وزارة الاستثمار تعلن حظر استيراد السكر المكرر للاتجار لمدة 3 أشهر    تباين الأسهم العالمية بعد تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي على إنهاء إغلاق الحكومة الأمريكية    بيسكوف: نطوّر علاقاتنا مع سوريا بغض النظر عن تقاربها مع واشنطن    محمد صلاح ينضم لمعسكر منتخب مصر في الإمارات    مصرع فتاة إثر سقوطها من الطابق ال13 بمنطقة الفلكي في الإسكندرية    كشف ملابسات استغلال شخص لنجله من ذوى الهمم في استجداء المارة بالإسماعيلية    رئيس مياه القناة يتفقد انتظام سير العمل بالمحطات وشبكات صرف الأمطار    «العمل» تستجيب لاستغاثة فتاة من ذوي همم وتوفر لها وظيفة    روبيو: تعليق العقوبات المفروضة على سوريا بموجب قانون قيصر    وزير الخارجية: نأمل التوصل لصياغات توافقية دون المساس بالثوابت الفلسطينية    «رحل الجسد وبقي الأثر».. 21 عامًا على رحيل ياسر عرفات (بروفايل)    مُسن يبلغ ال 90 عاماً يُدلي بصوته في ثاني أيام انتخابات النواب 2025    موقف أحمد عبد الرؤوف من الاستمرار مع الزمالك    ستاد القاهرة يستضيف ودية منتخب مصر الثاني أمام الجزائر    «أنا مش العقلية دي».. ياسر إبراهيم يرفض الاعتراض على قرار حسام حسن    المرأة تقود دفة المشهد الانتخابي بدائرتي الخارجة والداخلة    «الزراعة»: تحليل أكثر من 18 ألف عينة غذائية خلال أكتوبر الماضي    حالة الطقس في الكويت اليوم الثلاثاء    إصابة 16 في حادث إنقلاب ميكروباص بطريق أسيوط الغربي بالفيوم    قرار قضائي ضد نجل عبد المنعم أبو الفتوح في اتهامه ب«نشر أخبار كاذبة» (تفاصيل)    إغلاق مستشفى بمدينة نصر لمخالفة اشتراطات الترخيص    إغماء شيماء سعيد زوجة إسماعيل الليثي في جنازته ب إمبامبة    جائزة أفضل فيلم روائي طويل لفيلم ملكة القطن بمهرجان سالونيك السينمائي    القومي لثقافة الطفل يعلن عن البوستر الرسمي لملتقى الأراجوز والعرائس التقليدية السابع    «العشم واخدهم».. 5 أبراج تتعلق بسرعة وتصاب بخيبة أمل بسهولة    رحلات تعليمية وسياحية لطلاب المدارس بالشرقية    عطور الماضي تلتقي بالفنون المعاصرة في ختام مهرجان قصر المنيل    «الصحة» تكشف النتائج الاستراتيجية للنسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للسكان    غزة على رأس طاولة قمة الاتحاد الأوروبى وسيلاك.. دعوات لسلام شامل فى القطاع وتأكيد ضرورة تسهيل المساعدات الإنسانية.. إدانة جماعية للتصعيد العسكرى الإسرائيلى فى الضفة الغربية.. والأرجنتين تثير الانقسام    محافظ قنا وفريق البنك الدولي يتفقدون الحرف اليدوية وتكتل الفركة بمدينة نقادة    طن عز الآن.. سعر الحديد اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 أرض المصنع والسوق    انتخابات مجلس النواب 2025.. توافد السيدات والفتيات على لجان الاقتراع بالمنيا    هيئة محامي دارفور تتهم الدعم السريع بارتكاب مذابح في مدينة الفاشر    أوباميكانو يثير الجدل حول مستقبله مع البايرن    مراسل إكسترا نيوز ينقل كواليس عملية التصويت فى مرسى مطروح.. فيديو    «الشرقية» تتصدر.. إقبال كبير من محافظات الوجه البحري على زيارة المتحف المصري الكبير    الأوراق المطلوبة للتصويت فى انتخابات مجلس النواب 2025    بنسبة استجابة 100%.. الصحة تعلن استقبال 5064 مكالمة خلال أكتوبر عبر الخط الساخن    تحرير 110 مخالفات للمحال غير الملتزمة بقرار