من الصفات الثابتة عند العرب، في قديم الزمان وحاضره: إكرامُ الضيفِ والقيام بقضاء حاجتهِ قدر الإمكان، وإن كلفهم ذلك الإيثار على أنفسهم وأهليهم، وقد قرأنا الكثير من القصص، في الكرم والجوار وحفظ كرامة الضيف، وحمايته والسهر على راحته، والكتب الدراسية المنهجية مملوؤة بهذه القصص. ما زالت المناطق الريفية، تمتاز بهذا الفعل الحسن والواجب(كما يراه سكان الريف والبادية)، ويبقى هذا الفعل غير المفهوم من بقية الأُمم، مترسخاً في جذور(عادات وتقاليد) الأُمة العربية، حيث يمتاز العرب بهذه الصفة، وغيرها من الصفات التي ليست لها مردودات مادية، بل أحياناً يكون ضررها أكثر من نفعها! كذلك فقد أكد الإسلام( الذي هو دين غالبية العرب) بعد مجيئه، على هذه الصفات وأثنى عليها، منها موضوع مقالنا هذا، وجعل له حصة من أموال المسلمين(بيت المال)، تحت عنوان(نفقة عابر السبيل)، والضيف يختلف من حالة إلى أُخرى، فتارة هو(عابر سبيل)، لا يريد سوى الأكل والشرب والمبيت وأجرة النقل، وتارة أُخرى يكون الضيف(مستجيراً) عند أحد ما، خوفا على نفسه وماله من القتل والسرقة، وتارةً يكون الضيف لديه حاجة، يريد قضاءها، فيسعى المُضَّيف بكل جهده وطاقته لقضاءها، وهذه هي أغلب الحالات للضيافة، عدا إقامة الولائم المفتوحة بمناسبة أو غيرها. ذات مرة، كنتُ في سن 13من عمري، كان الصيف قد بدأ لهيبه يشتعل، وكان والدي(له الرحمة والغفران) يصعد إلى سطح الدار، ويقعد في مكان فيه ظل، ليتمتع ببعض النسيم، طُرِقَ البابُ، فذهبت وفتحته، وإذا برجلٍ شيبة وإمرأةٍ عجوز، فقال الرجل وبكل وقار: السلام عليكم، فأجبته: وعليكم السلام، فقال: يا بُني أخبر والدك بأننا ضيف(خطار)، فتركته عند الباب وذهبت أُخبر والدي، فقال أبي: أتعرفهم؟ قلت: لا، قال: هل أدخلتهم؟ قلت: طبعاً لا! فإستنكر عليَّ ذلك، وقال: أسرع وأدخلهم غرفة الضيوف(الديوانية)، وسأُغيَّرُ ملابسي وآتيهم، فأسرعت إلى الباب وأدخلتهم، حتى إذا جلسوا قدمت لهم الماء، فحضر والدي وسلم عليهم، وقعد في مكانه المعتاد، وصاح أحضروا الغداء، فرفض الضيف كونه قد تناول الطعام، وقال: لا باس ببعض الشاي، وذهبت أُحضر الشاي مسرعاً، وعندما عُدت وجدتُ الرجلَ يحكي، ووالدي ينصت إليه، ولا أتذكر ما كانت حكايته، ولكني علمت أنهُ فلَّاح(من سكنة محافظة ديالى)، وبعد إتمامه لقصته، إستأذن بالإنصراف، فقال له أبي: إنتظرني قليلاً، وذهب أبي ثُمَّ عاد، فقام الرجل وسلم على أبي مودعاً، وأتجه صوب الباب مغادراً، ورأيت أبي يضع يده في جيب الضيف، وكان فيها بعض المال لا أتذكر مقداره، ولما غادر الضيف، سألت أبي مستغرباً: لم أفهم شيئاً ياأبي؟! قال: إنهُ ضيفٌ! ولهُ حاجةٌ، ساعدنا الله في قضاءها، فقلتُ: ولكنه لم يطلب شيئاً، إنما حكى حكاية، قال: نعم وأنا فهمت مغزى الحكاية، لأنه فلاح، ومثله ذو نفس تأبى السؤال(التسول)، ففي السؤال ذلة، وهذا ما نسميه بالعامية