كثير من المسئولين لا يعرفون القيمة الحقيقية للعمل الثقافي، ولا يحترمون الثقافة، ومن ثم لا يحترمون المثقفين، على عادة النظام المصري السالف الذي كان يزدري أول ما يزدري المثقف والثقافة ، ظناً منه أن كارنيه مباحث أمن الدولة يمكن أن يكون فعَّالا أكثر من كارنيه إتحاد كتاب مصر، أن كاب الشرطي أهم من عمة الشيخ الأزهري، وأن السجن أهم من المكتبة في مسيرة التهذيب والإصلاح، وأن الشرطي أهم من المعلم، وأن إلهاء الشعب أهم من توعيته وتثقيفه، وأن الشعب الجاهل أسلس قيادة من الشعب المتعلم، وأن الثقافة خطر ورياح نكداء يجب غلق كل الأبواب التي تحمينا منها، وأن البلطجي أهم من المثقف في ترسيخ أركان النظام، وأن الجريدة والمجلة والصحفي والأديب والمفكر أدوات للشر. هي نظرة تقليدية دكتاتورية إلى قيمة العلم والثقافة والمثقف .. ولقد بُلينا على مدى عقود خلت بنظم حاكمة غشيمة نهجت فينا نهجاً مؤسفاً، رسخ كثيراً من قيم ازدراء الثقافة والمثقف، كما رسخ فوق الكراسي مسئولين يؤمنون بإيمان النظام ، ويمارسون نفس الفعل الإجرامي في حق الثقافة والمثقف. ولكن الحقيقة أن ثورة 25 يناير أثبتت فشل هذا النهج المباركي، وأكدت قيمة الثقافة والمثقفين في صنع الثورة والتغيير وإسقاط الأنظمة العبيطة البغيضة التي تبدأ بنفي الثقافة والعلم عن شعبها، كما أكدت أن مثقفي مصر أهم بكثير من كل منظومة مبارك القمعية ورجاله ونظامه ومنظومته الأمنية، وأن ما يحدث الآن من فوضى في إعادة الشخصية المصرية الحقيقية للشارع المصري مسئولية سوف يضطلع بها المثقف في الفترة القادمة ، ولن يضطلع بها المحافظون أو الوزراء، مع عِظم المسئولية ، إنه الدور الذي يذكرني بدور عنترة بن شداد الذي ظلت قبيلته تزدريه وتحتقره وتعامله كعبد، إلى أن حاق بها الخطر وأشرفت على الهلاك تحت سنابك خيول الأعداء، فلجأوا جميعا إلى عنترة يطلبون التصدي للعدو، وتوفير الحماية، وصد رياح الإبادة. إننا لن نقصر في دورنا الذي نعيه تماماً، وسوف نكون تحت إمرة شعبنا، ومتطلباته الثقافية والروحية وسوف نقود كمثقفين الفترة الحرجة، حتى تعود للشارع المصري ملامح أصالته التي بددها مبارك ونظامه، وسوف لن نقصر في خدمة وطننا نحو تنمية الوعي، والنهوض بمسيرة التنوير، ذلك لأننا وطنيون، محبون لبلدنا، وغير ذلك لأننا لا نرضى أن نعيش بلا دور حقيقي في هذه الحياة. لعل ما يؤسفني بعد هذا أن تكون عقلية مبارك ونظامه ورجاله هي ما تسيطر على بعض المسئولين ، وتحول بينهم وبين تغيير نظرتهم على الثقافة والمثقفين. لقد تلقيت دعوة لحضور احتفالية بمناسبة مئوية الأديب المصري العالمي الراحل نجيب محفوظ، ينظمها ائتلاف الثقافة المستقلة، وهو ائتلاف غير رسمي ، أقام احتفالية بمدينة الأقصر بمئوية نجيب محفوظ، كما أقام نفس الاحتفالية في القاهرة والإسكندرية، وكنت أعلم منذ تلقيت الدعوة أن محافظة الأقصر سوف تقوم بدور مع ائتلاف الثقافة المستقلة في تنظيم هذه الاحتفالية وإنها مسئولة مسئولية مباشرة