نشرة أخبار ال«توك شو» من المصري اليوم.. نقيب المحامين: أي زيادة على الرسوم القضائية يجب أن تتم بصدور قانون.. شرطان لتطبيق الدعم النقدي.. وزير التموين يكشف التفاصيل    رغم التوترات.. باكستان والهند تقيمان اتصالا على مستوى وكالة الأمن القومى    أحمد الشرع يطلب لقاء ترامب.. وصحيفة أمريكية: على غرار خطة «مارشال»    تشكيل الأهلي المتوقع ضد المصري البورسعيدي في الدوري.. وسام أبو علي يقود الهجوم    3 ساعات «فارقة».. تحذير شديد بشأن حالة الطقس ودرجات الحرارة: «احذروا الطرق»    تعرف على ملخص احداث مسلسل «آسر» الحلقة 28    إعلام إسرائيلي: تل أبيب وواشنطن تسعيان لإقناع الأمم المتحدة بالمشاركة في خطة إسرائيل لغزة    تفاصيل إطلاق كوريا الشمالية عدة صواريخ اتجاه بحر الشرق    بحضور نواب البرلمان.. «الاتحاد» ينظم حلقة نقاشية موسعة حول الإيجار القديم| صور    ميدو يكشف موقف الزمالك حال عدم تطبيق عقوبة الأهلي كاملة    إكرامي: عصام الحضري جامد على نفسه.. ومكنش يقدر يقعدني    اليوم.. «محامين المنيا» تعلن الإضراب عن محاكم الاستئناف رفضًا لرسوم التقاضي    تفاصيل خطة التعليم الجديدة لعام 2025/2026.. مواعيد الدراسة وتطوير المناهج وتوسيع التعليم الفني    «التعليم» تحسم مصير الطلاب المتغيبين عن امتحانات أولى وثانية ثانوي.. امتحان تكميلي رسمي خلال الثانوية العامة    سعر الذهب في مصر اليوم الخميس 8-5-2025 مع بداية التعاملات    خبى عليا وعرض نفسه للخطر، المخرج خالد يوسف يكشف عن مشهد لا ينسي ل خالد صالح (فيديو)    سبب إلزام النساء بارتداء الحجاب دون الرجال.. أمين الفتوى يوضح    قاض أمريكي يمنع ترحيل مهاجرين إلى ليبيا دون منحهم فرصة للطعن القضائي    "اغتيال معنوي لأبناء النادي".. كيف تعامل نجوم الزمالك مع اختيار أيمن الرمادي؟    ارتفاع الأسهم الأمريكية في يوم متقلب بعد تحذيرات مجلس الاحتياط من التضخم والبطالة    هدنة روسيا أحادية الجانب تدخل حيز التنفيذ    محمد ياسين يكتب: وعمل إيه فينا الترند!    بنك التنمية الجديد يدرس تمويل مشروعات في مصر    إطلاق موقع «بوصلة» مشروع تخرج طلاب قسم الإعلام الإلكتروني ب «إعلام جنوب الوادي»    قبل ضياع مستقبله، تطور يغير مجرى قضية واقعة اعتداء معلم على طفلة داخل مدرسة بالدقهلية    نشرة حوادث القليوبية| شاب يشرع في قتل شقيقته بسبب السحر.. ونفوق 12 رأس ماشية في حريق    رسميًا.. جداول امتحانات الفصل الدراسي الثاني 2025 بالمنيا    السفارة المصرية بالتشيك تقيم حفل استقبال رسمي للبابا تواضروس    الدولار ب50.59 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الخميس 8-5-2025    مستشار الرئيس الفلسطيني يرد على الخلاف بين محمود عباس وشيخ الأزهر    خبر في الجول - أشرف داري يشارك في جزء من تدريبات الأهلي الجماعية    نقيب المحامين: زيادة رسوم التقاضي مخالفة للدستور ومجلس النواب صاحب القرار    إعلام حكومة غزة: نرفض مخططات الاحتلال إنشاء مخيمات عزل قسري    بوسي شلبي ردًا على ورثة محمود عبدالعزيز: المرحوم لم يخالف الشريعة الإسلامية أو القانون    أسفر عن إصابة 17 شخصاً.. التفاصيل الكاملة لحادث الطريق الدائري بالسلام    لا حاجة للتخدير.. باحثة توضح استخدامات الليزر في علاجات الأسنان المختلفة    مدير مستشفى بأسوان يكشف تفاصيل محاولة التعدي على الأطباء والتمريض - صور    واقعة تلميذ حدائق القبة.. 