تعّتبر المنظمات الأهلية أحد الأعمدة التنموية في المجتمعات المدنية الحديثة، ودورها يتجاوز المساعدات المباشرة ليصل إلى التمكين وبناء القدرات وحشد الطاقات فى المجتمعات؛ حيث تعتمد المجتمعات الحديثة فى تقدمها على ثالوث التنمية وهما القطاع الحكومى ثم القطاع الخاص ثم العمل الاهلى أو المجتمع المدنى أو القطاع الثالث كما يطلقون عليه، ومن أهم مكونات المجتمع المدنى وأنشطها وأكثرها انتشارًا بين الناس هى المنظمات الأهلية، حيث تشير تحولات المجتمع المصري في كثير منها إلى أهمية وثقل دور منظمات العمل الأهلي في رسوخ سبل دعم الأمن الاجتماعي والتماسك المجتمعي، وفي حجم المشاركة والتفاعل مع المبادرات الرئاسية والمجتمعية، وفي إرتكاز الاستراتجيات الوطنية على الجمعيات والمنظمات الأهلية ودورها التنموي وتعاملها مع أزمتي المشاركة والتوزيع، وقدرتها على التعبير عن التشكيلات الاجتماعية والثقافية في الدولة. وبالنظر إلى جميع المبادرات التنموية التى أطلقتها الدولة المصرية تتضح أهمية المشاركة بين القطاعات الثلاثة الحكومي والأهلي والخاص، الأمر الذي تجلى أيضا في رؤية التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي عبر دعم النهج التشاركي بين أعضائه والربط بين المبادرات والاستراتيجيات الوطنية منذ انطلاقه في مارس 2022، حيث اعتمد فلسفة دعم سياسات التنمية البشرية وتعزيز التماسك المجتمعي، وهو ما يؤكده الإطار التشريعي للتحالف بموجب القانون رقم 171 لسنة 2023، ولعل ظهور التحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموى برئاسة شرفية للسيد الرئيس يعد أكبر دليل على أهمية المنظمات الأهلية ودورها فى التنمية بمختلف مجالاتها. لكن وسط هذا الدور المهم الذى تلعبه المنظمات الأهلية فى التنمية، تظهر ظاهرة يُمكن وصفها ب "الانفصام المؤسسي" وهي حالة من التناقض بين ما تعلنه المنظمات من قيم ورسائل واستراتيجيات، وبين ما تمارسه فعليًا على الأرض، حيث يشير الانفصام المؤسسي إلى فجوة بين "القول" و"الفعل" داخل المنظمة؛ فقد تُعلن الجمعية رؤى تنموية متقدمة، لكنها في العمل اليومي تتصرف بطريقة ارتجالية أو بمنطق "المساعدات الموسمية"، هذا الانفصال بين الخطاب والممارسة لا ينشأ فجأة، بل يتكوّن تدريجيًا أو عن قصد نتيجة ضغوط التمويل، غياب التخطيط، أو ضعف الحوكمة، ورغم أن الانفصام المؤسسى ليس مصطلحًا قانونيًا، لكنه أصبح ظاهرة واقعية تُضعف أثر القطاع الأهلي برمته، وتحدّ من قدرته على قيادة التغيير وإحداث التنمية المنشودة. ولعل من أهم أسباب الانفصام المؤسسى الذى يعترى الجمعيات الأهلية هو ربط رجال المال والسياسة بالجمعيات والمنظمات الأهلية عن طريق مايسمى (بالمسئولية المجتمعية للشركات)، حيث يلعب رجال المال والأعمال دورًا هامًا فى تعزيز المسئولية المجتمعية عن طريق شركاتهم وأعمالهم تجاه المجتمع ؛ والحقيقة هذا الشئ هو شئ محمود وله دور إيجابى على تنمية المجتمعات والنهوض بأحولها؛ ولكن تحدث الطامة عندما يصبح رجل الأعمال هو رجل سياسة فى آن واحد. ومن هنا يندفع العمل الأهلى نحو هدف آخر غير الذى أنشأ من أجله؛ كعمليات الحشد والدعم والتأييد فى الانتخابات النيابية؛ مما أفرز ظاهرة تسييس الجمعيات والمنظمات الأهلية؛ حيث يتم استغلالها فى تنظيم فاعليات فى ظاهرها اجتماعى وباطنها دعاية سياسية، بالإضافة إلى استغلال قواعد بيانات المحتاجين وأهل المرض والعوز وتقديم الخدمات لهم مقابل دعمهم السياسى؛ حيث تتحول المنظمات الأهلية إلى أداة خدمية لشخص أو لحزب، كما يتم توظيف المتطوعين كشبكة اتصال وانتشار كبيرة لصالح شخص أو حزب، وفى كثير من الأحيان يتم استخدام مقر المنظمة كمكان للقاءات السياسية المقنعة؛ ومن هنا تتحول الجمعية أو المنظمة إلى رسالة على الورق وأنشطتها لا تمت لها بصلة حيث تتحدث الجمعية عن "تمكين المجتمع"، لكن مشروعاتها تنحصر في توزيع بطاطين أو شنط رمضان، وهنا تتجلى الفجوة بين الطموح المعلن والعمل الفعلي، بالإضافة إلى وجود مشاريع مفروضة في كثير من الأحيان، حيث تُكتب المشاريع وفق شروط الممول (رجل المال والسياسة) وليس وفق احتياجات المجتمع، فتبتعد الجمعية تدريجيًا عن دورها الطبيعي كمؤسسة مجتمعية، بالاضافة أيضًا إلى عدم وجود قيم المشاركة مقابل ممارسات مركزية حيث تتبنى المنظمات الأهلية قيم الشفافية والعمل الجماعي، لكن القيادة تُحكم قبضتها على القرارات (رجل المال والسياسة)، مما يخلق حالة من التناقض بين "القيمة" و"السلوك"، وهذا يؤدى إلى خطط إستراتيجية لا تتفاعل مع الواقع فالكثير من المنظمات تمتلك أوراق إستراتيجية جيدة، لكنها تبقى مجرد وثائق عندما يأتي وقت التنفيذ تُدار المنظمة بمنطق ردود الأفعال والتعامل مع الطوارئ أو على حسب التوجيه الموجه إليها، وليس لها دور مخطط ووقائى. كل هذه المظاهرة المقدمة سلفا مظاهر الانفصام المؤسسى نتيجة ارتباط المنظمات الأهلية برجال المال والسياسة جعلت المنظمات الأهلية تحيد عند دورها التنموى والحقوقى المنشود، وأفقد ثقة الكثيرين فى أدوارها النبيلة ودخولها تحت مظلة المال السياسى الموجه، ولايخفى على أحد أن هناك منظمات أهلية حقوقية تلعب دورًا فى السياسات العامة؛ ولكن فى مجالات رفع الوعى بالقضايا العامة، وتشجيع المواطنين على المشاركة دون توجيه، وحشد المجتمع نحو قضايا مجتمعية، وبناء قدرات المواطنين. وهناك فرق كبير بين هذا وذاك ومن هنا لا بد لمؤسسات الدولة المختصة أن تتدخل لمنع استغلال الفقر والعوز الذى يعانى منه الناس، وأن تعمل على حفظ كرامة المصريين المستفيدين من خدمات المنظمات والجمعيات الأهلية، والقانون كفيل بذلك؛ لذا نرجو تطبيقه دون محاباة ولااستثناءات كما وجه سيادة الرئيس. حفظ الله مصر.. أصلح الله المجتمع ومؤسساته