كان يمشى فى السوق وسط الزحام متدثرا بعباءة رثة وهو يتمتم بصوت مسموع: "أغيثونى، فليس يتركنى ونفسى فآنس بها، وليس يأخذنى من نفسى فأستريح منها"، فسأله أعرابي: ماذا تخبئ في جبتك؟، فقال: الله.. ما في الجبة إلا الله. ويقال إن هذه الإجابة كانت السبب الرئيسي في الحكم بإعدام الشيخ في مثل هذا اليوم منذ 11 قرنا. هكذا استسهل معظم المؤرخين والفقهاء توصيف قضية الحسين بن منصور الحلاج باعتباره زنديق خرج عن الدين وأثار الفتنة، وهو التوصيف الذي انتهت إليه قبل أيام محكمة ببا في بني سويف بتأكيد حبس الكاتب كرم صابر 5 سنوات، لاتهامه بازدراء الدين وإثارة الفتنة لنشره مجموعة قصصية بعنوان "أين الله؟"، فيما استسهل معظم المثقفين والحقوقيين النظر إلى الحكم الصادر باعتباره مجرد تقييد لحرية الرأي والإبداع، وملأوا الساحة كلاما وضجيجا زاد الفتنة اشتعالا ولم يخمدها. أين الله؟!.. سؤال ملتبس يستخدمه المؤمن والملحد، حسب مغزى ومقصد كل منهما، فهو سؤال قديم ظهر مع حاجة الإنسان لتفسير الكون من حوله، وهناك من يطرح السؤال بصيغة استنكارية، ليضع المؤمنين في مأزق يؤكد عجزهم على إثبات وجود الله، وهناك من يراه مفتاحا للوصول إلى اليقين، كما في رحلة بحث سيدنا ابراهيم عليه السلام عن الله، وفي الحالين يبقى السؤال مطروحا بقوة، سواء في أساطير الخلق منذ القدم، أو في اهتمامات الفلاسفة، وكتابات المفكرين والأدباء في أنحاء العالم، وفي مصر أيضا حيث طرحه توفيق الحكيم ويوسف السباعي ونجيب محفوظ وآخرين، وانشغل به الناس في كل عصر، حتى الأطفال عادة ما يفاجئون الكبار بالسؤال المحير: أين الله؟ الموضوع ليس جديدا إذن، لكن طبيعة الحديث فيه تتجدد حسب الحدث والأزمة، وحسب الزمان والمكان، وعادة ما تبدأ وتنتهي بالصراع حول ثنائية متضادة هي "مؤمن وكافر"، وهي ثنائية لا يمكن لبشر حسمها إذا كان الطرف المتهم بالكفر ينطق بالشهادتين وينكر الكفر، فلا احد يستطيع ان يشق عن عن قلبه ويقرر إيمانه من عدمه، وهذا يعني أننا سنواصل الصراع إلى الابد في قضية لا يمكن حسمها، وإلا فليفسر لي أحدكم استمرار الخلاف حول شخصية الحلاج طوال 11 قرنا من الزمان، لم يستطع خلالها حكم القاضي أبو عمر المالكي، وتربص الوزير حامد بن العباس أن يحسم إدانة الحلاج بالكفر، فقد عاش الخلاف متوازيا، حتى عنى شباب أهل السنة الأشعار التي قتل بسسبها الحلاج، بل واستخدموها رنة للموبايل ونبادلوها على الفيس بوك بعد أن لحنها عمر خيرت في مسلسل ليحيى الفخراني: "والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا و حبّك مقرون بأنفاسي ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهم إلا و أنت حديثي بين جلاسي ولا ذكرتك محزوناً و لا فَرِحا إلا و أنت بقلبي بين وسواسي ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا رَأَيْتُ خيالاً منك في الكأس ولو قدرتُ على الإتيان جئتُكم سعياً على الوجه أو مشياً على الرأس ويا فتى الحيّ إن غّنيت لي طربا