7 علامات شائعة قد تشير لإصابة طفلك بمرض السكري    عودة أكرم وغياب الساعي.. قائمة الأهلي لمباراة المصري بالدوري    رسميًا خلال أيام.. موعد صرف مرتبات شهر مايو 2025 بعد قرار وزارة المالية (احسب قبضك)    قبل الإعلان الرسمي.. لجنة الاستئناف تكتفي باعتبار الأهلي مهزوم أمام الزمالك فقط (خاص)    بيولي ل في الجول: الإقصاء الآسيوي كان مؤلما.. وأتحمل مسؤولية ما حدث أمام الاتحاد    الأكثر مشاهدة على WATCH IT    «لعبة الحبّار».. يقترب من النهاية    أحد أبطال منتخب الجودو: الحفاظ على لقب بطولة إفريقيا أصعب من تحقيقه    حدث بالفن| عزاء حماة محمد السبكي وأزمة بين أسرة محمود عبدالعزيز وطليقته    سحب 116 عينة من 42 محطة وقود للتأكد من عدم «غش البنزين»    تفاصيل اعتداء معلم على تلميذه في مدرسة نبروه وتعليم الدقهلية يتخذ قرارات عاجلة    بلاغ للنائب العام يتهم الفنانة جوري بكر بازدراء الأديان    تحرك جديد من المحامين بشأن أزمة الرسوم القضائية - تفاصيل    "الرعاية الصحية": تقديم الخدمة ل 6 مليون مواطن عن منظومة التأمين الصحي الشامل    أخبار × 24 ساعة.. التموين: شوادر لتوفير الخراف الحية واللحوم بدءا من 20 مايو    صحة الشرقية تحتفل باليوم العالمي لنظافة الأيدي بالمستشفيات    عمرو الورداني يقدّم روشتة نبوية لتوسعة الخُلق والتخلص من العصبية    المحامين": النقاش لا يزال مفتوحًا مع الدولة بشأن رسوم التقاضي    أمين الفتوى: مفهوم الحجاب يشمل الرجل وليس مقصورًا على المرأة فقط    خالد الجندى: الاحتمال وعدم الجزم من أداب القرآن ونحتاجه فى زمننا    وائل غنيم في رسالة مطولة على فيسبوك: دخلت في عزلة لإصلاح نفسي وتوقفت عن تعاطي المخدرات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محفوظ يتذكر الطفولة

عندما أرحل بذاكرتي إلي أقصي بدايات العمر‏,‏ إلي الطفولة الأولي‏,‏ أتذكر بيتنا في الجمالية شبه خال‏,‏ أنجب والدي من قبلي ستة أشقاء‏,‏جاءوا كلهم متعاقبين‏,‏ اربع إناث وذكرين, ثم تتوقف والدتي عن الإنجاب لمدة تسع سنوات. ثم أجئ أنا, عندما وصلت سن الخامسة كان الفرق بيني وبين أصغر أخ لي خمس عشرة سنة, البنات كلهن تزوجن تقريبا فيما عدا واحدة لا أذكر أي شئ عن حياتها في البيت, أما شقيقاي فقد تزوجا بالفعل, أحدهما دخل الكلية الحربية وسافر للخدمة في السودان, لهذا.. لا أتذكر في البيت إلا والدي ووالدتي, ولا أذكر أي إنسان آخر شاركنا البيت إلا الضيوف, عمتي, ابنة عمتي,ناس من الخارج,أغلب حياتي في بيتنا كأني طفل وحيد, لكن طبعا كنا نزور الأشقاء في بيوتهم وليس في بيتنا لهذا إذا حاولت استرجاع ذكرياتي عنهم, فإنني أتذكرهم في بيوتهم وليس في بيتنا, كانت علاقتي بهم علاقة الصغير بالكبير, أساسها الأدب والحشمة, لم أعرفهم كأشقاء أعيش معهم حياتهم