رسالة فى السلوك إلى حضرة ملك الملوك هذه الرسالة الأولى أحمد بن عطاء الله السكندري ذكر فيها الإنسان الصالح من أول ابتداء يقظته من غفلته ، والإعراض عن أهواء نفسه وشهواتها ، ومجاهدتها ، والتوبة إلى الله واستغفاره ، والتخلي عن الدنيا ومتاعها بما فيها من زينة وبهجة ، وبهرج وبهاء ورياسة وجاه ومناصب وأموال ، وصبره وجهاده ومعاناته حتى انتهائه إلى نهاية الطريق ، وفرحه بحضرة ربه وشهود أنواره . وقد أوضح ذلك بعبارة فصيحة رصينة محكمة وأسلوب يحدث في القارئ العظة والاعتبار فقال : 1- " أما بعد فإن البدايات مجلاة النهايات ، ومن كانت بالله بدايته كانت إلى الله نهايته ، والمشتغل به هو الذي أخبيته وسارعت إليه والمشتغل عنه هو المؤثر عليه " من رأيناه في بدايته جادا في طلب الله الملك الحق ، باذلاً كل عزم وتصميم فى سلوكه الصراط المستقيم ، فإنما لنفسه ومبعداً لأهوائه وشهواته ومعرضاً في الدنيا ومتاعبها وصابراً على بلائها وغير عابئ بما يفوته منها شهدتا له ، وتوقعنا له حسن القبول من الله والفوز بالنهاية السعيدة ، إنه ينال أحسن جائزة وهى القربى من الله دنيا وأخرة ، ويشرق قلبه بأنوار الله الذى يؤيده ويسدد خطاه جزاء ما قدمت يداه ، لقد نجح فى مجاهدة نفسه ، وتحمل المعاناة بصبر جميل ، ورضى عن طيب خاطر بالحرمان من متاع الدنيا وسلطانها وجاهها وأموالها ومن يطلب الحسناء لم يغله المهر لقد بذل كل غال ونفيس ، ورضي بحياة الخمول والنسيان وحرم من كل نعيم دنيوي في سبيل غايته الشريفة وبقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي تريد العز ثم تنام ليلاً يغوص البحر من طلب اللالى والبداية تكون بالله للإنسان الصالح الذي يبتغى رضا ربه عندما يتبرأ من حوله وقوته ، ويلجأ في عمله وسيره إلى حول الله وحده ، . فهو في مجاهدته لنفسه ودنياه يعتمد على الهي ويسأله المدد في التوفيق والتسديد والتأييد ، ويقر بعجزه إزاء قدرة الله ، وبضعفه إزاء قوة الله وبذله إزاء عزة الله العزيز المعز ، وبفقره وافتقاره واحتياجه إزاء غنى الله الغنى المغنى الوهاب ، فتكون بدايته حقاً بالله وسيره بالله ، فإلى الله تكون نهايته السعيدة ، وبأسعد من حظي بلقيا الله ورضاه الله وعندما يكون إلى تشتغل به وتهتم به هو الله كان هذا دليلاً على أنك تحب الله وتبذل فى سبيله كل نفس ونفيس ، وتتحمل فى سبيله رضاه كل حرمان ومجاهدة ومعاناة وتعب ومشقة ويقول الله تعالى : " واصبر وما صبرك إلا بالله ، ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يكفرون ، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ، فيكون الله معك كما كنت به وإليه ، إنك أثرت الله وفضلته على كل شئ وهذا هو الجزاء الذي يجزيه من أحسن عملاً " وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، فبأي ألاء ربكما تكذبان " وإنما يوفى الله الصابرين أجرهم بغير حساب 2- ومن أيقن أن الله يطلبه صدق الطلب إليه ، ومن علم أن الأمر كله بيد الله انجمع بالتوكل عليه . إن ما يطلبه الله من الإنسان أن يعرف ربه ، وأن يؤمن بحقوق العبودية فيبادر إلى طاعة الله والقيام بتكليفاته من أوامر ونواه ، وأن يوقن أن الله رب العالمين ، والمتكفل بتيسير الأكوان ورزق من فيها فلا يركبه هم ولا غم ، ولا يشغله تدبير أو اختيار ، إنما يبادر لأداء عمله بإخلاص وإتقان ، معتمداً فى نجاحه والبلوغ إلى غايته على الله المعين ، إن الله يطلب منه أن يذكر الله في كل خطوة من خطواته وفى كل نبضه من نبضاته ، وأن يخشى ربه على الدوام ، فإنه سبحانه يراه ويراقبه ويسجل عليه كل أعماله ، إن صغيره أو كبيرة ، ويوم البعث ينشر كتابه ويحاسبه الله على م قدم من عمل فليس للإنسان إلا ما سعى . فالإنسان الصالح هو الذي لا يثق إلا بالله ولا يعتمد إلا عليه ، فبيده سبحانه أمر الدنيا والآخرة والنفوس والقلوب ، فالإنسان الرابح هو الذي يدرك كل ذلك ويجمع نفسه على ربه ، فيكون في كل أمر بالله وإلى الله وعلى الله ومع الله فيكون معه ، وهذا قوله سبحانه : - " إليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه " - " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " أى كافيه . - " أليس الله بكاف عبده " وعلى ذلك فإنه يعين على كمال الإيمان واليقين وصدق التوكل رفض الدنيا وأهلها . 