الغلق لترشيد الكهرباء    تأكيد مقتل 18 شخصا في الفلبين جراء الإعصار فونج - وونج    تحديد ملعب مباراة الجيش الملكي والأهلي في دوري أبطال أفريقيا    بعد تعديلات الكاف.. تعرف على مواعيد مباريات المصري في الكونفدرالية    حسام البدري يفوز بجائزة افضل مدرب في ليبيا بعد نجاحاته الكبيرة مع أهلي طرابلس    وزير الصحة يبحث مع نظيره الهندي تبادل الخبرات في صناعة الأدوية وتوسيع الاستثمارات الطبية المصرية - الهندية    بسبب أحد المرشحين.. إيقاف لجنة فرعية في أبو النمرس لدقائق لتنظيم الناخبين    معلومات الوزراء: تحقيق هدف صافى الانبعاثات الصفرية يتطلب استثمارًا سنويًا 3.5 تريليون دولار    "طلاب ومعلمون وقادة" في مسيرة "تعليم الإسكندرية" لحث المواطنين على المشاركة في انتخابات النواب 2025    الصحة: الخط الساخن 105 يستقبل 5064 مكالمة خلال أكتوبر 2025 بنسبة استجابة 100%    بينهم أجانب.. مصرع وإصابة 38 شخصا في حادث تصادم بطريق رأس غارب    هدوء نسبي في الساعات الأولى من اليوم الثاني لانتخابات مجلس النواب 2025    مجلس الشيوخ الأمريكي يقر تشريعًا لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد (تفاصيل)    انتخابات مجلس النواب.. تصويت كبار السن «الأبرز» فى غرب الدلتا    في ثاني أيام انتخابات مجلس نواب 2025.. تعرف على أسعار الذهب اليوم الثلاثاء    هل يظل مؤخر الصداق حقًا للمرأة بعد سنوات طويلة؟.. أمينة الفتوى تجيب    دعاء مؤثر من أسامة قابيل لإسماعيل الليثي وابنه من جوار قبر النبي    انطلاق اختبارات مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن بكفر الشيخ    ما حكم المشاركة في الانتخابات؟.. أمين الفتوى يجيب    د.حماد عبدالله يكتب: " الأصدقاء " نعمة الله !!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص كلمة الإمام الأكبر بمؤتمر قِمَّة الأديان في الفاتيكان
نشر في شباب مصر يوم 16 - 11 - 2019

ألقى فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمَد الطَّيِّب شَيْخُ الأزهر الشَّريف رئيس مجلس حكماء المسلمين كلمة بمؤتمر قِمَّة الأديان تحت عنوان: "تعزيز كرامة الطفل" في الفاتيكان، اليوم الجمعة الموافق 15 نوفمبر 2019 م، وفيما يلي نصها:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحَفْلُ الكَريم!
الملكة/ سيلفيا، ملكة السويد
سمو الشيخ/ سيف بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية بدولة الإمارات العربية المتحدة
السيدات والسادة الحضور!
السَّلامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه.. وبعد:
فيُسعدني كثيرًا أن ألتقيَ بحضراتِكم للعام الثاني على التوالي للتباحث حول قضيةٍ من أخطرِ القضايا التي تُقْلِقُ بالَ كلِّ بيتٍ وكلِّ أُسرةٍ في الشَّرقِ والغربِ على السَّواءِ، ألَا وهي قضيَّةُ «أطفالِنا» ومستقبلِهم الغامضِ المضطربِ في مرآةِ التكنولوجيا الحديثةِ، والعالَم الرَّقميِّ الجديدِ، وذلك بعدَ ما باتَ واضحًا لممثِّلي الأديانِ ولكلِّ ذي قلبٍ وضميرٍ أنَّ هذا التطورَ «الرَّقميَّ» قد سَرق من هذه الكياناتِ البشريَّةِ الضعيفةِ، براءتَها وأحلامَها وحقوقَها في طفولةٍ تتمتَّعُ بالحبِّ الطبيعيِّ، والدِّفءِ الإنسانيِّ، وحنانِ الأُمِّ والأبِ، وفي ظِلِّ قوانينَ أخلاقيَّةٍ دوليَّةٍ صارمةٍ تحفظُ هذا الحقَّ وتُعاقبُ على الخروجِ عليه أشدَّ العقابِ..
