تظل بعض الأماكن مجهولة رغم وجودها، إلي أن يقع حدث معين فتخرج إلي الحاضر، وتدخل التاريخ.. يظل مكان ما مختفيا رغم وجوده رغم مثوله في الواقع، حتي يقع حدث معين فيبرز إلي الناس، إلي العالم، كأن تقع حادثة معينة من ظواهر الطبيعة أو من صنع البشر، ما الذي يعنيه الكيلو عشرة قبل احتلال سيناء اثر الهزيمة؟ لاشيء، مجرد علامة كيلو مترية علي امتداد المجري الملاحي، لم يعرفه إلا الملاحون المتخصصون في عبور القناة، وربما بعض الصيادين، ورجال المساحة، انا شخصيا مررت به مرارا قبل الهزيمة، عندما كان الطريق إلي بورسعيد محاذيا لقناة السويس، بعد احتلال سيناء استمرت الحركة عليه رغم وصول القوات الاسرائيلية إلي الضفة الشرقية للقناة، واطلالها علي الضفة الغربية والسبب انه اثناء حفر قناة السويس كان ناتج الحفر يلقي به علي الناحية الاخري، اصبحت الارض مرتفعة، من يعلوها يتحكم في الضفة الغربية، ميزة اكتسبها جيش الاحتلال الاسرائيلي بدون جهد.. فيما بعد سوف يتغلب قادة القوات المسلحة علي هذه المشكلة بابتكار مصاطب المدفعية والدبابات والتي كانت تشبه الاهرامات الصغيرة، لقد ارتفعت هذه المصاطب لتصبح قواتنا متحكمة في الشرق اكثر، جري ذلك مع تصاعد حرب الاستنزاف، خلال محاولاتي التقرب من الجبهة سافرت إلي بورسعيد، ركبت حافلة عامة تعمل علي خط القاهرة - بورسعيد، كان ذلك عام سبعة وستين بعد شهرين من الهزيمة، وكان الطريق مفتوحا للحركة المدنية بعد مدينة الاسماعيلية يتجه الطريق ليصبح محاذيا للقناة، كنت اجلس وراء السائق مباشرة، رأيت العلم الاسرائيلي علي الضفة الاخري. وعند حد معين فاضت عينا السائق بذعر انساني مكتوم. انحني اكثر علي مقعد العربة، بدلا من نظره إلي الامام، وضعية السائق العادي، كان ينظر إلي الجانب الايمن حيث الضفة الاخري، مازلت اذكر ذعره غير انني نسيت تماما ملامحه. في ذلك الوقت كان يحدث اطلاق نار في اي وقت ضد العربات، ضد المشاة، كان ذلك جزءا من الحرب النفسية والمادية بعد احتلال سيناء، مالا انساه رؤية العلم الاسرائيلي لكم كانت مهينة للذات. ما إن وصلنا إلي الكيلو عشرة حتي هدأت ملامح السائق، لقد اصبحنا بمحاذاة الارض التي لم تستطع القوات الاسرائيلية احتلالها في يونيو سبعة وستين، بدلا من العلم الاسرائيلي رأينا العلم المصري، كان ذلك يعني دخولنا منطقة اكثر أمنا، رغم انها تقع في نطاق مدي المدفعية الاسرائيلية وهنا يجب توضيح اكثر للموقف في الكيلو عشرة الذي اصبح يعني الكثير علي المستوي الرمزي والنفسي والعسكري. بعد ان حققت اسرائيل انتصارها السهل والذي يبدو ان حجمه كان اكثر من ان تستوعبه بسرعة، بقيت مساحة هامة من سيناء لم تحتل. جرت مقاومة محدودة لكنها اثرت، في نفس الوقت كانت اسرائيل تتحسب الدخول إلي مدن تزداد فيها الكثافة السكنية.. هذا احتمال ارجحه. المهم. ان مدينة بورسعيد تواجهها مدينة اخري هي بورفؤاد، تطل علي البحر، يسكنها العاملون في هيئة قناة السويس والترسانة البحرية، ومع انحدارنا جنوبا عبر الارض المحاذية للقناة نمضي لمسافة عشرة كيلومترات لم تقترب القوات الاسرائيلية منها، من هنا بدأ يبرز اسم الكيلو عشرة لمن هم في الجبهة، ثم انفجر من نفس المكان اسم الموقع كما هو مدون علي الخرائط وكما يتداوله الصيادون من اهالي الناحية .