«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التنوير في إسقاط التدبير لتاج العارفين ابن عطاء الله السكندري
نشر في شموس يوم 20 - 09 - 2012


مقدمة الكتاب :
قال الشيخ الإمام العارف القدوة المحقق تاج العارفين لسان المتكلمين إمام وقته وأوحد عصره حجة السلف وإمام الخلف قدوة السالكين وحجة المتقين تاج الدين أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندري رضي الله عنه وأرضاه ونفعنا به ونفع به كافة المسلمين إنه سميع قريب مجيب:
الحمد لله المنفرد بالخلق والتدبير، الواحد في الحكم والتقدير، الملك الذي { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }. ليس له في ملكه وزير. المالك الذي لا يخرج عن ملكه كبير ولا صغير. المقدس في كمال وصفه عن الشبيه والنظير. المنزه في كمال ذاته عن التمثيل والتصوير. العليم الذي لا يخفى عليه ما في الضمير. {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.
العالم: الذي أحاط علمه بمباديء الأمور ونهاياتها.
السميع: الذي لا فضل في سمعه بين جهر الأصوات وإخفاتها.
الرزاق: وهو المنعم على الخليقة بإيصال أقواتها.
القيوم: وهو المتكفل بها في جميع حالاتها.
الوهاب: وهو الذي منّ على النفوس بوجود حياتها.
القدير: وهو المعيد لها بعد وجود وفاتها.
الحسيب وهو المجازي لها يوم قدومها عليه بحسناتها وسيئاتها.
فسبحانه من إله منّ على العباد بالجود قبل الوجود، وقام لهم بأرزاقهم مع كلتا حالتيهم من إقرار وجحود. وأمد كل موجود بوجود عطائه، وحفظ وجوده ووجود العالم بإمداد بقائه، وظهر بحكمته في أرضه، وبقدرته في سمائه. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة عبد مفوّض لقضائه، مستسلم له في حكمه وإمضائه. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، المفضَّل على جميع أنبياءه، المخصوص بجزيل فضله وعطائه، الفاتح الخاتم، وليس ذلك لسِوائه، الشافع في كل العباد حتى يجمعهم الحق لفصل قضائه، صلى الله عليه وعلى سائر أنبيائه، وعلى آله وصحبه المستمسكين بولائه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد.. اعلم يا أخي جعلك الله من أهل حبه، وأتحفك بوجود قربه، وأذاقك من شراب أهل وده، وأمنك بدوام وصله من إعراضه وصده، ووصلك بعباده الذين خصّهم بمراسلاته، وجبر كسر قلوبهم لمّا علموا أنه لا تدركه الأبصار بأنوار تجلياته، وفتح رياض القرب وأهب منها على قلوبهم واردات نفحاته، وأشهدهم سابق تدبيره فيهم، فسلموا إليه القياد، وكشف لهم عن خفي لطفه في صنعه، فخرجوا عن المنازعة والعناد. فهم مستسلمون إليه، ومتوكلون في كل الأمور عليه، علما منهم أنه لا يصل عبدٌ إلى الرضا إلا بالرضا، ولا يبلغ إلى صريح العبودية إلا بالاستسلام إلى القضا، فلم تطرقهم الأغيار، ولم ترد عليهم الأكدار.. كما قال قائلهم:
لا تهتدي نُوَبُ الزمان إليهمُ *** ولهم على الخطب الشديد لجامُ
تجري عليهم أحكامه وهم لجلاله خامدون، ولحكمه مستسلمون.
كما قال:
تجري عليك صروفه *** وهموم سِرِّكَ مُطرِقة
وإن من طلب الوصول إلى الله تعالى، فحقيق عليه أن يأتي الأمر من بابه، وأن يتوصل إليه بوجود أسبابه. وأهم ما ينبغي تركه والخروج عنه والتطهر منه: وجود التدبير ومنازعة المقادير. فصنّفتُ هذا الكتاب مبيّنا لذلك، ومُظهرا لما هنالك. وسميته: "التنوير في إسقاط التدبير" ليكون اسمه موافقا لمسماه ولفظه مطابقا لمعناه. والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبله بفضله العميم، وأن ينفع به الخاص والعام، بمحمد عليه الصلاة والسلام، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.
- التسليم وعدم التدبير
قال الله سبحانه وتعالى:
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
وقال تعالى:
{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى}.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أعبد الله بالرضا، فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير).
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على ترك التدبير ومنازعة المقادير، إما نصا صريحا، وإما إشارة وتلويحا.
وقد قال أهل المعرفة: "من لم يُدبِّر دُبِّرَ له".
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: "إن كان ولا بد من التدبير، فدبروا أن لا تدبروا".