3- " إنه لابد لبناء هذا الوجود أن تنهدم دعائمه ، وأن تسلب كرائمه ، فالعاقل من كان بما هو أتقى أفرح منه بما هو يفنى ، إنه هو الفائز الرابح ، وقد أشرق نوره ولاحت له الأسرار وظهرت له التأثير ، فصدف عن هذه الدنيا مغضباًَ وأعرض عنها مولياً ، فلم يتخذها وطناً ولا جعلها سكناً ، بل انهض الهمة إلى الله ، وصار فيها مستعيناً بالله فى القدوم عليه " لكي تبغي بناء عمرانياً حسناً مكان بناء خرب فاسد ملئ بالأهواء والشهوات محاط بالعوائق المهلكات ، لابد من هدم هذا البناء الخرب وتقويضه من آثامه وتطهيره من المفاسد ، ثم إزالة ما يحيط به من المعوقات والمفاتن التي قد تفلح في إعادة الفساد إلى أعمله ، فهيا شمر السواعد لهدم هذا البناء الخرب بكل ما يتصل به نفس مسولة ميالة إلى الأهواء والشهوات ويحيط به من دنيا متبهرجة بالزينات تبذل كل جهاد لجذبك من ربك وتحجبك عن رؤية أنواره ، وإنما الذي يعينك على ذلك أولى وأجدر لكي تنال رضاء الله وعفوه ويقول الله عز وجل في محكم آياته في القران الحكيم : " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " والبناء الحسن الجميل الدائم هو عمارة الإيمان واليقين فإن تزينها بالطاعات وتجملها بالأعمال الصالحات يرزقك الله في الدنيا من الطيبات ، ويتجل عليك بأنواره المشرقات ويكافئ مسعاك في الآخرة بحسن القبول وينعم عليك بنعيم الجنات . فإذا عقلت وفهمت وأدركت أن الدنيا فانية ، وإنما هي فترة اختبار يتوقف على أسلوبك فيها مصيرك في الدار الآخرة ، فإن العقل السليم يهديك إلى أن لا تتخذ الدنيا وطناًَ لإقامتك ولا سكناً تزينه وتجمله ، ولكن زين أخرتك الدائمة السرمدية وجملها بعلمك الصالح في فترة الاختيار في حياتك الدنيوية فطهر نفسك واهجر حياة اللهو والتمتع وأنبذ أهواءك وشهواتك واصمد أمام إغراء الدنيا باستعانتك بالله وطاعتك وتبرئك من الحول والقوة ولجوئك إلى حول الله وقوته ، إنه نعم المولى ونعم المصير 4- " فما زالت مطية عزم الراغب في السير إلى ربه لا يفر قرارها ، دائماً تسيارها ، إلى أن أتاحت بحضرة القدس وبساط الأنس في محل المفاتحة والمواجهة والمجالسة والمحادثة والمشاهدة والمطالعة ، فصارت الحضرة معشش قلوبهم إليها يأوون ، وعليها يسكنون لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين " من يرغب أن يسافر سفراً طويلاً يختر مطية قوية تمكنه من الوصول إلى غايته وقديماً كانت هذه المطية هي دابة كجمل أو حصان وحديثاً أصبحت المطية سيارة أو قطاراً أو باخرة أو طائرة ، والرحلة هنا هي السير إلى الله ومعرفته وشهوده ، والتعبير عن الوسيلة التي تتخذ " مطية عزم " هي استعارة بليغة بمعنى أن الوصول إلى الله وملكوته وأنواره يحتاج من المريد إلى عزيمة قوية وجلد ومصابرة حتى يقدر على المجاهدة والمعاناة وتطهير النفس من الدنس ومن الهوى والشهوات ، بذلك يتمكن من إفناء النفس والارتفاع بها لتكون قوية على مجابهة إغراء الدنيا وإغوائها . وطالما هو في سيره وجهاده فهو في شوق مقلق لا يقر له قرار لأنه يخشى أن لا يقوى على مواصلة الجهاد وتخطى العقبات الجسام . وهو يبرأ من حوله وقوته ويلجأ لحول الله وقوته ويسأله التوفيق حتى إذا كتب الله له النجاح في سعيه وصل بنور الله إلى نور الله وحضرته ، لقد فتحت له الأبواب ووصلت الروح لمشاهدة