وأحسبُ أنَّ هذا المؤتمرَ وأمثالَه من المؤتمراتِ التي تَتَّخذُ من قضيَّةِ مستقبلِ الطفولةِ المحفوفِ بالمخاطرِ هَمًّا مُتواصِلًا، هذه المؤتمراتُ لم تَعُدْ -اليومَ- تَرَفًا، ولا مجرَّد واجبٍ تُغنِي فيه كلماتٌ تُلقَى في اجتماعٍ هنا أو هناك ثم ينتهي الأمرُ، بل أصبَحَ أمرًا يُلقِي على كَواهِلِ المؤمنينَ باللهِ، وكَواهِلِ سائرِ العُقلاءِ من المفكِّرينَ والسِّياسيين، وأصحابِ القراراتِ السِّياسيَّةِ الدوليَّةِ، يُلقِي عليهم جميعًا واجبَ الإسراعِ بالتَّصَدِّي والمواجهةِ، وأمانةَ البحثِ الجادّ عن مخرجٍ من هذه الأخطارِ المحدِقةِ بأطفالِ اليوم وشبابِ المستقبلِ وفرسانِه، وحتى لا نُضِيفُ إلى مَآسِينا الحضاريَّةِ مأساةً جديدةً تُصِيبُ الإنسانيَّةَ في مَقْتَلٍ، ونستنسخُ بها صورةً مُتطوِّرةً من صورِ تجارةِ الرَّقيقِ، نستعيدُها في هذه البَراعِمِ البَريئةِ التي أوْشَكَت أنْ تتَحوَّلَ إلى «أرقاء» في أيدي الذين لا يُؤمنون إلَّا بالأرضِ وبالمادَّةِ وحدَها، وبما ينشأُ في ظلالِها من علاقاتِ الإنتاجِ، وفلسفاتِ السُّوقِ وقوانين العَرضِ والطَّلَبِ، وأخلاق الغرائزِ الهابطةِ والمنفَلِتةِ من كُلِّ قيودِ الفِطَرةِ المسْتَقيمة..
الحَفْلُ الكَريم!
إنَّ حقوقَ الطفلِ في شريعةِ الإسلامِ متنوِّعةٌ ومحميَّةٌ بعُقوباتٍ شرعيَّةٍ رادعة، وهذه الحقوقُ تُمثِّلُ مَقصِدًا مُقدَّسًا من مقاصدِ الإسلام وجميعِ الأديانِ، ومُبرِّرًا من مُبرِّرات الشرائع الإلهيَّة.
وحقوقُ الطفلِ في الإسلامِ تبدأُ منذُ تخلُّقِه جَنِينًا في بطنِ أُمِّه، وتصاحبُه حتى نهاية مرحلةِ الطفولةِ، وقد تعدَّدَتْ هذه الحقوقُ في الإسلام حتى صار من بينِها حقُّ الطفلِ على أبيه في أن يختارَ له اسمًا حَسَنًا لا يُعرِّضُه لسُخريةِ الأطفالِ واستهزائِهم به، وحتى لا يضطرُّه الاسمُ النشازُ إلى الانطواءِ والتوحُّدِ والعدوانيَّةِ، وكان نبيُّ الإسلامِ يتدخَّلُ بنفسِه لتغييرِ أسماءِ الأطفالِ المسكونةِ بإيحاءاتٍ تُؤذي مشاعرَ الأطفالِ، ويستبدلُ بها أسماءً أخرى مشرقةً وجميلةً..
