اعلم يا صديقي أن الدنيا ليستْ ما يمنحُه لكَ غيرُك، ولا ما تنالُه من حظِّ نفسك، ولا ما يؤولُ لك عبر الميراثِ دون عناءٍ، بلْ قيمتك تقاسُ بمقدار ما تمنحه أنتَ للآخرين، وإن لم تزدْ على الدنيا بحسن فِعالك كنتَ أنتَ الزائدُ عليها، وإنْ لم تتركها على وجهٍ أفضل مما وجدتها، فقد عرفتها ولم تعرفك، ولن تذكرك. فبعضُ الناس لا تتعدى دنياه حدودَ نفسه وحظوظها، يدور في فلكِ ذاته، ذاقتْ نفسُه طعمَ نفسه، فينهش فيها ويضعفها، فسقفُ إشباع الجسد لا حدَّ له، لكنْ دنيا العظيم ربما تجاوزت قارةً بأكملها، فنجده يحملُ همومَ الناس على عاتقه، آلامهم هي ذاتُ آلامه، يسعد قرير العين في العطاء، ينسى نفسه وحظها، وساعاتُ الراحة لديه بعد أيام من التعبِ ....هي في ذاتها كأيام من الراحة بعد ساعةٍ من التعب، هكذا يرى المجتهد نصبَّهُ واجتهاده. واعلم يا هذا أن للجسم عُمُراً ...وللروح أجلاً، وكتابُك صفحاته محدودة، وأجلك أيامه معدودة، والعمر يتسرب من بين الأنامل كما يتسربُ الماءُ عبر إسفنجةٍ هشة، وأعمالك وما تفيده للإنسانية هي عُمُرك الروحي، وفرقٌ بين عمرك الذي تعيشه، وعمرك الذي سيظل من بعدك ويضئ للآخر، فلتكن يا صديقي كالمصرف الذي يُودَعُ فيه الأموالُ، يزيدها فلا تنقص، ومثل الصدقة التي تنمي الأصل فلا يقل، فلتكن مستودعاً للفضائل تحفظها فلا تبيد، وتُخْرِجُ منها فتزيد، فالرجل الفاضل فاضلٌ تصيبه النكبة فيزيد صبرا،ً ويعودُ أفضل من ذي قبل، ويرميه البعضُ بالسيئاتِ لاختبار الحسنات في داخله، ويُبتلى بالخيانةِ ليردها بالوفاء، ويمقته البعض ليقابلَ ذلك كله بالحبِّ، وبالتي هي أحسن ويدعو لهم، فالتسامح كله حسن ولا سقف له، والرجل الصالح في أرقى حالاته يدعو لظالميه بالخير والهداية، وفي أسوأ حالاته إن لم يحب فلا يكره، وإن لم يعفُ فلا يظلم. واعلم أيها المبتلى أن الخير وعظائم الأمور والجمال رموزٌ وحقائق لا نهاية لها، تماماً كالهواء الذي نتنفسه، لا يفنى ولا يعرف مفهوم النهاية، كذلك يا صديقي النور الذي ينبعثُ من الشمس والكواكب ليضئ للحيارى دروبهم.كنْ يا صديقي كالشجرة دائماً بفروعها تنمو صاعدة، وبجذرها تضرب في ظلام الأرض نازلة، وحين يستعملك الله ويختارك فقد غرسك شجرة في منبتها لتنمو للآخر، ولو قذفها الناس بالحجر فلن تعطي إلا أطيب الثمر، والكثير من الناس يتعب ويجتهد كي يفوز ببعض اللذة، وما أن يفوز بها إلا ويزهد فيها ويبحث عن غيرها، وكل لذة مهما كانت عظيمة تتناقص تدريجياً عند تعاطيها إلا لذة الطاعة والقرب من الله، والبلية كل البيلة يا صديقي أن ينظر الإنسانُ بغير عين الرضا مهما طاله من بلاء، فعلى قدر قربك أو بعدك من الله يكون البلاء، فأكثر الناس بلاء هم الأنبياء ثم الذين يلونهم. فمن الناس من يختارهم الله ليكونوا بمثابة سنابل القمح، يُنبتون ويُحصدون ويُطحنون ويُعجنون ويُخبزون ليكونوا للإنسانية غذاءً في بعض فضائلهم، ومنهم وبهم نستدين الإرادة والهمة حين الضعف، وهؤلاء هم مصابيح الإنسانية التي تبدد ظلمة الانقلاب وعتمة النفس، وهم عرائس الشمع التي تذوب مانحة الضوء ليهدى الحيارى وضالي الدروب، فأنت أيها المبتلى اصطفاك الله لسابق علمه عن الخير الكامن في أغوار نفسك، وعلى قدر ابتلائك يمنحك الصبر والسكينة. والعقل الروحاني يا صديقي ثمرة من ثمرات الإيمان، يجعلُ النفس تقودُ وتتصرفُ في غرائزها، فتسمو الروح فتكون أكبر من مصائبها وإن عظمت، وأسمى من جلِّ لذاتها وإن دانت، وهذا العقل الروحاني الذي يفرزُ الإيمان هو ذاته يخلقُ في النفس معنى الرضا بالقدر خيره وشره، وله تأويلٌ في كل هموم الدنيا، فتصبحُ المحنُّ مِنحاً، وتضع في النكباتِ معاني جليلة تنزع منها الشرَّ وما يؤذى النفس، فتبدو المصيبةُ هينة مادامت لا تتألم الروح بها، والمؤمن على كل حال يرى نكباته ثواباً ساقه الله إليه على غير موعد، فيصبح الفقر ضرباً من الزهد والورع والتقشف، والمرضُ نوعاً من الجهاد والمثابرة والجلد، والحزن وجهاً من وجوه الأمل والرجاء والتفاؤل،,والاعتقال مجرد تلبية لنداء الله لك في أن تغير محل إقامتك ليس إلا، وفى النفس حياة ما حولها قبل حياتها، فإذا قويتْ النفسُ وقنعت وأذعنت في الرضا بالقدر... أذلت الدنيا، وإذا ضعفتْ نفسك وخارت قواكَ... أذلتك الدنيا، فالاطمئنانُ بالإيمان يزيل ويخففُ كلَّ خوفٍ دنيوي بعين الرضى، ويجرد هذا الخوف من أوهامه باعتبار أن الحياة بكلِّ ما فيها إلى الموت سائرة. (ألا بذكر الله تطمئنُ القلوبُ).