حين كنت صغيرة تعشق الحكي والقصص سألت جدتي: من أسماني؟؟ فحكت لي انها ذات يوم في شبابها رأت سائقا يفتح باب عربة فاخرة وينادي: "بسرعة يا ناهد هانم سنتأخر"، أعجبتها الفتاة ومالها من أناقة وبهاء، فأقسمت في نفسها يوم أن تولد لابنها -والذي كان لا يزال طفلا-فتاة أن تسميها ناهد..وقد كان. هكذا حصلت على اسمي. تداعبني كثيرا ذكريات معينة حفرت بداخلي وشكلت شخصيتي أو جانبا كبيرا منها، وأتساءل: هل كانت النتيجة لتختلف فأصبح شخصا آخر لو كانت الظروف مختلفة والأحداث مختلفة أم أنها أقدار مقدرة أيا كانت الظروف والملابسات؟؟؟. في طفولتي كثيرا ما شعرت بتفضيل جدتي لأخي عليّ أنا وأختي، فهو الولد، وكانت تعتبره مسكينا ومغلوبا وسط فتاتين وحيدا لا حيلة له بيننا رغم أنها كانت تعامله معاملة مختلفة وتدلله وكنت أغتاظ كثيرا فدائما هو المغلوب المظلوم المسكين أيا كان ما يفعل وما يصدر عنه من خطأ وجموح. وذات يوم قررت الانتقام من جدتي فلعبت لعبة مع أختي وأخي كانت أن أمسكت بيد أختي وجعلت أخي ينام على بطنه فوق يدينا ولعبنا لعبة المرجحة: هيلا هوب هيلا هوب وطوحت يدينا في الهواء وهو فوقها سعيدا، ثم أفلت يد أختي فوقع أخي وفتحت شفتيه ونزف دما غزيرا سال على صدره وذقنه ولكني أحسست بسعادة غامرة وأنا أرى جدتي تصرخ فزعا وتشتمنا نحن البنتين الشريرتين رغم أن واحدة فينا وقفت مذعورة مفزوعة والثانية تظاهرت بالدهشة... جميل ان يحظ المرء بنصره الخاص ولكن موجع أن يشعر الطفل بالتهميش والتجاهل، ومحير أن يحاسب المرء على أشياء لا دخل له بها أبدا مثل أخي. ومثلي!!! هناك حسابات نتعرض لها دون ذنب منا ودون دخل لنا سلسلة من الحسابات ربما، لو أمعنا النظر قليلا. وعن نفسي حسابات الآخرين لي سلسلة من الحماقة والظلم!! وأنا صغيرة لطالما سمعت كلمة يا طويلة!! أتلعبين وأنت طويلة هكذا دون خجل؟؟!!. نعم كنت ولا زلت طويلة لكني لم انقطع عن اللعب يوما في طفولتي إلا لمرض أو قهر أسري وحين كبرت تكشفت لي حقيقة أني حظيت بطفولة سعيدة وجميلة رغم كل المنغصات ولهوت ومرحت مع صويحباتي وأصحابي بنين وبنات، كنت شريرة جدا وطيبة أحيانا مخلصة لمن أحبهم ومتنمرة باستمرار لم يعارضني ومن يظهر ميولا انفصالية عني .. يا الله من هذي الطفلة الطويلة. حين أتذكر لهوي أشعر أن اللعب عنصر مهم لشخصية أي إنسان ما كنت تلك الإنسانة اليوم دون لعبي ولهوي، واكتشفت أني كلما أقللت من لعبي بعدت عن تلك الطفلة بداخلي وبعدت عني. كان أبي في صغري قاسيا جدا معي دون مبرر أمامي غير أنه كان يتطلع مني لتصرفات وسلوك يكبرني ولا قبل لي به، فحين كنت بحاجة لأن يراني طفلته الصغيرة كان يتوقع مني تصرفات تصدر عن سيدة ناضجة في استقبال الضيوف وضيافتهم وفي التعامل معهم، كنت أحب التحدث مع الناس في حين كان أبي يطلب صمتي ويشعر بالخجل من تصرفاتي !! كنت أحب زيارة أقاربنا وقدومهم علينا في حين كان أبي يبعدني عن الاجتماع بهم فتلك جلسات للكبار!! بل حتى أن أجلس فأسمع حكيهم وتسامرهم كان ممنوعا عني ذلك. هو يرى أن مهمتي فقط تقديم الشاي وتلبية نداءاته. مربك جدا ان توضع تحت منظار أحدهم حتى لو كان أباك!! ومربك أكثر ان تحاول التصرف بطريقة مرضية للآخرين بعيدا عن سجيتك وعفويتك لأن النتيجة دوما تكون عكسية وكارثية لهؤلاء الآخرين. كنت أحاول استمالة أبي الناقم دوما الممتعض كثيرا فكنت أفشل ببراعة متناهية فشلا ما كنت لأحرزه لو تعمدت ان أفشل. فحين كوفئت من عمي على حفظ الجزء التاسع