وزير الخارجية يجري اتصالًا هاتفيًا مع نظيره الرواندي    حزب "الوعي" يفتتح مقره في الجيزة    «ترشيد المياه والحد من التلوث».. مشروعات طلاب جامعة بنها الأهلية بالمؤتمر الدولي للمناخ    مصادر طبية في غزة: 70 قتيلا و189 إصابة خلال الساعات ال 24 الماضية    تقرير: فرحة الأضحى تغيب عن نازحي مخيم جنين وسط فقد وتشتت    القنوات الناقلة مباشر لمباراة السعودية والبحرين في تصفيات آسيا لكأس العالم 2026    «ضغط الفشل في العمل العام».. رسالة نارية من عضو مجلس الأهلي بعد إساءة هاني شكري    «يسافر مع الخطيب».. الغندور يكشف موعد طائرة زيزو إلى أمريكا    حجاج السياحة يؤدون الركن الأعظم من الحج.. و1200 شركة تشارك في التنظيم هذا العام    استعدادا ل عيد الأضحى.. رفع درجة الاستعداد داخل مستشفيات دمياط    اليوم.. «قصور الثقافة» تقدم عروضًا فنية مجانية بمتحف الحضارة ونادي 6 أكتوبر    تهنئة عيد الأضحى 2025.. أجمل العبارات المكتوبة (ارسلها لأحبائك الآن)    3 أبراج تهرب من الحب.. هل أنت منهم؟    كيف تؤدى صلاة العيد؟.. عدد ركعاتها وتكبيراتها وخطواتها بالتفصيل    رئيس"التأمين الصحي" يتفقد مستشفى مدينة نصر بالتزامن مع عيد الأضحى    لإفطار يوم عرفة.. طريقة عمل طاجن البامية باللحمة (بالخطوات)    وزير الكهرباء يبحث مع «أميا باور» الإماراتية تعزيز التعاون بمجالات الطاقة المتجددة    المصرية للاتصالات WE تعلن الإطلاق الرسمي لخدمات الجيل الخامس في مصر    جامعة بنها تشارك في النسخة الثالثة من المؤتمر الدولي للمناخ والبيئة    أول تعليق من بسمة بوسيل بعد تحسن حالة نجلها آدم تامر حسني الصحية    تردد القناة الناقلة لمباراة الزمالك وبيراميدز في نهائي كأس مصر    من عرفات.. دعاء مؤثر للشيخ خالد الجندي    بمناسبة عيد الأضحى.. الرئيس السيسى يتبادل التهنئة مع ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية والإسلامية    نتنياهو: غزة لن تشكل مستقبلًا تهديدًا على إسرائيل    الأعلى للمستشفيات الجامعية يخصص 56 مركزًا لعلاج الأمراض الوراثية لحديثي الولادة بالمجان    استشاري تغذية مُحذرًا من شوي اللحمة: يعرّض للإصابة بالأورام - فيديو    صيام يوم عرفة لمرضى السكري.. متى يجب الإفطار؟    أثناء كلمة مندوب إسرائيل.. انسحاب وفد مصر من مؤتمر العمل الدولى بجنيف تنديدًا بجرائم الاحتلال    21 ألف جنيه تراجعًا بأسعار "باجاج كيوت" أرخص مركبة جديدة بمصر.. التفاصيل    محمد حماقي يشعل حفل زفاف محمد شاهين| صور    مفاجأة.. ماسك طلب تمديد مهمته في البيت الأبيض وترامب رفض    مجلس الزمالك يصرف دفعة من مستحقات اللاعبين قبل نهائي الكأس    بث مباشر من عرفة الآن.. الحجيج على عرفات وصلاة الظهر والعصر جمعًا والمغادرة عند الغروب    "معقولة بيراميدز يتعاطف مع الزمالك ويمنحه الكأس؟".. شوبير يطلق تصريحات نارية    الأهلى يرفع شعار التحدى فى كأس العالم للأندية بعد صفقات الميركاتو    هزات كريت تصل إلى الإسكندرية.. والحديث عن تسونامي لم يعد بعيدًا.. خبيرًا باليونسكو يكشف ل "الفجر"    ألمانيا تسعى لبناء أقوى جيش أوروبي.. تحديات ملحة وخطط طموحة حتى 2029    "الأعلى للإعلام" يستدعي ممثلي وسائل إعلامية في شكوى طليقة أحمد السقا    «24 ألف ماكينة ATM».. خطة البنوك لتوفير النقد للمواطنين خلال إجازة العيد    قبل عيد الأضحى.. حملات تموينية بأسوان