مرة أخرى ، يُبدع القضاء المصري كعادته لترتفع هامته أكثر فأكثر ، فبالرغم من تعرضه لضغوط نفسية كثيرة مورست عليه من قِبل جهات مسئولة في الدولة ، والتشكيك في أهم ما يملك من عنصر النزاهة التي هي من أولى ركائزه ودعائمه . تلك الجهات التي حاولت عبثا وضع بعض الإملاءات لتغيير مسار الحكم النهائي ضد المتهمين في القضية الشهيرة والمعروفة إعلاميا ب ” موقعة الجمل ” ، ليحققوا مجدا لا يستحقونه ، فلم يخضع قضاة مصر الأجلاء لتلك الضغوط والتهديدات ولم تقبل بأي إملاءات. وبالرغم من أن الحكم جاء مخيبا لآمال الكثيرين من النشطاء السياسيين ، وأُسر شهداء ومصابي ثورة يناير العظيمة ، في القصاص لضحاياهم ، والحكم على المجرمين الحقيقيين الذين امتدت أيديهم الآثمة وغدرت خلسة بالثوار الأحرار في ميدان التحرير يومي الثاني والثالث من شهر فبراير عام 2011 ، قبل تنحي الرئيس السابق حسني مبارك . فقد أصدرت محكمة النقض ، وهي أعلى سلطة قضائية في مصر ، في يوم الأربعاء الماضي ، الثامن من مايو ، حكما نهائياً وباتاً ولا رجعة فيه بتأييد براءة جميع المتهمين من قتل المتظاهرين ، وأصدرت المحكمة أيضا حكمها بعدم قبول طعن جديد للنيابة العامة على حكم البراءة الذي صدر في العام الماضي ، ولو اجتمعوا له .. وقد صرح عبد المنعم عبد المقصود ، المستشار القانوني للرئيس مرسي ، ومحامي الإخوان المسلمين للصحف معربا عن أسفه وتعجبه وانزعاجه الشديد للحكم الصادر ببراءة جميع المتهمين ، وقال : ” على الرغم من براءة جميع المتهمين في قضية ( موقعة الجمل ) ، وإغلاق القضية إلا في حالة واحدة فقط ، وهي حصول النيابة العامة على أدلة جديدة تثبت تورط المتهمين أنفسهم ، أو ظهور متهمين جدد ، ليتم النظر فيها ، كقضية جديدة تبدأ من نقطة الصفر ، إلا أن النائب العام طلعت إبراهيم يعكف حاليا لدراسة تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلها الرئيس ، ربما يجد فيه أدلة جديدة أو ثغرات تدعم موقف النيابة العامة في الكشف عن أدلة جديدة تعيد التحقيق مع نفس المتهمين أو غيرهم ” ..! . والسؤال الذي يطرح نفسه ، الآن ، وبقوة هو : لماذا لم يعكف سيادته أيضا على جمع أدلة وبراهين لكشف غموض قتل جنود وضباط حرس الحدود الستة عشر في رفح الحدودية ، الذين أبيدوا بطريقة وحشية في وقت تناولهم طعام إفطار صيام يوم من أحد أيام شهر رمضان الماضي ؟ فمن هم القتلة الحقيقيون ؟ فهناك مجموعة أسرار خلف الكواليس لم يُكشف عنها بعد ، وينتظرها الكثيرون للكشف عن غموض الجريمة . ولماذا التركيز على “موقعة الجمل ” دون غيرها ؟ فأين هم قتلة ثوار ” محمد محمود” و”مسبيرو ” و” المنصورة “و”السويس” و” الإسكندرية” ، أليسوا هؤلاء بمصريين ؟!! وكانت محكمة جنايات القاهرة قد برأت في حكمها الصادر في العاشر من أكتوبر من العام الماضي جميع المتهمين الخمسة والعشرين قبل أن يتوفى أحدهم في السجن وكان مريضا بداء ” سرطان الكبد ” بعد أن مُنع عنه الدواء رغم مناشدة أسرته للمسئولين بالإفراج عنه مؤقتا على ذمة القضية نظرا لظروفه الصحية .. ! . لا يستطيع أحد أن يقدر الإحساس بالظلم إلا من تجرع من كأسه ..! فتم الطعن على حكم المحكمة من قبل النيابة العامة وقتذاك لتقضي محكمة النقض بالحكم المشار إليه آنفا في القضية الشهيرة ، والتي راح ضحيتها أربعة عشر شهيدا ونحو ألفي مصاب . وحكم براءة المتهمين في هذه القضية وقضايا أخرى تتعلق بقتل المتظاهرين قد أزعج النظام المصري وآثار حفيظته ، لدرجة أن الرئيس مرسي علق عليها بنفسه في إحدى لقاءاته بالقول ساخرا : ها أنتم ترون القضاء المصري وهو يبرئ المتهمين بقتل الثوار من رموز النظام البائد الفاسد وسوف يعطونهم هدايا أيضا ..! . وهو بهذا يشكك في نزاهة القضاء المصري والذي يجب أن يكون هو من أول المدافعين عنه ..! . نعود لموضوع اليوم وهو حكم محكمة النقض النهائي ببراءة متهمي (موقعة الجمل) لنقول : لقد قام الرئيس مرسي على الفور وبمجرد نطق محكمة جنايات القاهرة بالحكم في أكتوبر الماضي بإقالة النائب العام عبد المجيد محمود والتشكيك في نزاهته واتهامه بالتواطؤ مع رموز النظام السابق ، والأمر بتشكيل لجنة تقصي الحقائق للبحث في أدلة جديدة تدين نفس المتهمين أو ضم متهمين جدد إليهم ، ليس سعيا لكشف الحقيقة