك لأن تأصيل الثقافة الذاتية لأية أمة، وتعزيز قيمها في نفوس النشء، يجعل سلوك الفرد متوافقًا مع فكر مجتمعه، وعاكسًا لقيمه ومعتقداته. ولا يزال التراث الثقافي العربي قادرًا على التأثير والإسهام في ابتعاث حضارة جديدة ومتجددة، إذا ما أدركنا الحاجة الماسة إلى إحيائه ونشره وتفسيره ونقده, في ضوء معطيات العصر وفلسفاته، وتوقعات المستقبل ومفاجآته, وعندئذ نكون قد جعلنا من التراث والتاريخ علْمًا حداثيًا مستقبليا، وليس مجرد قصص لتزجية الفراغ والبكاء على الأطلال، ويكون ما وصلت إليه الحضارة المعاصرة امتدادًا طبيعيًا لما أنجزته الحضارة العربية الإسلامية، التي كانت بدورها امتدادًا لحضارات قديمة؛ فالحداثة التي تنشدها أي أمة ما هي إلا عملية حضارية ممتدة تاريخيًا في الزمان من الماضي إلى المستقبل. والكتاب الذي بين أيدينا يحاول أن يلقى الضوء على ما يمكن أن يقدمه التراث الثقافي العربي للأمة في العصر الحاضر لكي يموِّل به المستقبل، ويطرح مقاربة معرفية، ناقدة لهذا التراث من أجل إبراز عناصره البنيوية، وبيان دوره التنويري في تشكيل «الحداثة» العربية الإسلامية الجديدة، مثلما سبق وأن أسهم في ابتعاث النهضة الأوربية الحديثة، ومثلما تسعى كل أمة ناهضة في عصرنا الحاضر إلى أن تصنع «حداثتها» للحاق بركب المتقدمين؟! هذا، إلى جانب تعريف الأجيال بأهم الإنجازات والمآثر التي خلفها الأجداد، وما تزال محتفظة بقيمتها المعرفية والمنهجية في تاريخ العلم والحضارة .