تسفر عن ضبط 156 مخالفة    وزير التعليم العالي: إعداد قيادات شبابية قادرة على مواجهة التحديات    داعية: زيارة القبور في الأعياد من البر وتذكره بالآخرة    ارتفاع أسعار 3 أنواع من الكتاكيت واستقرار البط اليوم الخميس 5 يونيو 2025    التنظيم والإدارة: إعلان باقي مسابقات معلم مساعد لمعلمي الحصة خلال يونيو الجاري    «في وقفة عرفات».. موعد أذان المغرب بالمحافظات    الاحتلال يستهدف صحفيين في مستشفى المعمداني واستشهاد 3    إنزاجي: الهلال فرصة عظيمة.. وأرغب بتحقيق البطولات وتقديم كرة ممتعة    من مسجد نمرة إلى جبل الرحمة.. الحجاج يحيون الركن الأعظم في تنظيم استثنائي    مصرع عامل في حادث انقلاب دراجة نارية بالمنيا    اليوم وغدًا.. نجوم الإعلام ضيوف معكم منى الشاذلي    تكثيف الحملات التموينية المفاجئة على الأسواق والمخابز بأسوان    أسعار البيض بالأسواق اليوم الخميس 5 يونيو    «مسجد نمرة».. منبر عرفات الذي بني في مكان خطبة الوداع    الدفاع الأوكرانى: أوكرانيا ستتلقى 1.3 مليار يورو من حلفائها العام الجارى    مسجد نمرة يستعد ل"خطبة عرفة"    عالم أزهري: أفضل أيام العشر يوم النحر يليه يوم عرفة    شريف بديع ل الفجر الفني: كنت شاهد على تحضيرات ريستارت..ورسالته مهمه وفي وقتها ( حوار)    أحمد سالم: صفقة انتقال بيكهام إلى الأهلي "علامة استفهام"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ننشر نص كلمة شيخ الأزهر فى الجولة الرابعة للحوار بين حكماء الشرق و الغرب
نشر في الموجز يوم 02 - 11 - 2016

قال الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر: إن أكثرَ المآسي التي باتت تُعاني منها البشريةُ اليوم إنَّما مرَدُّها إلى شيوعِ الفكرِ المادي، وفلسفات الإلحاد، والسياسات الجائرة التي أدارت ظهرَها للأديان الإلهية، وسَخِرَت منها ومن تعاليمها، ثم أخْفقَت إخفاقًا كبيرًا في توفير بدائل أخرى غير الدِّين، تُحقِّق للإنسان قَدْرًا من السعادة، أو أملًا في حياةٍ ذات مغزى وهدف.
وتابع شيخ الأزهر، خلال كلمته الافتتاحية خلال افتتاح الجولة الرابعة من الحوار بين حكماء الشرق والغرب بأبوظبي، مشددا علي قيمة التآخي بين أتباع الأديان السماوية، للتغلب على محاولات البعض بغرض بث الفرقة بينهم.
وأشاد الطيب في كلمته خلال انعقاد حوار حكماء المسلمين والمسيحيين، بعقد هذه الجولة في دولة الإمارات العربية، مشيرا إلى قيمة التواصل بين حكماء المسلمين والمسيحيين من أتباع الكنسية الإنجيلية.
وننشر نص كلمة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، خلال افتتاح الجولة الرابعة من الحوار بين حكماء الشرق والغرب بأبوظبي.
بسم الله الرحمن الرحيم
غبطة رئيس الأساقفة/ جستون ويلبي.
السادة الحكماء من الغرب والشرق.
الحضور الكريم:
السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه.. وبعد؛
فلعلَّ اجتماعَنا اليوم هو أوَّلُ اجتماعٍ من نوعهِ ينعقدُ في الشَّرقِ العربيِّ، وتحديدًا في دولةِ الإمارات، تِلكُم الدَّولَة التي صارت بفضلِ قيادتها الرَّشيدة، وحِكمةِ القائمين على أمورِها، نموذجًا يُقتدى به في الانفتاح المتوازن والتطوُّر المحسوب بدقَّةٍ، والجمع بين القديم والجديد، والأصالة والمعاصرة، والتُّراث والحداثة، في انسجامٍ دقيقٍ، وتناغُمٍ يقِلُّ نظيرُه في نماذج الدُّوَل التي تحاولُ أنْ تأخذ طريقها نحو الرُّقي والنُّهوض.