وقال أيضا: "لا تختر من أمرك شيئا، واختر أن لا تختار، وفرّ من ذلك المختار، ومن فرارك، ومن كل شيء إلى الله تعالى، وربك يخلق ما يشاء ويختار". فقوله تعالى في الآية الأولى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، فيه دلالة على أن الإيمان الحقيقي لا يحصل إلا لمن حكّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على نفسه، قولا وفعلا، وأخذا وتركا، وحبا وبغضا، ويشمل ذلك حكم التكليف، وحكم التصريف والتسليم، والانقياد واجب على كل مؤمن في كليهما. فأحكام التكليف: الأوامر والنواهي المتعلقة باكتساب العباد. وأحكام التصريف: هو ما أورده عليك من قهر المراد. فتبين من هذا أنه لا يحصل لك حقيقة الإيمان إلا بأمرين: بالامتثال لأمره، والاستسلام لقهره.
ثم إنه سبحانه وتعالى، لم يكتف بنفي الإيمان عمن لم يحكّم، أو حكّم ووجد الحرج في نفسه على ما قضى، حتى أقسم على ذلك بالربوبية الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم، رأفة وعناية، وتخصيصا ورعاية، لأنه لم يقل: {فلا والرب}، وإنما قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم}.
ففي ذلك تأكيد بالقسم، وتأكيد في المقسم عليه. علما منه سبحانه بما النفوس منطوية عليه من حب الغلبة ووجود النصرة، سواء كان الحق عليها أو لها. وفي ذلك إظهار لعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم، إذ جعل حُكمه حُكمه، وقضاءه قضاءه، فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه، والانقياد لأمره؛ ولم يقبل منهم الإيمان بإلهيته حتى يذعنوا لأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم. لأنه كما وصفه ربه: {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى}. فحُكمه حُكم الله، وقضاؤه قضاء الله. كما قال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله}. وأكد ذلك بقوله: {يد الله فوق أيديهم}.
وفي الآية إشارة أخرى لعظيم قدره، وتفخيم أمره صلى الله عليه وسلم، وهي قوله تعالى:
{فلا وربك}. فأضاف نفسه تعالى إليه، كما قال في الآية الأخرى: {كهيعص. ذكر رحمة ربك عبده زكريا}. فأضاف الحق سبحانه اسمه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأضاف زكريا إليه، ليعلم العباد فرق ما بين المنزلتين، وتفاوت ما بين الرتبتين. ثم إنه لم يكتف بالتحكيم الظاهر فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فقدان الحرج، وهو الضيق في نفوسهم من أحكامه صلى الله عليه وسلم، سواء كان الحكم بما يوافق أهوائهم أو يخالفها. وإنما تضيق النفوس لفقدان الأنوار، ووجود الأغيار، فمنه يكون الحرج وهو الضيق، والمؤمنون ليسوا كذلك، إذ نور الإيمان ملأ قلوبهم، فاتسعت وانشرحت، فكانت واسعة بنور الواسع العليم، ممدودة بوجود فضله العظيم، مهيأة لواردات أحكامه، مفوضة إليه في نقضه وإبرامه.
2- تقوية الحق لعبده فيما يورده عليه
فائدة: اعلم أن الحق سبحانه، إذا أراد أن يقوّي عبدا على ما يريد أن يورده عليه من وجود حكمه، ألبسه من أنوار وصفه، وكساه من وجود نعته، فتنزلت الأقدار وقد سبقت إليها الأنوار، فكان بربه لا بنفسه، فقوي لأعبائها، وصبر للأوائها.
وإنما يعينهم على حمل الأقدار، ورود الأنوار.
وإن شئت قلت: وإنما يعينهم على حمل الأحكام، فتح باب الأفهام.
وإن شئت قلت: وإنما يعينهم على حمل البلايا، واردات العطايا.
وإن شئت قلت: وإنما يقويهم على حمل أقداره، شهود حسن اختياره.
وإن شئت قلت: وإنما يصبّرهم على وجود حكمه، علمهم بوجود علمه.
وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على ما جرى، علمهم بأنه يرى.
وإن شئت قلت: وإنما يصبّرهم على أفعاله، ظهوره عليهم بوجود جماله.
وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على القضا، علمهم بأن الصبر يورث الرضا.
وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على الأقدار، كشف الحجب والأسفار.
وإن شئت قلت: وإنما قواهم على حمل أثقال التكليف، ورود أسرار التصريف.
وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على أقداره، علمهم بما أودع فيها من لطفه وإبراره.