ويُقدِّمُ «الإسلامُ» الأُمَّ المسيحيَّةَ أو اليهوديَّةَ في حضانةِ طفلِها على الأبِ المسلمِ في حالةِ الانفِصَالِ أو الطَّلاقِ. نعم تقضي شريعةُ الإسلامِ للأُم المسيحيَّة أو اليهوديَّة بحقِّ حضانةِ طفلِها دونَ الأبِ المسلمِ؛ مراعاةً لمصلحة الطفل، ولأنَّ هذا النبيَّ ﷺ كان يقولُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ( )..
وليست عباراتي المقتضبةُ عن حقوقِ الطفلِ في الإسلام هي ما حملتني -أيها السيداتُ والسادةُ!- إلى الوُقوفِ مُتَحدِّثًا أمامَكم، ولكن ما حمَلَني وجشَّمَنِي عناءَ السَّفرِ للتحدُّثِ إليكم والإنصاتِ إلى كلماتِكم مخاوفُ مُرْعِبَةٌ، أَشْعُر بها، ويَشعُر بها معي كلُّ مهمومٍ بهذه القضيَّةِ الإنسانيَّةِ، حين نُلاحِظُ أطفالَنا اليومَ، وقد صاروا عبيدًا فاقِدِي الحرِّيَّةِ والأهليَّةِ أمامَ جهازٍ صغيرٍ لا يُفارق أناملَ أيدِيهم البريئةِ، يَنامون به، ويستيقظون على أضوائِه الزرقاءِ، ويَخلُدون إلى عالمِه الزائفِ المقطوعِ الصلةِ بواقِعِهم الذي يعيشون فيه: يأكلون ويشربون ويتنفَّسون، ثم سرعانَ ما يهربون منه إلى عالمِهم الآخَر..
وقد لاحظتُ بنفسي بوادرَ اضطرابٍ شديدٍ في تفكيرِ الأطفالِ مَنْ حولي مِمَّن لم يَبلُغوا سِنَّ الثامنة عشرة، تُنذِرُ بحالةٍ أشبَهُ بهُوَّةٍ عميقةٍ بين الأطفالِ من ناحيةٍ وآبائِهم وأُمَّهاتِهم وذويهم من ناحيةٍ أخرى، سواءٌ في التفكيرِ أو التصور، بل حتى في الأُسسِ المنطقيَّةِ الحاكمةِ لعمليَّةِ التفكيرِ، والتي كانت إلى عهدٍ قريبٍ محلَّ إجماعِ الأُسرةِ والصِّغارِ والكبارِ، كما لاحَظتُ ميلَ الأطفالِ إلى «العُزْلَةِ» و«التَّوحُّدِ» و«اللامبالاة»، والكسل والخمول، وبوادر العُنفِ والعداءِ المكتومِ، وغير ذلك مِمَّا يُنْذِرُ بأمراضٍ نفسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ تَتربَّصُ بهذه الورودِ التي لم تَتَفتَّحُ أكمامُها بعدُ.
ولقد شَغَلَتْ هذه المخاطرُ حَيِّزًا كبيرًا من تفكيري، وتفكيرِ أخي وصديقي قداسةِ البابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، حين كُنَّا نعملُ سويًّا على إعدادِ وثيقةِ الأخوَّةِ الإنسانيَّةِ، وهو ما دفَعَنا إلى طرحِ هذه المشكلةِ ضمنَ المبادئِ الأساسيَّةِ الواردةِ بهذه الوثيقةِ التاريخيَّةِ، والتي تنصُّ على: "أنَّ حُقوقَ الأطفالِ الأساسيَّةَ في التنشئةِ الأسريَّةِ، والتغذيةِ والتعليمِ والرعايةِ، واجبٌ على الأسرةِ والمجتمعِ، وينبغي أن تُوفَّرَ وأن يُدافَعَ عنها، وألَّا يُحرَمَ منها أيُّ طفلٍ في أيِّ مكانٍ، وأن تُدانَ أيَّةُ مُمارسةٍ تَنالُ من كَرامتِهم أو تُخِلُّ بحُقُوقِهم، وكذلك ضرورةُ الانتباهِ إلى ما يَتعرَّضُون له من مَخاطِرَ - خاصَّةً في البيئةِ الرقميَّة - وتجريمِ المُتاجرةِ بطفولتهم البريئةِ، أو انتهاكها بأيِّ صُورةٍ من الصُّوَرِ."