وما أظنُّ أنَّ تاريخَنا العربي المُعاصر سبق أن سجَّل لقاءً بين حُكَمَاء المسلمين وحكماء المسيحيين من أتباع الكنيسة الإنجيليَّة، وفي ظِلِّ اجتماعٍ مُحَدَّدِ الأهدافِ والغاياتِ، كاجتماعِ اليوم الذي نعوِّلُ عليه كثيرًا –بعد الله تعالى – في اتخاذِ خُطوةٍ جديدةٍ على طريقِ بناءِ عالَمٍ متكامِلٍ ومتفاهِمٍ، للعملِ من أجلِ تخفيفِ ما يُعانيه الناسُ –اليوم-من رُعبٍ وألم ودماء وحروب.
وأظنكم أيُّها السادة الحكماء تَتَّفِقُونَ معي في أنَّ أكثرَ المآسي التي باتت تُعاني منها البشريةُ اليوم إنَّما مرَدُّها إلى شيوعِ الفكرِ المادي، وفلسفات الإلحاد، والسياسات الجائرة التي أدارت ظهرَها للأديان الإلهية، وسَخِرَت منها ومن تعاليمها، ثم أخْفقَت إخفاقًا كبيرًا في توفير بدائل أخرى غير الدِّين، تُحقِّق للإنسان قَدْرًا من السعادة، أو أملًا في حياةٍ ذات مغزى وهدف، أو تضمَن له حقوقًا كالتي تضْمنُها له الأديان الإلهيَّة، وفي مقدمتها: حقُّ العدلِ والمُساواةِ، وحقُّ الحريَّة وحقُّ الاختلافِ.
وإنِّي لا أرتاب -أيُّهَا السيِّداتُ والسَّادَة -في أنَّ البشريةَ باتت تتطلَّعُ اليومَ -وبشغفٍ شديدٍ-إلى العودةِ لجوهرِ الأديانِ الإلهيَّةِ، وتعاليمِها الإنسانيَّةِ والخُلُقيَّة، بعد أن جرَّبت الكثيرَ والكثيرَ مِمَّا كادَ يُشْرِفُ بها على هلاك مُحقَّقٍ ودمارٍ شاملٍ، وبعد أن استبدَّت هذه التجارب بمصائر الشعوب وحقوقها ومُقدَّرَاتها، ورهنتْها بسياسةِ القُوَّة والغطرسة وفلسفة التوسُّع، وشهوة التسلُّط، وجموح الفرديَّة والأنانية.
وقد اعتقدَ الناسُ في القرنين الماضيين أنَّ التقدُّم العلمي، والتطوُّر التِّقَنِي والفلسفي، قد أنهى دور الأديان في الحياة، وأحالها إلى متحف التاريخ، وأنَّ التطوُّرَ في كل هذه الميادين أصبح هو الأجدر بقيادة الإنسانيَّة، وتولِّي مسؤولية تهذيبها وترقيةِ شعورِها، وكَبْحِ نوازعِ الشَّرِّ في أبنائها. غيرَ أنَّ الواقعَ كان يُكذِّبُ هذا الحُلُمَ الجديدَ أوَّلًا بأوَّل، ويُحْبِطُ ما تعلَّق به من أوهامٍ، وَهْمًا تِلْوَ الآخَرِ، وقرأنا في كُتبِ الكثيرين منهم أن « القرن التاسع عشر –مثلًا- إذا كان قرنَ المباحثِ العِلميَّة وفلسفات التطوُّرِ، فقد كان أيضًا قرن التوسُّع في الاستعمار، وتوظيفِ العِلْم والالتواءِ به لتحقيق مصالح المُستَعْمِرين وأطماعهِم السياسيَّةِ، حتى زعم عُلَمَاءَ هذا القرن ومُفَكِّرِوه أنَّ الأجناسَ البشريَّة، لا ترجِعُ إلى أصلٍ إنسانيٍّ واحد كما تُقرِّر الأديان المُقدَّسة، بل إلى أُصُولٍ عِدَّةٍ مختلفةٍ، راحوا يلتمسونها في القِرَدَة العُليا وغيرها من الحيوانات.. ثُمَّ بنَوا على هذه المزاعم نظريات أخرى تُفرِّقُ بين الناس، وتُصَنِّفهُم على أساسٍ من اللَّونِ والعُنصرِ، وظهرت نظريةُ الجِنْسِ الآري التي تؤكد على امتِيَازه على سائرِ الأجناسِ الأخرى، وأنَّه وحده صاحب الفضل في كل الفتوحات العلميَّة والثقافيَّة والحضاريَّة».. إلخ ما تعلمونه حضراتُكم من تاريخ هذه النظريات المنسوبة للعلم، والتي كانت تُصنع صُنْعًا، ثم تُطرح لتبريرِ سياسات الاستِعمار والتسلُّط والاسْتِقواء على الآخرين، ضاربة عرض الحائط بما اتفقت عليه الأديان الإلهيَّة في قضية خلق الإنسان خلقًا مستقلاً، وبما تقرره في نصوصها المقدسة من أن قضية بدء الخلق ستظل –مهما تقدَّم العلم وتطوَّر- قضية (ميتافيزيقية) لا ينالها العلم ولا التجربة ولا المعامل ولا المختبرات، وصدق الله العظيم في قوله: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}(الكهف:51).
ولم يكن القرن العشرون بأسعد حالًا من سابقه، فقد وقعت فيه حربان عالميتان راح ضحيَّتَهُما أكثرَ من سبعين مليونًا من القتلى، ولم يكن للدِّينِ بهما صِلَةٌ ولا سَبَبٌ، بل كانت نزعات العِرق والتفوق العنصري في أوروبا من أهم أسبابهما.. وبعد هاتين الحربين سُرعان ما ظهر سلاحُ الرَّدع النَّووي كرعبٍ عالميٍّ يتهدَّدُ البشرية صباحَ مساءَ.
ثُمَّ أطَلَّ القرن الواحدُ والعشرون بسياسةٍ استعماريةٍ جديدةٍ، شديدةِ العُنفِ والقَسْوةِ، أصابكم منها في الغرب ما أصابكم، غير أنَّا –نحن العرب والمسلمين-نعيشُها هنا في الشرق واقِعًا حيًّا مَمْزُوجًا –كل لحظة-بالترابِ والدَّمِ والدُّموعِ والخرابِ، ولَمْ يَعْدِم هذا الاستعمارُ الجديدُ من يُفلْسِفُ له النَّظَريَّات الَّتِي تُبَرِّرُ سياساتِه، كنظريَّةِ صِراع الحضارات ونهاية التاريخ والفوضى الخلَّاقة ونظرية المركز والأطراف.
وما أُريدُ أن أخْلُصَ إليه باختصارٍ، خوفَ الإطالةِ والإملالِ، هو أن التقدُّم العلمي المذهل –ولسوء الحظ-لم يواكبه تقدم موازٍ في الأخلاقِ، وأنَّ التطوُّرَ التِّقني –وبخاصةٍ في مجالِ صِناعة الأسلحة الفتَّاكةِ- جاءَ خَالِيَ الوِفَاض من كل القيم التي تضبط خُطواته في الاتِّجَاه الإنساني الصَّحيح، ولُوحِظَ أنَّ الحروبَ يَزدادُ سَعيرَها وتشتدُّ وطأتُهَا كُلَّمَا ترقَّى العلم في سلم التطور، حتى صار التقدُّم العلمي واندلاع الحروب كأنهما حلقتان مترابطتان، يدعم كل منهما الآخر ويقويه.. وقل مثل ذلك فيما يتعلَّق بالتقدم والتطور الذي حدث في ميادين الفلسفة والأدب والاجتماع والفنون، فقد تطوَّرت هي الأخرى بعيدًا عن فلسفة الدِّين، وفي غَيْبَةٍ من قواعدِ الأخلاقِ، وفي استخفافٍ ساخرٍ من الأنظارِ العقليَّة المُجرَّدة، ومن الميتافيزيقا وفي تقاطُع مُتعَمَّد مع التُّراث الإنساني وكنوزِه الدِّينيَّة والفلسفيَّة، فجاءت هذه النظريات الحديثة وإثمها أكبر من نفعها.
أيُّها الإِخوة الأعزَّاء!