اليومية, ألعب معهم, أضحك معهم, لذلك كانت علاقة الأخوة من العلاقات التي أتابعها في حياتي باهتمام, فيما بعد كان من أصدقائي اشقاء, كنت أتابعهم, وأسأل نفسي تري.. لو أن اخوتي قاربوني في السن, كيف كانت ستمضي علاقتي معهم, كان من بين أصدقائي ثلاثة أشقاء, كانوا دائما يلعبون معا, ويذهبون إلي النزهة معا, يضحكون معا, كنت أتابعهم وأسأل نفسي, هل كنت سأصبح مثلهم.. كنت محروما من الاحساس بالأخوة.. لهذا تلاحظ دائما أنني أصور في كثير من أعمالي علاقات أخوة بين أشقاء, وهذا نتيجة لحرماني من هذه العلاقة, يبدو هذا في الثلاثية, في بداية ونهاية, في خان الخليلي.. لم أجرب هذه العلاقة في الحياة الحقيقية, كنت دائما أنظر إليها كشئ محرم أو مجهول, كنت أتمني أن يكون لدي نفس العلاقات بين أصدقائي الأخوة..
اللعب
طبعا البيت يرتبط في ذكرياتي دائما باللعب, خاصة السطح, فيه مجال كبير للعب, فيه خزين, بط, فراخ, كتاكيت صغيرة, زرع في أصص, لبلاب, ريحان, ثم السماء الفسيحة, كنا نسكن بيتا مستقلا, أو بالمعني الدارج, بيت من بابه, ومن الممكن أن تطلق عليه بيت رأسي بالمعني الحديث, كل طابق كان يحتوي علي حجرة صغيرة وأخري كبيرة, ثم أخيرا السطح.. حيث نجد غرفة صيفية, كنا ننام فيها خلال أيام الحر, كان البيت يتكامل إلي أعلي, يعني في الطابق الأول غرفة الاستقبال, في الطابق الثاني غرفة الطعام, وهكذا ربما لصغر مساحة الأرض, كنا أيضا نلعب في الشارع, مع أطفال وبنات الجيران, كان البيت يقع في مواجهة قسم الجمالية, يطل علي ميدان بيت القاضي, لكننا كنا نتتبع مشيخة درب قرمز. كانت الحارة في ذلك الوقت عالما غريبا, حيث تتمثل فيها جميع طبقات الشعب المصري, تجد مثلا ربعا يسكنه ناس بسطاء, أذكر منهم عسكري بوليس, موظف صغير فيكبانية المياه, امرأة فقيرة تسرح بفجل أو لب, وزوجها ضرير, لهم حجرة في الربع, وأمام الربع مباشرة تجد بيتا صغيرا تسكنه امرأة من أوائل اللواتي تلقين التعليم وتوظفن, ثم تجد بيوت أعيان كبار, مثل بيت السكري, وبيت المهيلمي, وبيت السيسي, وبيوت قديمة أصحابها تجار, أو من أولئك الذين يعيشون علي الوقف, كنت تجد أغني فئات المجتمع, ثم الطبقة المتوسطة, ثم الفقراء.. أنا لا أدري ما هو شكل الحارة الآن, ولعلك أنت تعرفه لأنك عشت في المنطقة حتي السبعينات, كان الجميع يختلطون في رمضان, كانت بيوت الأثرياء تفتح المنادر للفقراء, كان يمكن لأي شخص من أهل الحارة أن يدخل ويأكل حتي الغرباء, لقد شاهدت اندثار هذه التركيبة للحارة المصرية في الثلاثينات, العائلات الثرية هاجرت إلي العباسية الغربية, وكانت هناك تكية أيضا, وكان فيه ناس من العجم أو الأتراك كنا نراهم من بعيد, كان فيه معالم في المنطقة علقت في ذهني, لعل أبرزها الفتوة, كان وجود الفتوات معترفا به من الحكومة نفسها, كنا نستيقظ علي الزفة في بيت القاضي عندما تدب فيها المشاجرات, وفي ثورة1919 لعبوا دورا كبيرا أنا شفت بعيني الفتوات وهم يكتسحون قسم الجمالية ويحتلونه, قلت لك أنه كانت فوق السطح حجرة, كان لها نافذة تطل علي الميدان, منها رأيت في طفولتي كل المظاهرات التي مرت ببيت القاضي.