أيُّها السَّادة!
لا يُخامرني أدنَى شك في أنَّ هذه الثورةَ التقنيةَ الرقميةَ لن تتوقَّف عن تطور يختلطُ فيه النافع بالضَّار، والمصلحةُ بالمفسدة، ما دامت هذه الثورةُ تتطوَّر في غيبةٍ من حراسةِ الأديانِ والأخلاق الإلهيَّة - ومن هنا فإنَّ البحثَ عن حلٍّ لهذا الإشكال لا يكونُ بمجابهةِ هذه الثورةِ، وإنَّما يكونُ بالبحثِ الجادِّ عن إمكان العودةِ إلى كيفيَّةِ الربطِ بين التقدُّمِ العلميِّ وبين الدِّين بحُسبانِه حارسًا أمينًا على الأخلاقِ الإنسانيَّةِ. شريطةَ أن نَأخُذَ الدِّينَ من الكُتُبِ المقدَّسةِ ومن تعاليمِ الأنبياءِ وسُلوكهم وتصرُّفاتهم.
هذا وإنَّ الانفصامَ الذي حدث بين مسارِ العلمِ ومسارِ الدِّينِ لهو -في رأيي- مأساةُ الإنسانِ المعاصرِ الذي يَتقدَّمُ في مجالِ علومه وتقنيَّاته بقدرِ ما يتقهقرُ ويتراجعُ في بابِ الأخلاقِ والآدابِ والفضائلِ، بل إنَّ هذا السِّباقَ المطردَ بين التقدُّمِ العلميِّ والتقهقر الخُلُقي هو السبب الأوحد وراءَ كوارثِ الإنسانِ الحديثِ وعلله المستعصية على العلاج.. فمن السهلِ جِدًّا أن تجد الآنَ ربطًا منطقيًّا بين التطورِ العلميِّ المذهلِ في مجالِ الأسلحةِ الفتَّاكة مثلًا، وبين الحروبِ المأساويةِ اللاإنسانيةِ في بلادِنا ومنطقتِنا العربيَّةِ والإسلاميَّة، بل من السهلِ أن تجدَ علاقةً بين وفرةِ اقتصادِ السِّلاحِ وبينَ الإرهابِ، وتنظيماته وجماعاته التي استقطبت الأطفالَ إلى مُعسكراتِها وجنَّدتهم في التدريبِ والانخراطِ في صُفوفِ القتال.. وها هي تقاريرُ الأُمَمِ المتحدة تُشيرُ إلى أنَّ ما يقرب من 8000 (ثمانية آلاف طفل) انضمُّوا لجماعة بوكو حرام الإرهابية، وأنَّ ثلاث مائةَ طفلٍ انضمُّوا إلى تنظيمِ داعش، وأنَّ كثيرًا منهم دُرِّبوا على الهجومِ على عائلاتهم وذويهم، إظهارًا لولائِهم الأعمى والمُطْلَقِ لقادةِ تلك التنظيمات، ولا يزالُ استقطابُ هؤلاء الضحايا الأبرياء يَجري على قَدَمٍ وساقٍ من خلالِ شبكاتِ التَّواصُل الاجتماعي، والألعاب الرقميَّة ومواقِع إليكترونيَّة تعملُ على غَسْلِ أدمغتهم وحشوها بصورِ العُنفِ والإجرامِ والتفكيرِ العدوانيِّ، وقد استطاعَ تنظيمُ داعش أن يجنِّدَ أعدادًا هائلةً من الأطفالِ والشَّباب والفتيات عبر هذه الوسائل، ويحوِّلهم إلى جنودٍ يقتلون فريقًا من النَّاسِ ويذبحون فريقًا آخَر.
