لو شاءت الأقدار أن تكون سياسياً، فسوف تتعرض لأنواع وألوان شتى من الضغوط، معظمها - إن لم يكن كلها - وليدة المواقف المتجددة أو المتغيرات المستمرة، وكلها لا يروق لك ولا يمضى على هواك، ولذا فإن إدارة العواطف بشكل متزن ومتعقل هي البداية المنطقية وهي الخطوة الأولى على طريق إدارة النفس بكل ما تموج به من تقلبات مزاجية أو عصبية. إنَّ السياسة مثل البحر.. عميقة شاسعة، هادئة ثائرة، قوية ضعيفة، مُعلنة مُخْفية ، جريئة متقهقرة، تجمع في آن واحد بين الموقف ونقيضه بلا أي حرج، بل وتؤلف بينهما في مشهد يثير العجب، ولذا فيجب على من اختارته السياسة ليكون لاعباً في ميدانها، أن يعرف - أولاً - كيف يدير نفسه التي بين جنبيه.. إذا ما قامت ريح، أو علا موج، أو انطلقت أعاصير، أو برقت رعود، في بحر السياسة المتقلب، الذي هذا شأنه!. ثم عليه كذلك أن يفهم كذلك كيف يصل إلى حالة التعايش أو التكيف مع المستجدات التي قد تطرأ بلا سابق توقع بحدوثها وبلا سابق نذير بوقوعها، لأن السياسة في النهاية هي فن إدارة الممكن والمتاح، وهو ما تتغير رقعته من آن لآخر، في ظل واقع لا يتسم بالثبات على هيئة واحدة. من هنا تبرز أهمية إدارة العواطف التي تتقلب داخل النفس البشرية أكثر من القِدْر إذا استجمع غليانه كرد فعل طبيعي إزاء موقف أو حالة معينة تستدعى لوناً معيناً من الانفعال قد يتسق أو لا يتسق مع طبيعة الموقف أو الحالة ، الأمر الذي قد يبدو مقبولاً أو مستساغاً إذا صدر من شخص عادى، لكن في شأن الرجل السياسي فإن الأمر يكون مرفوضاً جملة وتفصيلا، لأن الرجل الذي يحتل موقعاً ما في الملعب السياسي لا يعبر عن نفسه فقط، بل قد لا يعبر عن نفسه من الأصل إذا لزم الأمر، وإنما يعبر عن موقف عام أو حالة سياسية معينة بمفردات معينة في لحظة معينة لبلورة أفكار معينة من أجل أهداف معينة. وبذا، فليس السياسي ملكاً لذاته ولا رهناً لعواطفه ولا لأهدافه الخاصة، وإنما هو ملكاً لمجتمعه ووطنه يعبر عن مصالحه العليا في حدود الدور المكلف به وفى حدود السياق الذي يحكم مقاله وحاله، ومن ثم فالأمر إذن يتطلب قدرة خاصة على التحكم في الذات من خلال الفصل بين الخاص والعام، وبين الباطن والظاهر، وبين المكنون في زوايا النفس وبين ما يجب أن يُقال على الملأ، وهنا تبرز مهارة استيعاب أو احتواء أو امتصاص المواقف المختلفة وذلك بإخفاء التأثير المباشر لها، لأن قراءة تأثير الموقف في الرجل السياسي من قبل الغير يعد بالقطع علامة دالة على نقص الخبرة و الحنكة السياسية لديه. وقد رأينا ما تمخضت عنه الأحداث الأخيرة في من تلميحات واستنتاجات وتصريحات تناقض قواعد الفطنة والذكاء السياسي حيث غرق الجميع في دفاع مستميت عن الذات تارة ، وفى تراشق بالاتهامات تارة أخرى فتاهت القضية الرئيسية في غابة من الثرثرة، والحقيقة أن الوقت ليس وقت الحديث عن الأمجاد والتاريخ ومواقف النضال.. الوقت وقت الحديث عن وحدة الوطن ومصالحه العليا وتخطى عثرة الخلاف والشقاق إلى أرض صلبة ينطلق من فوقها اتفاق صادق وشفاف على مصالحة وطنية شاملة تعيد الأمل لجموع الشعب الذين أنهكهم اليأس وحطم قلوبهم الإحباط . بقى أن تعرف جميع الأطراف المتصارعة على السلطة أن المتغير هو الثابت الوحيد، فمن استطاع التعامل مع المتغيرات الجارية على الساحتين المحلية والعالمية، ومن استطاع السير بخطوات تواكب تلاحق المتغيرات المتتابعة، ومن استطاع أن يفهم ما يدور على المسرح العالمي وما يحاك داخل كواليسه من سياسات وتطلعات واتجاهات، ومن استطاع أن يجرى عملية موازنة دقيقة بين تلك السياسات والاتجاهات بما يعطى أعلى مردود وفائدة، ومن استطاع أن يتكيف وينسجم مع المتغيرات من ناحية مع الحفاظ على الثوابت الوطنية من جهة أخرى لهو الأجدر بلا شك على السباحة في بحر السياسة المتلاطم، ومن لم يستطع عاش على هامش الحياة - متفرجاً - بلا قيمة أو معنى. أقول ذلك وأنا لا أحب السياسة، وهى لم تختارني يوماً كي أكون لاعباً في ميدانها أو احتياطياً بين بدلائها. عضو نقابة الصحفيين الالكترونيين [email protected]