فغّنني وأسفا من قلبك القاسي ما لي وللناس كم يلحونني سفها ديني لنفسي ودين الناس للناس" وفهمها البعض باعتبارها أنشودة رومانسية من الخواجة عبد القادر لحبيبته زينب، وعندما شاع أن الكلمات ترتبط بتاريخ الصوفية تداولها الجمهور باعتبارها فصيدة في مدح الرسول صل الله عليه وسلم، لكنها في الحقيقة مناجاة من الحلاج لله، (يعني كلام مدفوع فيه دم)، حيث اتهم باعتناق الحلول والاتحاد، وإدعاء الألوهية، لأنه كان يردد أن الله حل في جسده وصفاته، فكان يتحدث عن الله الذى يتجلى له فى لحظات الوجد الصوفى فيذوب فيه ويفنى، حتى يصبحا واحدا، فيقول مثلا: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتنى أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا" ويقول أيضا: "عجبت منك ومنى يا منية المتمنى أدنيتنى منك حتى ظننت أنك أنى وغبت فى الوجد حتى أفنيتنى بك عنى" وكان يعتبر علاقته بالله جل جلاله تتضمن حالة من الدلال، ويخاطب رب العزة قائلا: "مثالُك في عيني وذكُرك في فمي/ ومَثْواك في قلبي فأين تغيب؟. هكذا كان الحلاج يسأل: أين الله؟، بل يوجه سؤاله للموجود الدائم (سبحانه وتعالى): أين تغيب؟ ليست مشكلة إذن أن يسأل كرم صابر أو أبطال قصصه: أين الله؟، فما المشكلة إذن؟ لا أريد أن تتسرعوا في البحث عن إجابة، فالموضوع معقد ومتشابك، ويكفي أنه يتعلق بالذات الإلهية، لكن هذا لايعني أن نتجاهل الإشكالية ونسد أذاننا، ونغمض أعيننا، ونستشهل إراقة دم مسلم بمجرد شبهات، حتى لو كان ظاهرها هو الخروج عن الدين، ففي حالة الحلاج زاد الالتباس، وتجاوز العبد الحد التقليدي في أدب الحديث عن الله، فدبت الخلافات بين الحلاج وفقهاء عصره، حيث رأى البعض أن كلماته ودعوته لمريديه فيها خروج عن صحيح الدين، فيما رأى آخرون ومنهم القاضى ابن سريج أنها حالة وجد صوفية، وحتى عندما قال "أنا الحق"، و"الله في جبة الحلاج"، فسرها المعتدلون أنها درجة من العرفان الاستثنائي والوعى الإلهى، الذي يستند إلى الحديث القدسى" "مايزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ورجله التى يمشى بها...." فلماذا إذن تطورت المأساة وانتهت بصلب الحلاج على باب خراسان في بغداد، وجلده ألف سوط، وتقطيع يديه ورجليه، ثم فصل رقبته عن جسده، وصب النفط عليه، وحرقه، وذر الرماد المتبقي في السماء فوق نهر دجلة؟، وكيف انتصر الفريق الذي قال بتكفيره على الفريق الذي تفهم عرفانه وصوفيته؟، والأهم كيف نجت سيرة الحلاج بعد هذه المأساة الدامية، ووصلت لنا أشعاره وأفكاره، وقصته نفسها، بالرغم من أن الحكم تضمن حرق كتبه، ومنع الوراقين من نسخها وتداولها ومعاقبة من يتداول أشعاره وكلماته؟ أيضا لا تتعجلوا الإجابة، فهناك من يكفر الحلاج حتى اليوم، وهناك من يعتبره شهيدا ومناضلا من أجل العدالة الاجتماعية، حيث لم تكن صوفيته مجرد جهاد باطني ضد النفس، لكنها كانت أيضا صرخة اجتماعية وسياسية ضد الظلم والطغيان في عصر الخليفة المقتدر بالله الذي لقبه بعض المؤرخين ب"الطفل العابث" المنصرف إلى الترف والغلمان والجوار والخصيان الصقالبة، وفسر هؤلاء المؤرخين الانقلاب على الحلاج وإعدامه لأسباب سياسية، بعد ارتفاع صوته للدفاع عن الفقراء ومطالبته بالعدل، و ارتباطه (غير المباشر) بثورة الزنج والقرامطة واحتجاجات المهمشين تطلعا لحياة أفضل، ولذلك استخدمت السلطة الدين كذريعة، ودبرت حملة إعلامية وقانونية مخططة لفض أنصاره من حوله، وتأليبهم عليه، وهو ماصاغه صلاح عبد الصبور في مسرحيته الشعرية للتعبير عن استغلال السلطة لبسطاء الشعب في مواجهة الشعب نفسه، أو القيادات المنحازة لقضاياه: "صَفونا.. صفاً، صفاً الأجهر صوتاً والأطول وضعوه فى الصف الأول ذو الصوت الخافت والمتوانى وضعوه فى الصف الثانى أعطوا كلاً منا ديناراً من ذهب فأتى برَّاقا لم تلمسه كفٌ من قبل قالوا: صيحوا .. زنديقٌ كافر صحنا: زنديقٌ .. كافر قالوا: صيحوا، فليُقتل أنَّا نحمل دمه فى رقبتنا فليُقتل أنا نحمل دمه فى رقبتنا قالوا: امضو فمضينا الأجهر صوتاً والأطول يمضى فى الصف الأول ذو الصوت الخافت والمتوانى يمضى فى الصف الثانى" هكذا تلعب السياسة بالدين والإعلام والفقر، والفقر كما يقول عبد الصبور على لسان الحلاج: "ليس الفقر هو الجوع إلى المأكل، والعري إلى الكسوة/ الفقر هو القهر/ الفقر هو استخدام الفقر لإذلال الروح/ الفقر هو استخدام الفقر لقتل الحب وزرع البغضاء/ الله يقول لنا: كونوا أحبابا محبوبين/ والفقر يقول لنا: كونوا بغضاء بغاضين" فيرد عليه القاضي أبو عمر: هبنا أغفلنا حق السلطان/ ما نصنع في حق الله؟ وهذا سؤال يعيدنا إلى منطلق الحكم على كرم صابر، وهو إيهامنا بأن السلطة تدافع عن الله، واستغفره سبحانه وتعالى أن يكون هذا مقبولا ومتماشيا مع جوهر الدين، بل ولا حتى ظاهره، فكيف يدافع الضعيف عن القوي؟، ومن يقدر أصلا على المساس بذات الله، وماهي الخطورة التي تهدد المجتمع من رجل يكفر أو رجل يؤمن؟. هذا الموقف المعكوس يذكرني بدراسة في علم اللاهوت أشارت إلى مفارقة عجيبة فحواها أن الرب قوي في كل ديانات الأرض السماوية والوضعية، وتساءلت الدراسة باستخفاف: لماذا يتصور المسلمون إذن أنهم أقوى من الله فيتنطعون بالدفاع عنه، وهو الذي يقول: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا"، ولم يقل إن "الذين آمنوا يدافعون عن الله"؟ يشير المستشرق الفرنسي ماسينيون إلى السلطة ودروها في توظيف الدين لتوطيد أركان حكمها ويقول في دراسته عن "المنحنى الشخصى في حياة الحلاج" (ترجمها الدكتور عبد الرحمن بدوي) أن السلطة أرادت أن تعاقب الحلاج على الفكر الاجتماعي والتحريضي الذي انحرف إليه، فأشاعت أنه متآمر على الملة، ويتصادم مع معتقدات ومشاعر الجموع، وبالتالي مهدت للتخلص منه بعد أن شتتت مريديه، وأربكتهم. لكن هل يصلح تفسير ماسينيون لواقعة الحكم بحبس المؤلف كرم صابر؟، وهل هناك علاقة بين الحلاج وأفكاره من ناحية، وبين صابر وقصصه من ناحية ثانية؟ -------- نقلا عن المصري اليوم جمال الجمل