فهذه عشرة أسباب توجب صبر العبد وثبوته لأحكام سيده، وقوته عند ورودها. وهو المعطي لكل ذلك بفضله، والمانّ بذلك على ذوي العناية من أهله. ولنتكلم الآن على كل قسم منها لتكمل الفائدة وتحصل الجدوى والفائدة.
فأما الأول وهو: "إنما يعينهم على حمل الأقدار، ورود الأنوار":
وذلك أن الأنوار إذا وردت كشفت للعبد عن قرب الحق سبحانه وتعالى منه، وأن هذه الأحكام لم تكن إلا عنه، فكان علمه بأن الأحكام إنما هي من سيده سلوة له، وسبب لوجود صبره. ألم تسمع لما قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واصبر لحكم ربك، فإنك بأعيننا}. أي: ليس هو حكم غيره فيشق عليك، بل هو حكم سيدك القائم بإحسانه إليك، ولنا في هذا المعنى:
وخفف عني ما ألاقي من العنا *** بأنك أنت المبتلي والمقدر
وما لأمري عما قضى الله معدل *** وليس له منه الذي يتخير
ومثال ذلك: لو أن إنسانا في بيت مظلم، فضُرب بشيء ولا يدري من الضارب له، فلما أدخل عليه مصباح: نظر فإذا هو شيخه أو أبوه أو أميره. فإن علمه بذلك مما يوجب صبره على ما هنالك.
الثاني: وهو قوله: "إنما يعينهم على حمل الأحكام، فتح باب الإفهام":
إذا أورد الله تعالى على عبده حُكما، وفتح له باب الفهم عنه في ذلك الحكم فاعلم أنه أراد سبحانه أن يحمله عنه، وذلك أن الفهم يرجعك إلى الله، ويحثك إليه، ويجعلك متوكلا عليه، وقد قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}. أي كافيه وواقيه، وناصره على الأغيار وراعيه، لأن الفهم عن الله يكشف لك عن سر العبودية فيك، وقد قال سبحانه وتعالى: {أليس الله بكاف عبده}. وكل هذه الوجوه العشرة ترجع إلى الفهم عنه، وإنما هي أنواع فيه.
الثالث: وهو قوله: "إنما يعينهم على حمل البلايا، واردات العطايا":
وذلك أن واردات العطايا السابقة من الله إليك، تذَكُرك لها مما يعينك على حمل أحكام الله، إذ كما قضى لك بما تحب، اصبر له على ما يحب فيك. ألم تسمع قوله تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها}. فسلاهم الحق فيما أصيبوا بما أصابوا؛ وهذا من العطايا السابقة. وقد يقترن بالبلايا في حين ورودها، ما يخففها على العباد المقربين، من ذلك أن يكشف لهم عن عظيم الأجر الذي ادخره لهم في تلك البلية. ومنها ما ينزل على قلوبهم من التثبيت والسكينة. ومنها ما يورده عليهم من دقائق اللطف وتنزلات المنن، حتى كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يقول في بعض مرضه: "أشدد خنقك".
وحتى قال بعض العارفين: لقد مرضت مرضة، فأحببت أن لا تزول، لما ورد علي فيها من أمداد الله تعالى، وانكشف فيها من وجود غيبته" أه. وللكلام في سبب ذلك موضع غير هذا.
الرابع، وهو: "إنما يقويهم على حمل أقداره، شهود حسن اختياره":
وذلك أن العبد إذا شهد حسن اختيار الله تعالى له، علم أن الحق سبحانه لا يقصد ألم عبده لأنه به رحيم {وكان بالمؤمنين رحيما}. وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة معها ولدها فقال: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعبده المؤمن من هذه بولدها). غير أنه سبحانه يقضي عليك بالآلام لما يترتب عليه من الفضل والإنعام، ألم تسمع قوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}.
ولو وكل الحق سبحانه العباد إلى اختيارهم لحرموا وجود منته، ومنعوا الدخول إلى جنته، فله الحمد على حسن الاختيار. ألم تسمع قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم}. وإن الأب المشفق يسوق لابنه الحجام لا بقصد الإيلام. وكالطبيب الناصح، يعانيك بالمراهم الحادة، وإن كانت مؤلمة لك، ولو طاوع اختيارَك لبَعُد الشفاء عليك. ومن مُنع وعَلِم أن المنع إنما هو إشفاق عليه، فهذا المنع في حقه عطاء. وكالأم المشفقة تمنع ولدها كثرة المأكل خشية التخمة.
ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى:
"اعلم أن الحق سبحانه وتعالى إذا منعك لم يمنعك عن بخل، وإنما يمنعك رحمة لك، فمنع الله لك عطاء، ولكن لا يفهم العطاء في المنع إلا صديق". وفي كلام أثبتناه في غيره هذا الكتاب: إنه ليخفف عنك ألم البلايا، علمك بأنه سبحانه وتعالى المبتلي، لك فالذي واجهتك من الأقدار، هو الذي له فيك حسن الاختيار.