عن انتقالات المدعوون وإعاشتهم، وبناء على ذلك تحركت من أبي تشت إلى الأقصر في تمام الثامنة صباحاً؛ لعلي أصل في الحادية عشرة ظهراً، موعد بدأ الاحتفالية، وما أن وصلنا إلى الأقصر حتى فوجئنا بأن الافتتاح الساعة السادسة مساء وليس الحادية عشرة ظهراً ، وأننا سوف نجلس على المقاهي طوال اليوم حتى يحين موعد الافتتاح. وبعد نهاية الاحتفالية في التاسعة مساء تقريبا كانت المفاجأة الأخرى أن محافظة الأقصر على لسان موظف العلاقات العامة بها لن توفر الانتقالات أو المبيت أو الإعاشة لنا. الأمر الذي استنفرت له مستاءً صحتي المبددة، وكان علي رجل مثلي يشارف على الستين من العمر، ويعاني ما يعاني من متاعب بدنية وصحية خطيرة أن يعود إلى أبي تشت مرة أخرى ليصل إلى بيته في الثانية عشر صباحا من اليوم التالي، دون أن يتناول غير كوب شاي واحد في إحدى مقاهي الأقصر، وقد شحت كل فنادق الأقصر وبيوتها عن استضافة المثقفين من أبناء قنا وأبوتشت وفرشوط الذين استجابوا للدعوة وذهبوا إلى الأقصر ليشهدوا شح محافظة الأقصر وتقصيرها في حق الضيف أولا، وحق المثقف ثانياً، وليشهدوا قيماً مختلفة من الشح والجفوة والمجافاة لكل طِباع الصعايدة، وليشهدوا نموذجا حيا من عدم الوفاء ، في مناسبة هي أساساً مخصصة للوفاء. كانت المناسبة وفاء من جميع من حضروا من المثقفين والمبدعين ومن أعضاء ائتلاف الثقافة المستقلة وخاصة السيدة الفنانة عزة الحسيني، التي تجشمت عناء السفر إلى الأقصر والإعداد لهذه الاحتفالية مشاركة مع محافظة الأقصر دون أن يلتفت أحد من المثقفين الذين حضروا أو من ائتلاف الثقافة المستقلة إلى أن ثقافة مبارك ونظامه ما زالت تسيطر على عقليات المسئولين بمحافظة الأقصر، وأنهم بكيفية ما لا يزالون يحتقرون الثقافة والمثقف، ودون أن يضع أحد في ذهنه أن كل ما يهمهم المسئولين في محافظة الأقصر من هذه الاحتفالية هو الاستهلاك الإعلامي ليس إلا. أنا لن أعتب كثيرا على المسئولين في هذه المحافظة أو تلك، لأن حياتنا لم تتطهر بعد من ثقافة مبارك التي لا تزال تسيطر على عقولهم، ولكن عتبي الأكبر على أدباء الأقصر ومثقفيها، وكان عليهم واجبا لم يفعلوه، فمن المفترض أن يكونوا على وعي برداءة العقليات الرسمية ، وكان عليهم أن يطمئنوا على ضيوفهم من الأدباء والمثقفين والمبدعين الذين حضروا الاحتفالية، وألا يتركوهم في الشارع ليلاً ويمضوا إلى بيوتهم، لقد كان يوما بليلته من أسوأ الأيام في حياتي ، ولعل متاعبي الصحية التي استجدت جراء معانات السفر ذهابا وعودة في نفس اليوم، دون أن أستريح ولو ساعة واحدة، ستظل تلك المتاعب زمنا طويلا تذكرني بأن نجيب محفوظ كان مخطئاً عندما تميَّز في بلد لا تحترم مثقفيها. شكر خاص: للفنانة عزة الحسيني وكل أعضاء ائتلاف الثقافة المستقلة على وفائهم الرائع لنجيب محفوظ والثقافة المصرية، وللنبيلين : القاص حشمت يوسف ، والشاعر أسامة البنا من أبناء الأقصر اللذين استضافاني على الشاي في أحد مقاهي الأقصر نهاراً.