ما أشبهَ الليلةَ بالبارحةِ! وما أشبهَ مؤتمرَنا هذا بمؤتمرٍ عالميٍّ للأديان عُقد في لندن عام 1936م، وأسهم فيه شيخُ الأزهرِ حينذاك «الشيخ/ محمد مصطفى المراغي» برسالة بعث بها إلى المؤتمر بعنوان: «الإخاءِ الإنساني والزَّمالةِ العالميَّةِ»، وقد هالني هذا التَّشابُه –أوَّلًا- بين القلق الذي كانت تعيشه أوروبا في ذلكم الوقت، والقَلَق الذي يعيشه عالمنا الآن، وثانيًا: هذا التشابُه في عناوينِ الرسائل بين الأمسِ البعيدِ واليوم الحاضر، فرسالةُ الشيخ كانت تبحثُ عن الإخاء الإنساني والسَّلام العالَمي، وهو المضمونُ نَفْسُه الذي تبحث عنه رسالتنا اليوم، وهي تتطلَّع إلى عالَمٍ مُتكامِلٍ متفاهم.. وأكبرُ الظَّنِّ عندي أنَّ ما انتهت إليه رسالة الأزهر في مؤتمر لندن سوف يضيء لنا الطريق فيما سينتهي إليه لقاء أبو ظبي اليوم.
ويُحْسَبُ لهذه الرسالة أنها في الوقت الذي كان فيه الناس في الغرب يتشاءمون إذا بدأ صباحهم برؤية رَجُل الدِّين، أَعْلنَت هذه الرسالة في قلب أوروبا كلها ألَّا مخرج للعالَم مِمَّا هو فيه إلَّا بالتديُّن والاعتصام بالدِّين.. وأن علة السقوط الحضاري في عصر ازدهار العلم ليس هو الدين كما استقر في أذهان الناس، وإنما هو الإلحاد والاتجاهات الفلسفية المادية، وهذا النظر النقدي لم يكن أمرًا يَجْرُؤ على التفوه به كثيرون من قادة الفكر والإصلاح، بل كان من أصعب الصعب –في ذلكم الوقت -توجيه نقد عميق لأخلاقية العلم في عصر ازدهاره وقِمَّة توهُّجِه، كما لم يكن من السهل أن تُنتقد الفلسفات الوضعية، ويُحذَّر من افتتانِ العقول بها، ومن سيطرتِها على النظريَّات السياسيَّة والاجتماعيَّة، بل على التفكير الديني نفسه؛ حتى اضْطُرَّ بعضٌ من رجالِ الدِّين المسيحي، والعُلَمَاء المسلمين أيضًا، إلى اللُّجوء لمحاولات التوفيق أو التلفيق بين النصوص الدينية المُقدَّسة، وبين ما يعارضها من أنظار العلماء والفلاسفة، حتى لو كانت هذه الأنظار مُجرَّد احتمالات لم تصل -بعدُ-لمرتبة القانون العلمي وتتمتع بما يتمتع به من يقينٍ وثبوت. وكثيرًا ما جاءت هذه الفلسفة التلفيقية على حساب النصوص المقدسة ودلالتها الواضحة، وبدا لكثيرين آنذاك أن الدين يلفظ أنفاسه الأخيرة أو يكاد..
ولم يتردَّد الشيخ في أن يعلن في رسالته أنه لا دواء لهذا السقوط إلَّا في «التديُّن والشعور الدِّيني»، الذي يصفه بأنه غريزة ثابتة في فِطْرةِ الإنسان، وأنَّه أقوى تأثيرًا في قيادةِ الإنسانيةِ نحو السَّلامِ والعَدْلِ والمُسَاواةِ، من كلِّ نوازعِ الإلحادِ الدَّافعة إلى فساد المجتمع الإنساني.. ويتوقَّع الشيخ اعتراضًا من الملحدين ومن على شاكلتهم من الساخرين بالأديان مؤداه: أنَّ التاريخَ حافلٌ بمآسٍ وكوارثَ إنسانيَّة «كان فيه الشعور الدِّيني قُوَّة طائشة دفعت إلى عنفٍ، وتدميرٍ مُرَوِّعٍ»، وهذا الواقع المحزن صحيح -فيما يرى الشيخ-، لكنه يبين أنَّ هذه الذكريات المُرَوِّعة ليس سببها الدين، فليس في طبيعة أي دين من الأديان الإلهية ما يؤدي إلى أيَّة مأساةٍ من هذه المآسي التي تُحْسَبُ عليه، وأنَّ السَّبَب الحقيقي من وراء هذه المآسي هو استغلال الشعور الديني، وتوظيفُه في واقع منحرف، وتحقيق أغراض يرفضها الدين نفسه، بل ينكرها أشد الإنكار..