وكارثةٌ أخرى من كوارث البيئة الإليكترونيَّة تُكشِّرُ عن أنيابِها اليوم، وهي تمكينُ وحوشِ الجرائم الجنسيَّة من سُهولةِ الاتصالِ بضحاياهم من الأطفالِ وتشجيعهم على الالتحاقِ بهم، وقُدرتهم على إخفاءِ هُويَّاتهم، وإنشاء هويَّاتٍ مُزيفةٍ تجعل من مُلاحقتهم قضائيًّا ضربًا من المستحيلِ، مِمَّا يضعُ خصوصيَّةَ الأُسَرِ وكرامة أطفالها في مَهَبِّ الريحِ، ومِمَّا حَمَل مُنظَّمة اليونيسيف في تقريرِها عن «الأطفال في العالم الإليكتروني عام 2017م» أن تُصرِّحَ بأنَّه «لا يوجد طفلٌ بمأمنٍ من المخاطرِ على شبكة الإنترنت، وأنَّ الأطفالَ الأكثرَ عُرضةً هم الأطفالُ الأكثَرُ استِخدامًا لهذه الشبكة»، ولا يَخفى على حضراتكم أنَّ الكثير من جرائم ابتزاز الأطفالِ جِنسيًّا تحدث في دول أوروبيَّة، ودول مُتقدِّمة تكنولوجيًّا، يُسيء أطفالُها استخدامَ التقنيات الرقمية بسببِ غيابِ المراقبة.
السَّادّة الحضور!
ما أظنُّني في حاجةٍ إلى التأكيدِ على الجانبِ الإيجابيِّ للتكنولوجيا الرَّقميَّة، ذلكم الجانبُ الذي قدَّمَ للإنسانيَّةِ خدماتٍ كبرى ومصالحَ هائلةً، وكثيرٌ منها يتمُّ إنجازُه في جزءٍ صغير من الزمن يُشبه لمحَ البصر، وبعضها تتلاشى فيه آمادُ الزمان وتَنطَوِي فيه أبعادُ المكان، بما يُشْبِهُ المعجزةَ، وبعضُها يختصر العالَم اختصارًا في مساحةٍ لا تتجاوزُ بضعةَ سنتيمترات، وأهمُّها في نظري هي ما تُقدِّمه التكنولوجيا الرقميةُ من توفيرِ فُرَصِ التعلُّم للأطفالِ المحرومين من هذه النعمةِ بسببِ ما ابتُلِيت به بلادُهم من صراعاتٍ وحروبٍ وفقرٍ ومجاعاتٍ وهجراتٍ قسريةٍ.
ومن جانبي لا أملُّ من توجيهِ الشُّكر للمنظماتِ والمبادراتِ الحكوميَّةِ والأهليَّةِ التي وظَّفَت الوسائطَ الإليكترونيةَ في إنقاذِ هؤلاء الأطفالِ من براثنِ الجهلِ والأميَّةِ في القرنِ الواحدِ والعشرين.
.....
السَّيِّداتُ والسَّادة!
الكلامُ عن كرامةِ الطفل في العالمِ الرَّقمي كلامٌ متشعِّبٌ، والحديثُ فيه حديثٌ تختلطُ فيه مشاعر الإعجاب بمشاعر الإحباط، بل بمشاعرِ القَلَق والتوتُّر أيضًا.. وقديمًا كان التقدُّم العلميُّ يصبُّ في مصلحةٍ خالصةٍ للإنسانيَّة جمعاء، لأنَّه كان يتقدَّم في حمايةِ حارسٍ أمينٍ من القِيَمِ الخُلُقيَّة.. واليومَ كلُّ تقدُّمٍ علميٍّ هو سلاحٌ ذو حَدَّين، يَصعُب فيه فرزُ الأفضلِ لتطبيقِه، واستبعادُ الأسوأ لتَجَنُّبه.. ومَرَّةً أخرى هذه هي المشكلةُ، وعلينا أن نختار.
