"الوحدة" من الكلمات القليلة التي تحمل المعنى وضده في آن ؛ فقد نقول في العامية "الوحدة صعبة" أو "الوحدة مرّة" ، أو نقول "فلان قتلته الوحدة" .. هذا إتجاه ، ومعنى الكلمة هنا هو (الإنفصال والتخلي عن الآخر) .. أما "الوحدة" في معناها الآخر ؛ فقد نجدها في تعبيرات مثل "وحدة الصف" ، "وحدة الدول العربية" ، "وحدة التفكير" .. والمعنى هنا هو (الإتحاد والتكاتف). لكن ما سبب الديناميكية في هذه الكلمة حتى أنها تحمل المعنى وضده؟ .. السبب الحقيقي أن المعنيان لا ينفصلان وكلاهما ضروري للآخر ، ولا يوجد بالفعل وحدة مطلقة .. فمثلا قد نقول على الشخص الوحيد أنه (يحيا مع ذاته) أو بالبلدي (عايش مع نفسه) .. حتى الفرد الواحد يمكن تفسيره (بعقل وجسد ومشاعر) مجتمعه في كيان (واحد) ، حتى الذرّة الواحدة هي تآلف من مجموعة (إلكترونات ونواة) .. ولو قلنا أن النواة هي الشئ المتفرد الذي تتجلى فيه الوحدانية ، لخاب ظننا ووجدناها (بروتينات ونيوترينات) .. ولا تحاول أن تلجأ لأخذ "بروتون" كوحدة نقية ؛ لأنك ستجده قد تفتت إلى ما يسمى "كواركات" مجتمعة معًا .. وهنا قد يسيل لعابك وتقول بالعامية "ملحوقة" ؛ فلنأخذ "الكوارك" كوحدة وحيدة لا تقبل التفتيت .. هنا ستُصدَم أن هذا الكوارك ما هو إلا صورة من الطاقة ولا يمكن أن يظهر بشكل مفرد حُر .. سبحانك يا الله ، وكأن الوجود والعدم مترادفان .. تمامًا مثل الموت والحياة .. فخلايا الإنسان تموت وتحيا غيرها في نفس اللحظة ، والموت هو الذي يسبب الحياة .. والحياة لوحدها غير كافية للحياة .. لأن المعادلة (حياة + موت = حياة) .. أما الحياة المحضة غير موجودة إلا في خيالنا .. لنتذكر ما هو السرطان؟ إنه تفوق معدل الحياة عن معدل الموت .. فيصبح مرضًا ثم هلاكًا .. حتى الأرض كجسد كبير .. إن لم يمت بعض البشر بمعدل معقول لتسرطنت الأرض وفني الجميع وذهبت الحياة. ألم أقل لكم أنها – أي الوحدة - كلمة ديناميكية!! (تأتي حتشبسوت) - ماذا تكتب اليوم يا صديقي؟ - حتحت حبيبتي .. أكتب مقالاً عن الوحدة ، وغالبًا هتوّه القارئ معايا كالعادة .. فياريت تحلقيهم وتقوليلنا كلمتين حلوين. - نعم .. "الوحدة" من العدد "واحد" ، والفعل "يتوحّد" أو "يتّحد" ، والحال هو "مُتّحد" أو "مُوحّد" ، والجذر الأصلي "حد". - كلام زي الفل .. ها كملي. - دعني أكلمك عن الفعل "يتحد" وهو لب الموضوع ؛ فقد كان لذلك الفعل عندنا مفردات كثيرة ، أذكر لك منها كلمة "دمچ" بمعنى (يتّحدُ ؛ يُوحِّد) ، كما تأتي بمعنى (يُعيْدُ تَجْميعَ جَسَدًا مُمَزّقًا) (Fr. P.313). - تصوّري .. نفس الكلمة عندنا بالظبط ، فنقول "دمج" ، "يدمج" ، "اندماج" .. لكن أنا ملاحظ صورة علمين متقاطعين .. يا ترى أيه السبب؟ - بالفعل لأننا كنا نستخدم تلك الكلمة في العادة للتعبير عن "توحيد الأراضي" بالذات ، وكان شعورنا أن الوطن كالجسد وعدم وحدته يعني تمزيقه. - كلام جميل .. طب والكلمة التانية؟ - الكلمة الثانية هي كلمة "دمّ" بمعنى (يتحد مع) (Bdg. 878). وهي تقابل في عصركم الحالي "ضمّ" ؛ فنقول "ضمّت الدجاجة أفراخها تحت جناحيها" ، ولتلك الكلمة عندنا رومانسيتها الخاصة. - يااااه ، رغم أن الكلمة دي مجرد حرفين ، لكن عارفة بتفكرني بالأم لما تضم إبنها لصدرها ساعة الخوف .. أكيد الولد لما يحس بصدر أمه ويحس بالتوحد معاها وكأنه صار جزء منها ، ساعتها بيشعر بالقوة والأمان. والظاهر عشان كده كل ما يكون الحدث مخيف أكتر ، كل ما الأم تضغط على أبنها وهي بتضمه عشان يتوحد في جسمها ويدوب فيها ويحس بالأمان. - أيه الأحساس العالي ده. - تصوري يا حتحت أثناء ما بوصفلك شعوري ده ، كان في خلفية دماغي كلمات أغنية "يا بلدنا يا بلد ، هو من إمتى الولد ، بيخاف من امه ، لما فى الضلمة تضمه" .. وفي ودني اللحن بتاع المقطع الأخير من أول "بيخاف من أمه" .. قد أيه لحن حزين كله شجن خلى الدمعة تفر من عيني .. طب والكلمة التالتة أيه؟ - هناك كلمة "حتر" بمعنى (يتحد ، يتصادق ، يتتوأم) .. ماذا ترى فيها؟ - الله .. أنا عيني بتشتاق للكلمة دي .. معقولة الكلمة عبارة عن رسم لشابين واقفين جنب بعض وكل واحد مادد أيده وحاططها في إيد التاني .. كأن الأيد في الأيد بتقول (إيد واحدة) .. أيه الجمال ده يا حتحت!! - إنها تقول (إيد واحدة) أي (إتحاد) ، كما تقول (إخاء) ، (صداقة) ، (حب) ، (سلام) ، (قوة) .. إلخ - أنا فاكر إن "حتر" هي الجذر لكلمة "حنتور" العامية. - تمامًا وهي الأصل لكلمة "عترة" أيضًا .. ألا تذكر؟ - فعلاً العترة هو الجدع إبن البلد إللي إيده في إيد صاحبه على طول .. لكن تعرفي يا حتحت إنتي فكرتيني بأغنية جوز الخيل بتاعة هدي سلطان لما بتقول "إن شد السُّرع بإيده يمين .. يحودوا زي البنيآدمين" .. فعلاً أنا عمري ما شفت أي واحد من جوز الخيل دول نفسه يمشي عكس التاني .. أو واحد عاوز يقف والتاني يمشي .. غريب الخيل ده .. حقيقي فاق البنيآدمين! - أتعلم يا صديقي .. إن الحنتور يذكرني بمصر. - قصدك إن مصر هي عربية الحنتور في مسيرتها ، والشعب هو جوز الخيل بصفته مسلم ومسيحي؟. - بالظبط ، وممكن تقول عربية الحنتور هي مصر كمكان ، ومن بداخلها هو شعب مصر في مفهومه الأُسَرِي. - حقيقي يا حتحت شوقتيني أركب الحنتور وأتحنتر .. لاحظي كمان إنها بتقول "سوق يا اسطى لحد الصبحية" .. يعني الشعب مستمتع بمسيرة التنمية والتوافق. - لاحظ كمان إن جوز الخيل بيقودهم من فوق واحد بس بيدبر الطريق السليم والخيل بتطيعه ، وبيقول لمصر "على راسي يا هانم وعنيه". - حاجة حلوة فعلاً .. بس إنتي لخبطيني واتلخبطت عندي المعاني بين الوحدة والحب والحنان !! - هذا بالضبط ما أريد إيصاله لك .. لا يتوحد إلا الأحباء ، فكلمة الوحدة تحمل في طياتها معاني كثيرة ؛ الاقتناع ، الحب ، قبول الآخر على اختلافه الظاهري ، التجاذب ؛ فقطبي المغناطيس يبدوان مختلفان من حيث السلب والإيجاب ، بينما كل منها مازال مغناطيسًا له نفس القوة والتأثير. - الله عليكي .. كنتوا عظماء في كل شئ ، وهتفضل مصر عظيمة. - وأريد أن أطمئنك أن أرض مصر لا تشرب دماء الشهداء لتظل شاهدة على الفاعل ، بينما تضُم جسد الشهيد في أحضانها. - يااااه .. فكريني كده بكلمة "يدفن" يعني أيه بالمصرية القديمة؟ - كنا نقول "تاوي" ، ومازال عندكوا في الصعيد يقولون "يتاوي الجتة" بمعنى (يدفنها) ، وهي تعني حرفيًا (يُحتضَن في الأرض). - حتحت مش هقولك غير أحضنيني بشعرك الجميل .. قوليلي شعر يوصف شاب رايح الميدان وبيحضن أمه ويطلب دعواتها .. وما يعرفش ان بعد ساعات هيكون شهيد. ضميني يا أمي وأحضني .. إبنك ده رايح الميدان إدعيلي يا أمه وطمني .. كل الحبايب والخلان وإن عدت يا أمه من جديد .. يبقى أقله مش جبان وإن دمي سال هبقى شهيد .. ومصر تحضني كمان دمي لا يمكن تشربه .. أم البلاد أم المجيد إياكي تبكي وزغردي .. خلاص بقيتي أم الشهيد سامح مقار 18 مايو 2011