في مدينة الحب يبقى الإنسان في قلب العالم ظمآن لا يلمس الأرض أبدا .. فإن نهل من نبع سحاب الهوى زاد هياما وازداد عطشا .. وإن كنت أرى هذه حقيقة من حقائق الحب .. فأرى أيضا أن فلاسة الحقيقة يصلون بالحقيقة إلى العقل .. وفلاسفة العقل يصلون بالعقل إلى الحقيقة .. والحلاج رضي الله عنه من فلاسفة الحقيقة الأفذاذ كالأسمر وابن عربي .. وهم يختلفون عن فلاسفة العقل كابن رشد وأرسطو كما أرى .. ذلك لأن فلاسفة العقل تحدثوا بمنطق العقل والعقل اعتمد على حواسه الخمس .. وهي سبل إدراك العقل في عالم الشهادة المادي .. وما لا تدركة الحواس في عالم الشهادة لا يدركه العقل .. وبالتالي فالعقل عاجز عن إدراك ما هو خارج نطاقة كالغيب و الروح في عالم الحقيقة .. فحين يصدر العقل حكما على مالا يدركه في هذا العالم فقد أصدر بيانا عن جهله وقبحه .. وهو ما حدث مع الفيلسوف الحلاج حين أصدر العقل حكما بإعدامه !! .. و الروح حقيقة في عالمها عالم الحقيقة التي تتقابل فيه يوميا جميع أرواح الأحياء والأموات وتتحدث وتتعارف وتشاهد مشاهداتها في عالم المشاهدة .. وسواء تذكر عقل الأحياء ذلك أو لم يتذكر فالأرواح تعود إلى ما كانت عليه .. إما إلى العالم الآخر عالم الحقيقة .. وإما إلى عالم الشهادة في الحياة الدنيا .. قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .. لنتفكر .. ونعي أن أرواحا تتقابل مع ذويها .. وأرواحا تتقابل مع الأنبياء وتتحدث معهم .. وأرواحا تشاهد الأنوار الإلهية وتتحدث عن رب العزة .. فإن تحدث فيلسوف الحقيقة بمشاهدات عالم الروح يعجز العقل القابع في عالم الشهادة الأرضي عن إدراك هذه الحقيقة .. لذا جميع فلاسفة الحقيقة على اتفاق تام .. بينما فلاسفة العقل على اختلاف دائم .. وعندما ظهر التابعي الحلاج سنة 244 هجرية وتحدث من عمق عالم الحقيقة عجزت العقول المغيبة عن الحقيقة في إدراكها .. فاتهموه بالزندقة والكفر .. وألصقوا به تهمة الحلول والاتحاد .. وحكموا عليه بالجلد والموت حرقا .. فجلدوه نحو ألف جلدة وقطعوا يداه ورجلاه وأحرقوه وتركوا رأسه معلقة على سور جسر بغداد .. ولم يكن ابن تيمية موافقا ذلك فقط بل رأى من بعد تكفير الحلاج تكفير كل من اعتقد في أقواله كما قال في كتابه مجموع الفتاوى: ( من اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلاجُ مِنَ الْمَقَالاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتِّحَادِ ) .. ولا أدري عن أي اتفاق بين المسلمين تحدث ابن تيمية.. فهم لم يتفقوا أصلا من بعد النبي وتقاتلوا في حروب الردة وتفرقوا في حروب بعدها فرقا اختلفوا فيها حتى على كتاب الله .. فلم يكن هناك اتفاق بين المسلمين إنما إجماع أعلام علماء الأمة على إيمان الحلاج وتأييده ونصرته .. وعلى رأسهم استاذ الفلاسفة الإمام الأعظم عبد السلام الأسمر والذي قال: لو كنت في زمن الحلاج لوقفت بجانبه .. ومن قبله قال الإمام أبو الحسن الشاذلي : أكره من العلماء تكفير الحلاج ومن فهم مقاصده فهم مقاصدي .. ومن بعده الإمام عبد القادر الجيلاني فقال: عثر الحلاج ولم يكن في زمانه من يأخذ بيده ولو أدركته لأخذت بيده .. وأرى بل أجزم بأن الحلاج جسد بإيمانه الحب الإلهي السامي .. ولو قدر الله لي غير نصرته هذه ما أعددت نفسي مسلما .. وعلى أي حال .. فإن كان الفيلسوف الحلاج بات نموذجا من نماذج العشق الإلهي فذلك هو العشق الأيسر كما أرى .. فالأصعب بل البالغ الصعوبة هو ذلك الذي باح فيه أعلام علماء الأمة بحبهم البشري في قصائدهم علانية .. وهو ما دفع إلى التساءل عن سبب ذلك .. وفي سبيل إظهار السبب أتناول بإذن الله تعالى في المقال القادم أدب شاعر الرسول كعب ابن زهير رضي الله عنه والذي باح بحبه في سعاد علانية .. متمنيا ربطه بمقال جميل بثينة رضي الله عنه وبهذا المقال .. الحلاج شهيد الحب .. بين الفلسفة والعقل والحقيقة .. با حث إسلامي علاء أبوحقه ..