الاسم الثاني رأس العش، وحتي اليوم يعني هذا الاسم الكثير بالنسبة لي ولجيلي من الذين عاشوا المحنة. تمركزت مجموعات من قوات الصاعقة المصرية في هذه المنطقة التي ظلت حرة ورفعت العلم وحفرت الخنادق. اتخذت استحكامات اقيمت علي عجل، في الثلاثين من يونيو اي بعد حوالي ثلاثة اسابيع من وقف اطلاق النار واحتلال سيناء، تقدم طابور اسرائيلي مدرع من اثنتي عشرة دبابة مدعومة بالمدفعية والمشاة والطيران، تصوروا ان اجتياح الموقع سوف يتم بسهولة كتلك التي تقدموا بها في سيناء بدءا من صبيحة الاثنين الخامس من يونيو اثر انهيار المشير عامر ومجموعته. غير ان موقفا جديدا نشأ. لم يكن في رأس العش مدرعات، أو مدفعية ثقيلة، مجرد مجموعات من الصاعقة اي قوات مشاة، مزودة بأسلحة خفيفة لمواجهة الدروع في ذلك الوقت كان السلاح المستخدم ضد الدروع الآربجي، اتخذت القيادة العسكرية المصرية وقتئذ قرارها بالمقاومة والتصدي، جرت معركة شرسة، لم يتراجع فيها الجنود والضباط، تم تدمير الطابور المدرع والحاق خسائر بالقوة المهاجمة، اضطرت القيادة الاسرائيلية إلي التراجع، إلي عدم التقدم، وظل العلم المصري مرفرفا طوال السنوات الست التالية حتي اكتوبر عام ثلاثة وسبعين. بالنسبة لمن عاشوا الحقبة تعتبر معركة رأس العش علامة مهمة ذات دلالة فبعد ايام معدودات من وقف اطلاق النار واحتلال سيناء، تقع المعركة التي تتصدي فيها قوات مترجلة لطابور مدرع وتوقفه وتحتفظ بالارض، كان ذلك يعني ان هزيمة يونيو استثناء وان ارادة القتال لم تهن، وان العسكرية المصرية الجريحة تنتفض للدفاع عن شرفها، لقد حفلت السنوات الست التالية بجهود خارقة قدر لي ان اكون شاهدا عليها، ثمة تفاصيل عديدة لم تعرف بعد، غير ان رأس العش كانت علامة فارقة، مهمة.. ربما يعود الاسم إلي ستائر النسيان مرة اخري، ربما يكتسب المكان دلالات اخري، لكن سيظل اسم رأس العش مقترنا بهذه المعركة التي قد لا تكون كبيرة بمقاييس المعارك التي جرت فيما تلا ذلك، لكنها علامة فارقة، كان علي رأس القوة التي خاضت المعركة المقدم ابراهيم الرفاعي، هذا اسم سوف ارتبط بصاحبه وجدانيا وعاطفيا وما لا يمكنني تفسيره، سوف يصبح شاغلي، سأكتب عنه قصصا قصيرة، ورواية ومقالات عديدة، رغم انني لم اقترب منه كثيرا، كما اقترب بعض زملائي من المحررين العسكريين، كان ابراهيم الرفاعي في رأس العش عام سبعة وستين، وعندما اتجهت إلي الجبهة عام تسعة وستين، مضيت إلي رأس العش ولكن عبر طريق مختلف تماما. مع بدء التصعيد في الاشتباكات اليومية عبر ضفتي القناة، انقطع الطريق المؤدي إلي مدينة بورسعيد بالنسبة للمدنيين بعد يونيو، بدأت القيادة العسكرية المصرية اولي خطوات اعادة البناء في ظروف نفسية قاسية، يمكن القول ان جيشا مصريا حديثا ولد عبر الهزيمة من خلال انضباط صارم، وتوظيف لجميع موارد الدولة. حتي الآن لم يكتب ما يبرز مجريات الامور خلال هذه المرحلة، حتي وان كتب ستظل الفوارق شاسعة بين الواقع وما حفل به من تفاصيل وما خرج إلي الناس من مذكرات ومؤلفات خاصة ان ما جري في حقبة السادات فاق كل تصور، حيث جري تخطي لجميع الثوابت الوطنية فظهر البعض الذين يفصلون بين حربي الاستنزاف واكتوبر لمجرد ان حرب الاستنزاف جرت في زمن جمال عبدالناصر، وقد خضت معركة صحفية طويلة ضد من حاولوا تشويه هذه المرحلة ليس باعتباري كاتبا أو صحفيا متخصصا في الشئون العسكرية، انما باعتباري شاهدا، عاش ورأي وسمع، القيمة العظمي خلال هذه المرحلة يمكن تلخيصها في معني واحد، هو قوة الارادة وهذا العنصر هو المطلوب تشويهه الآن، اعني الفترة التي نعيشها بعد اربعة عقود من يونيو سبعة وستين.