ومحاسبة المسئولين عن الجريمة وحسب ، بل لتكون تصفية للحسابات القديمة مع رموز النظام السابق هي أولى الخطوات على الطريق وليشفي بها غليل قوم ظلموا ، وتحقيق نجاحات في قضية قد شغلت الرأي العام المصري والدولي كثيرا ، وبغرض استثمارها لاحقا في مآرب أخرى ، ولزيادة نسبة شعبية الرئيس وجماعته لدى الشارع المصري والتي انخفضت كثيرا نتيجة لأسباب ليست خافية على أحد ، وليست مجالنا اليوم للخوض فيها . وقد بذلت اللجنة المشكلة قصار جهدها كي تحفظ ماء الوجه للرئيس أمام أسر الضحايا الذين تعهد أمامهم وأقسم لهم بأغلظ الإيمان أيام دعايته الانتخابية بأن دم الشهيد في رقبته ، وأنه لن يرتاح إلا بعد كشف طلاسم القضية ومعاقبة المجرمين والقصاص منهم قصاص رادع ، كما دأبت اللجنة على البحث عن كبش فداء يُقدمه الرئيس قربانا لذوي الضحايا بهدف استرضائهم ، وعندما يتم له ما أراد يكون بذلك قد ضرب عصفورين بحجر واحد ، فقد انتقم هآنئذا من رموز النظام السابق ، ولتحسب له ولجماعته كإنجاز كبير ورصيد في سجلاتهم الخاوية من أي إنجازات تذكر . ولكن لم تأت الرياح دائما وأبدا بما تشتهي السفن ..! ومع أن أغلب التقارير والدلائل الغير رسمية قد أوضحت أن من قتل الثوار في (موقعة الجمل ) هم عناصر مدربة من حركة حماس وهم من قاموا بقتل الجنود والضباط المصريين أيضا في رفح . وعللت تلك التقارير قيام حماس ب ” موقعة الجمل ” حيث أنه عندما أمر الرئيس السابق حسني مبارك ( الجيش) للنزول إلى الشوارع والميادين لحفظ الأمن وردع المتظاهرين وإنهاء اعتصامهم في الميادين بالقوة ، وانحاز الجيش وقتها إلى جانب الشعب والثورة ، اضطر مبارك إلى عقد مفاوضات للبحث في مطالب المتظاهرين للخروج من الأزمة بأقل خسائر ممكنة وتجنيب البلاد ويلات الفوضى والصراع على الحكم ، وتحقيق قدر المستطاع من تلك المطالب ، فكلف مبارك اللواء عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية بالتفاوض مع من يمثل هؤلاء المتظاهرين ، وأوشك الجانبان المتفاوضان على الوصول إلى حلول وسط ، يقبل بها الجميع وتنهي على إثرها حكم الرئيس مبارك والذي قدم تنازلات كثيرة ووَكَّل بعدها نائبه للقيام بكافة الصلاحيات في الدولة ، حتى تنعقد انتخابات رئاسية جديدة لن يكون مبارك مرشحا فيها . وعندما شعرت جماعة الإخوان المسلمين بأن هذا الاتفاق لن يرضي كل طموحاتهم ، فقرروا اغتنام الفرصة فقاموا بارتكاب جريمة ” موقعة الجمل “بالاشتراك مع عناصر من حركة حماس التي تربطها بهم علاقات وثيقة، ولكي يثور الثوار ويشتعل غضبهم أكثر فأكثر ويرتفع بذلك سقف مطالبهم بإسقاط نظام مبارك كليا ، وهذا ما حدث بالفعل حسب تسريبات أمنية في غاية السرية و تناولتها بعض وسائل الإعلام . وعقب حكم محكمة النقض الأربعاء الماضي أبدى سياسيون ونشطاء من شباب الثورة وأسر الشهداء والمصابين خيبة أملهم من القصاص للشهداء والضحايا ، وقد طالبوا بإقالة النائب العام الحالي طلعت إبراهيم المتهم بولائه ل ” الإخوان ” أسوة بسلفه عبد المجيد محمود .. ترافع في القضية المحامي البارع مرتضى منصور ، والذي كان واحدا من ضمن المتهمين مع رئيسي مجلسي الشعب والشورى السابقين وعدد من رموز الحزب الوطني (المنحل ) . وأكد منصور في مرافعته : ” أن القضية برمتها ملفقة بشكل كيدي ، وأنه لا توجد دلائل لا من قريب أو من بعيد على ارتكاب أو اشتراك أيٌ من المتهمين في (موقعة الجمل) ، وأنه لا يجوز للنيابة العامة أن تطعن على الحكم طبقاً للقانون ، حيث أن النقض أو الطعن لا يتم إلا في حالة ظهور أدلة جديدة أو متهمين جدد ، وهو ما لم يحدث في تلك القضية” . والآن ، هل سيبقى المتهمون الحقيقيون يغدون ويروحون وينعمون بالحرية ، وقد يُزج بأبرياء لا علاقة لهم بالجريمة من قريب أو من بعيد ؟ أم يبقى الحال كما هو عليه وعلى أهالي الشهداء والمصابين أن يكظموا غيظهم ويسلموا بالأمر الواقع ؟ أم أن الثوار أنفسهم هم من قتلوا أنفسهم قبل أن يقتلوا ؟!! . وهل ستقيد الجريمة ضد مجهول وهو في الأصل معلوم ؟..! ولكن … مهما طال الظلام فلن نيأس ، فلابد أن يشقه النور وينبلج الفجر ، ومهما غابت الشمس فلابد أن تشرق من جديد ، لتظهر لنا الحقائق ساطعة وجلية .. ” وسيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون ” ..