والعشرين من القرآن ونفحني مبلغا كبيرا أسرعت للبقالة واشتريت لأبي علبة سجائر فقط لأسعده وأحظ منه بمدح لم يحدث فالنتيجة كانت مفجعة رغم أنه مدخن. !! تقلبت في الحيرة زمنا وعشت فترة مراهقتي وأنا أشعر بالحنق دائما تجاه أبي الذي يطالبني بما يصعب علي فهمه كان أبي يريدني مستكينة كابنة فلان مطيعة كابنة فلان وهادئة كابنة فلان حتى كرهتهن جميعا وعشت فترة مراهقتي أشعر بأني لا أحب أبي وأتحاشى رؤيته والتعامل معه حتى أضيق الحدود الممكنة حتى قررت يوما أن أتجاهل حساباته وأعيش على طبيعتي وتناسيت تلك التساؤلات التي كانت تراودني هل هو راض؟؟ هل أعجبته؟ حينها فقط ولليوم أحرزت نجاحا داخليا مع نفسي وخارجيا مع الآخرين ما كنت لأحرزه لو بقيت رهينة تلك الدوامة الغبية، والعجيب أن صلتي بأبي قد توثقت وقويت وتعمقت بعد أن تناسيت محاسبته لي وآرائه التي لا تشبهني. يحاسبك الآخرون على أشياء لا دخل لك بها، ولا حيلة لا فيها، فقد كانت ولا زالت هناك سيدات يحقدن عليّ لا لشيء إلا لعدم مماثلة بناتهن لي في الظروف والرزق، ليست مبالغة حين أقول أن من أكثر التعبيرات سوداوية في حياتي سؤال إحداهن لي –حين كنت في الثانوية-لم نجحت ولم تنجح ابنتي؟؟ طيب كان جالك دور ثاني في مادة على الأقل!!!. ولم تم تعيينك أنت دونا عن الآخرين؟؟ يا الله. تلك الطفلة التي لا زالت تلازمني تكره ذلك التحجيم وتلك القولبة مهما كانت، في يوم زفافي هاتفتني رندا صديقتي وابنة عمتي من السعودية وبكت لأنها ليست معي في يوم كهذا ثم أوصتني وصية غريبة بألا أسمح لأي مشاعر مقلقة من حياة جديدة ودنيا غريبة عني أو وجع لفراق أهلي وأمي أن توترني فيظهر ذلك على وجهي فتكون له دلالات سيئة خاصة لدى أهل العريس!! على قدر ما أسعدني كون رندا توصيني وصية كتلك حفاظا على صورتي ولكني وكنت ساعتها في الكوافير أغرقت في التفكير عن أولئك البشر الذين يحاسبون المرء في موقف كهذا في يوم كهذا. !!! ولأن لا زلت أحتفظ ببعض بقايا تلك الطفلة فقد تصرفت بعفوية وأريحية متناهية وصلت حد الجنون في يوم زفافي وتناسيت كل شيء وأي شيء سوى أنني فقط سعيدة. جميل أن يحظ الإنسان بنفس صريحة ومتصالحة مع الجميع، بغض النظر عن كل تلك التحفظات والحسابات التي لا مبرر لها، أضحك كثيرا حين أتذكر يوم ولادة صغيري أحمد وكنت قد خضعت لعملية قيصرية مؤلمة وحين بدأت أفيق من المخدر هالني ما شعرت به من ألم وتعب كان الألم شديدا حتى يصعب وصفه وكان من الطبيعي ان يعطيني الطبيب مسكنا قويا للتخفيف عني، لكنه ربما إيثارا للاقتصاد والتوفير لم يفعل أو أعطاني مسكنا خفيفا لا أثر له عندي فأخذت في الصراخ والبكاء ورحت اناشد زوجي وأنا أبكي: عندنا ذهب يا عماد اعطه لهم وهاتلي مسكن، طيب إديهم الفلوس، وحين جاء الدكتور صرخت فيه: منك لله حسبي الله ونعم الوكيل فيك.. أما الممرضة التي لم تتعاطف معي إلا بعد أن حصلت على ما يرضيها من زوجي فجاءتني بحقنة مسكنة وأنا أردد: منكم لله، ربنا ينتقم منكم، حسبي الله ونعم الوكيل فيكم. كنت أردد تلك الكلمات لأني أتألم ولأنهم لم يراعوا ضميرا وبخلوا عليّ في الدواء والعلاج، رغم أنهم قد حصلوا على أتعابهم حسبما حددوها، ورغم كل المحاولات التي تعرضت لها لإسكاتي خاصة زوجي الذي كان يردد وهو يضع يده على فمي: ما يصحش كده!!!. لكني مرة أخرى وغير أخيرة لم أحفل بمحاسبتهم لي وأنا في طور الهذيان والألم فاستمرت كلماتي وشتائمي حتى رحت في نوم عميق. هذه الطفلة أنا. بقلم: ناهد زيان