وأنا لا أدَّعي أنَّني أحمِلُ في جُعْبَتي علاجًا لهذه العِلَّةِ الحضاريَّةِ، فَوقْفُ آلة التقدُّم العلمي مستحيلٌ، والعودةُ بالماردِ إلى القمقمِ مَرَّةً أُخرى خيالٌ بائسٌ، وما يتبقَّى لنا نحن المتضرِّرين من سلبياتِ هذا التطورِ المحتومِ، سواء كُنَّا مؤمنين بالله أو غير مُؤمنين مِمَّن لا يزالُ للأخلاقِ الإنسانيَّةِ مكانٌ في قلوبهم وضمائرهم. ما يتبقَّى لنا هو:
أَوَّلًا: عودةُ مسؤوليَّة الأُسرة عن الطفل، ومراقبتها للأطفالِ، وحَقّها في التوجيهِ والتأديبِ والتهذيبِ، وألَّا يُعد شيء من ذلك ضربًا من ضروب العُنف تمارسه الأُسْرَة ضِدَّ الطفل، فحمايةُ الطفل من الأوبئة والأمراض الخُلُقيَّة أوجَبُ وألزَمُ بكثيرٍ من دعاوى حق الطفل في حُرِّيَّاتٍ لا محدودة تُقدِّمُه لقمةً سائغةً لأمراض أعنف وأشد فتكًا.
وثانيًا: التذكيرُ الدائم الذي لا يمل ولا ينقطع بالآثار التدميريَّة لثورة التكنولوجيا الرقمية، ومواصلةُ طرح هذه القضايا على طاولات النقاش في المؤسسات الدِّينية أوَّلًا، ثم في مؤسَّسات التعليم. وفي البرامجِ والمقرَّراتِ التعليميَّة وبخاصةٍ في مراحلِه الأولى، وكذلك في المنظَّماتِ الحكوميَّة والأهليَّة وفي مُقدِّمتِها: منظمةُ الأمم المتحدة واليونيسكو، وغيرُها.. وأن تكون لكرامةِ الطفل أولويَّةٌ وأهميَّةٌ قُصوى في الاتفاقياتِ الدوليَّةِ الخاصَّةِ بالطفلِ، وذلك أَمَلًا في تكوينِ وعيٍّ إنسانيٍّ دوليٍّ يُمثِّلُ «مانعةَ صواعق» تحمي الأطفالَ من الاحتراقِ بلهيبِها.
وأختم كلمتي بعقدةٍ أخيرةٍ تَتمثَّلُ في الأثرِ السلبيِّ لعولمةِ اتفاقيات الطفل، وإلغاء الفروق، وكلِّ صورِ التمييز بين الرَّجُلِ والمرأة، فمثلًا بعضُ بنود هذه الاتفاقيات المتعلِّقة بحقوقِ الطفل صِيغَت في جَوٍّ حضاريٍّ مختلفٍ كثيرًا أو قليلًا عن جوٍّ حضاريٍّ آخَر، ومن «هنا وجَب -فيما أرى- أن تُراعى في صياغةِ حقوقِ الطفل ثوابتُ الثقافات الأخرى وبخاصةٍ: الثقافات الشرقيَّة، التي تحفلُ بالأديانِ، وتنزلها منزلةً عُليا من الاحترامِ والتقديس منذ آلافِ السنين»، ولذلك أدعو إلى «مؤتمر» يناقشُ هذه القضيَّة، ويأخذ في الاعتبار مبدأَ احترام الحضارات، وهو المبدأُ الوحيد الذي يُحقِّق ما نصبوا إليه جميعًا من تبادل حضاري متكافئ ومنسجم بين الشرق والغرب.
أشكُر حضراتكُم جميعًا لِحُسْنِ استِماعكُم، وأتوجَّه بجزيلِ الشكرِ لكلِّ مَن أسهَمَ في تنظيم هذا المؤتمر الهام، الذي يمثل همًّا رئيسًا يجب أن يشتغل به كل الباحثين عن مستقبل أفضل لعالمنا.
شكرًا لكم
والسَّلام عَليكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه.
تحريراً في: 18 من ربيع أوَّل سنة 1441ﻫ
الموافق: 15 من نوفمبر سنة 2019 م أحمد الطيب
شيخ الأزهر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.