لوزير حامد بن عباس وجه حقده وغيظه وحسده إلي الحلاج الذي يزوره الناس من الطبقات كافة ويتوسلون إليه في الدعاء لهم اتهموه بالكفر والإلحاد لما حملته أشعاره وكلماته من مسحة التجريد والتسامي التي لازمت تعبيراته دائما، فلم تكن أبياته إلا تعبيرا حسيا طرقه قبله شعراء كثيرون دون أن يتهمهم أحد، (أنا من أهوي ومن أهوي أنا نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا) قُدم الحلاج إلي المحاكمة وكانت هيئتها مكونة من القضاة الرسميين الكبار في بغداد وهي هيئة ثلاثية مالكية برئيسها، حنيفية بعضويتها ولم يحضر الجلسة أحد من الشافعية ولا الحنابلة، وانطوي هذا التشكيل علي سوء نية وتحيز واضح، فمن المعروف أن المالكية لا يجوزون توبة الزنديق بعكس غيرهم من اتباع المذاهب الأخري، ومما يؤخذ علي هذه المحاكمة أنها أُفرغت في قالب ديني رغم أنها في أساسها سياسية وقد جرت محاكمة الحلاج علي أساس من استجوابه فيما نسب اليه بمراجعة أدلة الاتهام وفحص مستنداته التي قدمها جميعا خصمه الوزير حامد بن عباس اعتمادا علي الشهود من ناحية وعبارات الحلاج في كتبه المشُعرة بالردة والخلاف من ناحية أخري وصدر الحكم بقتل الحلاج (وضربه ألف سوط وان لم يمت فيتم قطع يديه ورجليه ثم بضرب رقبته وتنصب رأسه وتحرق جثته) ولكي نعرف لماذا تم اتهام الحلاج ومحاكمته يجب أن نتعرض للسياق السياسي والاقتصادي للدولة في بغداد في هذا التوقيت ففي سنة 296م كانت الأحوال السياسية مضطربة في بغداد هذا بالإضافة إلي قيام دولة زيدية في طبرستان ودولة فاطمية في تونس وتهديد القرامطة المستمر للعراق نفسه وكانت الأحوال الاقتصادية سيئة والغلاء يسود والجنود يعانون من حبس أرزاقهم، وكل المؤشرات تدل علي الانهيار والسقوط الوشيك للدولة، وفي هذه الأثناء كان الحلاج يبذل جهدا كبيرا في الثورة علي الدولة، فتم مطاردته إلي أن أوقع به وقبض عليه واكتفي بحبسه سنين كثيرة واخذ يتنقل من حبس إلي حبس أخر إلي أن انتهي به المطاف بحبسه في دار السلطان ورغم الاعتقال فقد كانت هذه الفترة من أخصب فترات الحلاج في التعبير عن أفكاره وإظهار مواهبه في الفراسة والسياسة والكتابة والشعر وأكمل كتابه (الطواسين)، كتاب (السياسة)، كتاب (الحلفاء)، وكتاب (الدرة)، إلا أن الوزير حامد بن عباس وجه حقده وغيظه وحسده إلي الحلاج الذي يزوره الناس من الطبقات كافة ويتوسلون إليه في الدعاء لهم وينتشون من حلاوة كلماته فبدأ يحيط له المؤامرة الكبري، ويذكر الدميري وبن زنجي إن الحلاج برز إلي ساحة الإعدام في رحبة الجسر بباب خراسان في الجانب الغربي من بغداد شيخا في الخامسة والستين أبيض الشعر واللحية، له علامة في رأسه واجتمع عليه خلق كثير وتقدم الحلاج فصلي ركعتين وبعد ذلك تقدم السياف فلطمه لطمه هشم بها وجهه وأنفه، ثم ضُرب نحواً من ألف سوط، فلم يمت فطعت يده ثم رجله ثم رجله الأخري ثم يده ثم ضربت عنقه وأحرقت جثته، فلم صار رمادا القي في نهر دجله ونصب رأسه للناس علي سور السجن وعلقت يداه ورجلاه إلي جانب رأسه، لقد صدق حدس الحلاج عندما قال تُهدي الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي)ذبح الحلاج ليلة الثلاثاء، 24 من ذي القعدة عام (309ه-922م) وبعد سنوات قليلة من رحيل الحلاج، أتيح للناس أن يتعرفوا علي الحلاج ومأساته وارتفعت أصوات الصوفيين تفك الطلاسم عن سجل الحلاج وتلملم أجزاء جسده المعلقة علي سور السجن وتغسل دماءه المراقة فوق الرمح في شوارع خراسان، وتبحث عن رماد جسده المنثور في نهر دجلة، مذبحة الحلاج ولدت الأساطير والسحر فقد ذكر المعجبون به انه لما القي رماده في دجله، ظهر علي وجه الماء (أنا الحق)، لقد لاحظ الحلاج أن الناس في عبادتهم لله تعالي خوفا وطمعا فقط وبذلك يهدرون أسمي رابطة تجمع بين الخالق والمخلوق آلا وهي الحب فإذا كان الله قد خُلِق ليعبدوه فإن هذا يعني انه خلقهم ليعشقوه، وقد اعتبر الحلاج العشق صفة من صفات الله تبدأ منه لتنتهي بالعباد، أي أن العشق صفة إلهية، وبذلك يضطرنا الحلاج أن نرسل التحية لمحي الدين بن عربي وابن الفارض، وتحية للشهر زوري وللسهر وردي، تحية لرابعة العدوية وغيرهم من الرحالة في بحر العشق والنشوة الروحية والذين اتبعوا عالما شعريا خاصا له معجمه الخاص، والذين بشروا بدين العشق بديلا من دين الطمع والخوف، فتحية(لأدونيس) الذي جدد ذكري الحلاج في الثقافة العربية، وتحية (لصلاح عبد الصبور) لرائعته المسرحية (مأساة الحلاج) وتحية (لفرج فودة) شهيد الكلمة الحرة و(نصر حامد أبو زيد) المنفي عن وطنه و إلي كل الذين أعلنوا الثورة علي رتابة القوانين وظلم الإنسان وخرجوا إلي رحاب التفكير الفلسفي الحر. لم أكن وحدي / كان هناك الصوت و الندي و الخريف و الذكري و الانتظار / و العواصف و الطواحين / تاريخ و يوميات مدونة في قصيدة / دخول و خروج و طائر مجنح لم أكن وحدي / تأتيني رنة صوتك السحرية / فتفيض روحي / يسكرني صوتك فأري النجوم و الشهب/ و يغمرني الشوق و أصبح راهبة في وصالك / تحملني السكرة إلي منبع إلهامك / فأستعذب نسيم أنفاسك / و حزنك و فرحك الدافئ ، أخاف علي نفسي إذا تمنيت / فالتمني كقبض الريح / يصير كسراب الحلم .