أنوار الله ، وجلست على بساط الكمال ، إنه الآن في الحضرة القدسية ، تقدس الله عن كل وصف لا يليق بذاته ، وإن فضله لعظيم وكرمه ليس له حدود ، كما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام : " سبحانك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنين على نفسك " والعارف بربه ، وهو في الحضرة المقدسة في محل المفاتحة مع ربه ، يفاتح ربه بطلب العطاء ، والله بفاتحه بكشف الغطاء ، ويفاتح ربه بالترقي في المقامات ، والله يفاتحه بأسرار العلوم والمكاشفات ، ثم هو في مواجهة أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، يواجه ربه بالطاعة ، ويواجهه الله بالمحبة ، ويواجه ربه بالإقبال عليه ، وهو سبحانه يواجهه بالوصال وبالأنوار والأسرار ، ثم هو يجالس ربه بالذلة والحياء ، والله يجالسه بالتقريب والاجتباء ، وهو يجالس ربه بذكره والله سبحانه يجالسه بذكر أكبر من ذكره وببر وفضل وكرم وهو سبحانه القائل : ( فاذكروني أذكركم ) و ( ولذكر الله أكبر ) أما المحادثة ، فالعارف يحادث ربه بالمناجاة والأذكار والسؤال والدعاء وتلاوة القرآن ، والله يحادثه بمزيد إحسانه ونواله ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام ما معناه : " إذا أردت أن تكلم ربك فأقرأ القرآن ، إذا أردت أن تستمع إلى ربك فاستمع بإنصات إلى من يقرأ القرآن " . وأما المشاهدة وهى قمة المقامات وهى كشف رداء الصون عن الكون ، فيطالع العارف ربه بالتوجه والتطلع والقبول بقضاء الله والرضا بأحكامه ، والله سبحانه يكشف عنه الحجاب ويوسع عليه القضاء ويطالعه ربه بالمحبة والوصال ، فإذا سكنت الروح في هذه المراتب صارت الحضرة مأواها ومأواها ، يأوون إليها ويأنسون بكرم الله وجوده ( وكان فضل الله عليك كبيراً ). 5- " فإن نزلوا إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ فبالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين ، فلم ينزلوا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة ، ولا الحظوظ بالشهوة والمتعة ، بل دخلوا في ذلك بالله ومن الله وإلى الله ، وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ليكون نظري إلى حولك وقوتك إذ أدخلتني ، وانقيادي إليك إذ أخرجتني ، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيرا ولا ينصر على وينصرني على شهوم نفسي ويغنيني عن دائرة حسي" في الحضرة القدسية يفنى العارف بربه والمتمكن من قدراته وعظمته ، يفنى بشهود أنواره عن الدنيا وما فيها ومن فيها ، فإذا شاء الله له أن يخالط الناس وأن يهبط من برجه العاجي إلى دنيا الناس ، فذلك لكي يأخذ بأيدي الناس إلى معرفة ربهم ، ولكي يستمع لشئونهم ومشاكلهم ورغباتهم فيقدم لهم مما منحه الله من العلم والمعارف والنصح والتوجيه ، فليس أنه سعى للهبوط إلى دنياهم لأنه انتابته رغبة شخصية أو شهوة أو متعة ، فهو بالله وإلى الله معه سواء في الوقت الذي يبقى فيه في حضرة ربه أو في الوقت الذي ينزل إلى سماء الحقوق ودنيا الحظوظ . فإن الله هو الذي أدخله مدخل صدق في حضرته وهو الذي يخرجه مخرج صدق وهو في الحالتين منقاد لمشيئة ربه مبتغ رضاه ، سائل له التوفيق والتسديد والله سبحانه يجعل له من لدنه سلطاناً بصيراً فهو وهو في دنيا التأسي محاط بالأهواء والشهوات والمغريات فإن الله لينصره ويحفظه من شهود نفسه ويفنى فيه كل رغبة فيفنيه عن دائرة حسه . وهكذا فإن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس وصدها ومنعها وحجبها عن الأهواء والشهوات والمغريات فكل ما يجذب الإنسان ويغره ويغويه ويبعده عن عبادة ربه وطاعته يجدر بالإنسان الذي يريد ربه هجرته وإفناء نفسه عنه وجعل نظره منصباً على الله فلا يلتفت إلى الدنيا وما فيها ويسقطها من نظره ومن حسابه والله نعم النصير ..