الخامس: وهو قوله: "إنما صبرهم على وجود حكمه: علمهم بوجود علمه":
وذلك: أن علم العبد بأن الحق سبحانه مطلع عليه فيما ابتلاه يخفف عنه أعباء البلايا، ألم تسمع قوله تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}. أي ما تلقاه يا محمد من كفار قريش من المعاندة والتكذيب فليس بخاف علينا. والحكاية المشهورة: أن إنسانا ضرب تسعة وتسعين سوطا ولم يتأوه، فلما ضرب السوط الذي هو تمام المائة تأوه، فقيل له في ذلك؟ قال: كان الذي ضربت من أجله في الحلقة في التسعة والتسعين فلما ولى عني أحسست بالألم).
السادس: وهو "إنما صبرهم على أفعاله، ظهوره عليهم بوجود جماله":
وذلك: أن الحق سبحانه وتعالى، إذا تجلى على عبده في حين ملاقاته، لمر غلبة البلايا، حمل حرارتها عنه لما أذاقه من حلاوة التجلي، فربما غيبهم ذلك على الإحساس بالألم، ويكفيك في ذلك قوله تعالى: {فلما رأينه أكبرنه، وقطعن أيديهن}.
السابع: وهو "إنما صبرهم على القضا علمهم بأن الصبر يورث الرضا":
وذلك: أن من صبر على أحكام الله، أورثه ذلك الرضا من الله، فتحملوا حرارتها طلبا لرضاه، كما يتحسى الدواء المر لما يرجى فيه من عاقبة الشفاء.
الثامن: وهو "إنما صبرهم على الأقدار: كشف الحجب والأستار":
وذلك: أن الحق سبحانه وتعالى، إذا أراد إن يحمل عن عبد ما يورده عليه، كشف الحجاب عن بصيرة قلبه فأراه قربه منه، فغيبه أنس القرب عن إدراك المؤلمات. ولو أن الحق سبحانه وتعالى تجلى لأهل النار بجماله وكماله لغيبهم ذلك عن إدراك العذاب، كما انه لو احتجب عن أهل الجنة لما طاب لهم النعيم. فالعذاب إنما هو: وجود الحجاب، وأنواع العذاب مظاهره، والنعيم إنما هو: بالظهور والتجلي، وأنواع النعيم مظاهره.
التاسع: وهو "إنما قواهم على حمل أثقال التكاليف، ورود أسرار التصريف":
وذلك: لأن التكاليف شاقة على العباد، ويدخل في ذلك امتثال الأوامر، والانكفاف عن الزواجر، والصبر على الأحكام، والشكر عند وجود الأنعام. فهي إذن أربعة: طاعة، ومعصية، ونعمة، وبلية. وهي أربع لا خامس لها: والله عليك في كل واحدة من هذه الأربع عبودية يقتضيها منك بحكم الربوبية.
فحقه عليك في الطاعة: شهود المنة منه عليك فيها.
وحقه عليك في المعصية: الاستغفار لما ضيعت فيها.
وحقه عليك في البلية: الصبر معه عليها.
وحقه عليك في النعمة: وجود الشكر منك فيها.
ويحمل عنك أعباء ذلك كله: الفهم. وإذا فهمت أن الطاعة راجعة إليك وعائدة بالجدوى عليك، صبرك ذلك على القيام بها. وإذا علمت أن الإصرار على المعصية والدخول فيها، يوجب العقوبة من الله آجلا، وانكشاف نور الإيمان عاجلا، كان ذلك سببا للترك منك لها.
وإذا علمت إن الصبر تعود عليك ثمرته، وتنعطف عليه بركته، سارعت إليه، وعولت عليه.
وإذا علمت أن الشكر يتضمن المزيد من الله لقوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم}، كان ذلك سببا لمثابرتك عليه، ونهوضك إليه.
وسنبسط الكلام على هذه الأربع في آخر الكتاب، ونفرد لها فصلا إن شاء الله تعالى.
العاشر: وهو "إنما صبرهم على أقداره، علمهم بما أودع فيها من لطفه وإبراره":
وذلك أن المكاره أودع الحق تعالى فيها وجود الألطاف. ألم تسمع قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}. وقوله عليه الصلاة والسلام: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. وفي البلايا والأسقام والفاقات من أسرار الألطاف ما لا يفهمه إلا أولوا البصائر. ألم تر أن البلايا تخمد النفس وتذلها، وتدهشها عن طلب حظوظها ويقع من البلايا وجود الذلة، ومع الذلة تكون النصرة: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.