من هُنا–أيُّها الإخوةُ والأخوات! - يَبْرُزُ الدَّور الخطير المُلقي على عاتقنا نَحْنُ -عُلَمَاءَ الدِّين ورجالَه - قبلَ غيرنا، لتدارك هذه الأزمة التي يَختَنِقُ بها العالَم اليوم، وطريق ذلك: أن الأخوَّة العالميَّة التي راودَت أحلامَ الأزهرِ في ثلاثينيات القرن الماضي، ولازالت تراودُه حتى هذه اللحظة، تبدأ من الأخوَّة بين رجالِ الدِّين أوَّلًا، أو كما يقول اللاهوتي الكبير/هانز كينج: «لا سَلام للعالَم بدون سلام ديني»، وعليه فإن علماء الأديان –اليوم- إذا كانوا ينتوون القيام بدورهم في التبشير بالسلام العالَمي، وإحلال التفاهم محل الصراع، وتحقيق آمال الناس في عالَم مُتكامِلٍ متفاهم - فعليهم أن يحققوا السلام والتفاهم بينهم أوَّلًا، حتى يُمكنَهم دعوة الناس إليه.. وهذا ما حَرَصَ الأزهرُ أن يتحرَّكَ في إطاره، حين بدأ أولى الخطوات العملية على هذا الطريق الطويل بزيارة رسمية لكنيستكم الموقَّرة: كنيسة كنتربري، وسعدنا كثيرًا –غبطة الآرش بيشوب !- باستضافتكم الكريمة لوفد الأزهر في قصر لامبث العامر خلال الفترة من 9-12يونيو 2015م. ثم جاءت خطوة الأزهر الثانية باتجاه حاضرة الفاتيكان وزيارة البابا فرنسيس، في 23 مايو 2016م، ثم كانت الرحلة الأزهرية الثالثة باتجاه مجلس الكنائس العالمي بجنيف، خلال الفترة من 30 سبتمبر إلى 2 أكتوبر 2016م، وأتوقَّع –بمشيئة الله تعالى-أن تسهم هذه الزيارات كثيرًا في تخفيف آلام الفقراء والبائسين والمحترقين بنيران الحروب العبثية، والسياسات المنحرفة عن جادة الدين والخلق والضمير.
وها نحن نجتمع اليوم في مدينة أبو ظبي اجتماعَ الحكمة والأخوة والمودَّة، نستلهم العون من الله تعالى، ونتأسى بالأنبياء والمرسلين في اعتمادهم على الله، وتَحَمُّلِهم ما لا تَحْتَمِله الجبال الراسيات من أجل إنقاذ المجتمع الإنساني من الضلال، ووضعه على طريق السعادة في الدنيا والآخرة.
أيُّهَا الضيوف الأَعِزَّاء!
إذا كان لي من أملٍ في لقائنا هذا فهو الرجاء في أن ننسى الماضي وما يبعثه هذا الماضي من كراهية وضغائن، وأن ننظر إلى الأمام، وأن نتيقن أننا لسنا مسئولين أمام الله تعالى عما مضى، بل –وبكل تأكيد-سوف يسألنا عن زمننا هذا الذي نعيش فيه وعن واجبنا تجاهه، وعن أمانتنا التي اؤتُمِنَّا عليها نحو خَلْقِ الله وعِيَالِه. وكلي يقين أن كلًا مِنَّا يحمل بين جنباته عزيمة صلبة ويقينًا ثابتًا، وأملًا لا محدودًا في أن جهودنا المشتركة سوف تؤتي ثمارها يانعة في المستقبل القريب بإذن الله.
وأختم كلمتي إليكم بأن الإسلام الذي أَعْتَنِقُه دينًا –أيها السادة-يُرَحِّبُ أوسَع الترحيب بأيِّ جهدٍ يُبذَل من أجلِ إسعاد إنسان، أو رحمة بحيوان، أو حماية لنبات أو جماد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.