العراقية(يستعطي)، فقلت: ولكنك لا تعرفه؟! ولماذا جاءك دون غيرك؟! قال: لقد سأل الناس: هل يوجد رجل شيبة من جذور ريفية(إبن عشاير وإصول) فدلوه عليَّ، وأما قضاء حاجته فهي واجب، هذا ما تعلمناه من أبائنا. وحدث أيضاً في تسعينيات القرن الماضي، وقد كان نظام المقبور(صدام) يُنفذ حكم الإعدام بالشبهةِ، ولأتفه الأسباب، منها إيواء شخص مشتبه به أو مساعدته. كان يوم عمل شاق قضيته، وعندما عدتُ إلى البيت أكلت ونمت، ودخلت في نوم عميق، وعندما إستيقضت، وجدتني وحدي في غرفة الإستقبال، وإلى جانبي رجل لا أعرفه وهو نائم! فقمتُ وفتحت الباب، فوجدت الجميع جلسوا في الصالة، فصحت: من هذا؟ ما الذي يحدث؟ فقالت أُمي: (صوتك عيب لا يسمعك الرجل)، فقلت: (يارجل؟)، قالت: إنه ضيف، جاء إلينا وطلب من أبيك المبيت، ووافق أبوك على ذلك، وعندما إعترضنا لم يسمع لكلامنا، قلت لها: لا بأس، سأعود وأجلس في الاستقبال فغداً عندي إمتحان. في صباح اليوم التالي، وكعادة أبي أن يستيقظ لصلاة الصبح عند الآذان، نهض الضيف أيضاً، وبعد آداء الصلاة والفطور، تقدم بالشكر إلى والدي وإنصرف. فقلت لأبي(وكلنا في البيت نحبه ونحترمه ولا نعصي له أمراً): أبي، إن أفعالك جميلة وحسنة، ونحن والله نفخر بها، ولكن المكان غير المكان، والزمان غير الزمان، قال(وبلهجة عصبية): علمت قصدك، ولكنه عابر سبيل، لم يرد إلا المبيت، في هذا الجو البارد، ولم يضيفه أحد، فسأل الناس ودلوه عليَّ، إذا جاءكم مثله مرة أُخرى، لا تنادوا عليَّ، فوالله لا أنتهي عن إكرام الضيف!... وكثيراً ما كاد أبي(اللهم أغفر له وأرحمه) يوقعنا بمطبات ولكن الله سلَّم. ما أُريد الوصول إليه في هذه العجالة: أولاً: إن الأخلاق التي تُطبق في الريف، لا تصلح أن تُطبق في المدينة، قطعاً ليست جميعها، ولكن غالبيتها، فالزمان والمكان مختلفان جداً. ثانياً: هل جميع الناس تستحق أن نُكرمها؟! أو أن نقوم بأجارتها؟! كما القصة المعروفة، ذلك الرجل الذي أجار أُم عامر(أُنثى الضبع) وحماها من الذئاب، فما أن نام أكلته! وسار المثل قائلاً: كمجيرِ أُم عامر، ما نراه اليوم يحدث في محافظاتنا الغربية وأهلها المساكين، الذين ضيفوا داعش، وغيرهم فبدأوا بقتلهم وتشريدهم، والسيطرة عليهم، والتحكم في أموالهم ومصائرهم! ثالثاً: سواءً في الريف أو المدينة، يجب الحذر في تعاملنا مع الغريب، فهو يبقى غريباً، وسيفارقنا في أيةِ لحظة، كذلك فنحن نجهل ماضيه، الذي من الممكن أن يكون وبالاً علينا، وكما روي عن الإمام علي(عليه السلام) قوله: إتقِ شَرَّ مّنْ أحسنتَ إليهِ! رابعاً: من غير الصحيح أن تُملأ مناهجنا الدراسية، بمثل هذه القصص، والتي تدفع التلميذ إلى هذا العمل، دون أن توضح له سلبيات هذا العمل! فكما تروي له كرم حاتم، إحكي له غدر أُم عامر! بقي شئ... لا أريد أن أنتقص من هذه الصفة، ولكن يجب أن نكون علميين وعمليين، في تعاملاتنا مع الاخرين.