بعد انتهاء حرب الأيام الستة، يونيو عام سبعة وستين، أصبحت مدينة بورسعيد في المرمى المباشر للأسلحة الخفيفة التي كان الجيش الاسرائيلي المعادي يصوبها من مواقعه في سيناء، التي احتلها عدا مساحة صغيرة من الأرض. عشرة كيلو مترات شرق القناة لم تستطع قواته احتلالها، وعندما حاولت في الثلاثين من يونيو، أي بعد وقف اطلاق النار بنحو عشرين يوما تمكنت قوة من المشاة المصريين قوات الصاعقة ايقاف تقدم المدرعات الاسرائيلية عند منطقة رأس العش جنوب شرق بورسعيد بعشرة كيلو مترات، وبذلك نجت مدينة بورفؤاد التي تقع في الشرق من الاحتلال. في الشهور التالية ليونيو، سافرت الى بورسعيد، كنت مازلت أعمل في مؤسسة التعاون الانتاجي كاخصائي سجاد، لم يبدأ عملي بعد في الصحافة، كان سفري محاولة للاقتراب من المنطقة الساخنة، من جبهة القتال، تلك الجبهة التي سيقدر لي أن أعمل فيها «مراسلا حربيا» بعد فترة قصيرة. عندما سافرت الى بورسعيد... كان وقف اطلاق النار ساريا ولكن ثمة خروقات تقع بين الحين والآخر، كان الطريق المحاذي للقناة مفتوحا، ولم يغلق بعد. مازلت أذكر ذلك الحذر الذي يصل الى حد الخوف على ملامح السائق وهو يتطلع الى الضفة الشرقية، حيث جيش الاحتلال الاسرائيلي، كانت رؤية العلم الاسرائيلي مؤلمة جدا لي اذ يرتفع فوق أرض مصرية. لم أكن رأيت ذلك العلم الا في الصور ونشرات الأخبار المصورة، ولكن أن أراه فوق أرض مصرية، فكان ذلك يمثل ذروة القهر وقتئذ، اللحظة المقابلة حلت بعد ست سنوات، لن يفهمها الا من عاش اللحظتين، عندما بدأ الجيش المصري حربه التحريرية في السادس من أكتوبر، تم انتزاع تلك الأعلام الاسرائيلية ورفع الأعلام المصرية من خلال القتال الذي استهدف دحر المحتل، لحظتان لن يدرك عمقهما الا من عاشهما بالفعل، ولن يفهم معاناة أهالي بورسعيد بعد يونيو الا من اقترب منهم، وقد اقتربت وعايشت. في تلك الزيارة رأيت وأحسست بالروح الوطنية العالية التي تميز أهالي بورسعيد، صحيح أن الحياة اليومية تمضي عادية، لكن المدينة بأكملها أصبحت تحت نيران العدو الذي لا يبعد عنها الا عشرة كيلو مترات الى الشرق. وتعرضت بورسعيد بالفعل للقصف، واستشهد عدد من مواطنيها، وفي بداية العام تسعة وستين اتخذت القيادة السياسية والعسكرية قرارا بتهجير أهالي مدن القناة الرئيسة بعد أن بدأ العدو توجيه نيرانه الى المدنيين. وكانت لحظات مؤلمة في تاريخ مدن القناة، قدر لي أن أشهد بعضها في بورسعيد، كان الرجال والنساء والأطفال يذرفون دمعا، وقبل صعودهم الى الحافلات التي ستقلهم الى البلدان والقرى التي ستأويهم مددا لم تكن معلومة وقتئذ بالدقة، كانوا يحنون لتقبيل الأرض، وكانت أياديهم تقبض حفنات من ترابها في محاولة أخيرة للتشبث بالذكريات والمدينة التي صارت جزءا منهم وصاروا جزءا منها. بدأ عملي في الصحافة، منتصف العام تسعة وستين، وفي سبتمبر من نفس العام قمت بأول رحلة صحافية الى بورسعيد التي كان قد تم تهجيرها من أهلها، جئت اليها عبر دمياط، فقد أصبح طريق القناة تحت القصف اليومي، وفيما تلا ذلك عندما تفرغت لعملي كمراسل حرب. صرت أتحرك عليه كثيرا وأقضي الليالي في مواقع عسكرية قريبة جدا من مياه القناة، رغم ترددي عشرات المرات على بورسعيد خلال حرب الاستنزاف «1969 - 1970» وخلال وقت اطلاق النار حتى بدء حرب أكتوبر «1970 - 1973»، فان زيارتي الأولى كصحافي بعد تهجير أهلها تركت عندي أثرا عميقا لم يمح. مازلت أذكر لحظة وصولي الى المدينة التي فوجئت بها خاوية، المباني مغلقة، الحركة محدودة جدا في شارع محمد علي، كان عدد من تبقى في المدينة من المواطنين ثلاثة آلاف فقط، بينما هاجر ما يقارب ثلث المليون الى أماكن بعيدة. أما الوحدات العسكرية فكانت تنتشر حول المدينة، كانت شوارعها شرايين عبور فقط بالنسبة للمركبات العسكرية واتخذت بعض الوحدات الادارية مواقع لها في مبان عامة، عدد المقاهي المفتوحة محدود، بعض المطاعم لم يغلق أبوابه رغم انعدام الزبائن تقريبا، الى جانب بعض المطاعم الشعبية، لم يغلق مطعم جيانولا «صاحبه سويسري الأصل». بقى كذلك بعض البورسعيديين الذين لم يستطيعوا امكانية أن يعيشوا بعيدا عن المدينة، تحتفظ ذاكرتي بمشاهد عديدة للطرق شبه الخالية، لعتمة الليل التي لا تبددها الا بعض الأضواء الخافتة، حضور البحر القوي، رائحته القوية، المدخل الشمالي للقناة،الذي توقفت الحركة به. المصدر : جريدة الراى الكويتية.