التيه في الزمن
من الشخصيات التي لاأنساها أيضا النساء اللواتي كن يترددن علي البيت ليقمن بإعداد الأحجبة, وأعمال السحر, كنت أرقبهن عندما يجئن إلي أمي, يجلسن معها, يتحدثن. من معالم طفولتي أيضا الكتاب, كان النظام التعليمي وقتئذ يقضي بأن تذهب أولا إلي الكتاب, ثم تلتحق بالمرحلة الابتدائية, علمنا الشقاوة, ولكنه علمنا مبادئ الدين, ومبادئ القراءة والكتابة. كان مختلطا للجنسين, كان مقر الكتاب في حارة الكبابجي, بالقرب من درب قرمز, لا أدري ماذا يحوي الآن؟ ربما كنت تعرفه, ذهبت إليه في الرابعة, لكن الغريب أنني في هذه السن المبكرة بدأت أري أشياء أخري خارج الحارة, تذكر أنني حدثتك من قبل عن غرام والدتي بالآثار, وكثيرا ما ذهبنا إلي الأنتيكخانة, أو الأهرام, حيث أبو الهول, لا أدري سر هوايتها تلك حتي الآن؟ كنا نخرج بمفردنا, وأحيانا مع الوالد, تجرني في يدها, ونمضي إلي الأنتيكخانة. خاصة حجرة المومياوات, زرناها كثيرا, كانت أمي تتمتع بحرية نسبية, وبعكس ما كانت تبدو عليه أمينة في الثلاثية, التي لم يكن مسموحا لها بالخروج إلا بإذن من أحمد عبد الجواد, تسألني, من أين استوحيت شخصية أحمد عبد الجواد؟. إنني أذكر هنا أسرة كانت تسكن في مواجهتنا, كان البيت مغلقا باستمرار, نوافذه لا تفتح أبدا, ولا يخرج منه إلا صاحبه, رجل شامي اسمه الشيخ رضوان, مهيب الطلعة, وكانت أمي تصحبني لزيارة هذه الأسرة, وكنت أري زوجة الرجل غير المسموح بخروجها, كنا نزورها, ولكنها لا تزورنا, لأنه غير مسموح لها, وكانت ترجو والدتي أن تتردد عليها, كان لي أصدقاء كثيرون من الأطفال, وفيما بعد, عندما انتقلنا إلي العباسية, وكان عمري اثنتي عشرة سنة أصبحت علي صلة ببعضهم, ثم اختفوا جميعا في زحام الحياة, جميع أصدقاء طفولتي فيما عدا واحد التقيت به منذ عشرين أو خمس وعشرين سنة في ميدان الجيش أثناء توجهي إلي قهوة عرابي, كانت قد مضت سنوات عديدة ولم ير أحدنا صاحبه, لكنا تعرفنا إلي بعضنا, ثم اختفي, ولم أره بعد ذلك أبدا, وهكذا ضاع أصدقاء طفولتي في الزمن وزحام الحياة. وكانت والدتي تصحبني معها دائما لأني الوحيد, تصحبني في زياراتها إلي الأهل, والجيران, وهكذا رأيت كثيرا من مناطق القاهرة, شبرا, العباسية, كثير من المناطق التي تقع في قلب القاهرة الآن كانت حدائق وحقولا..
الوالد
كان والدي يتحدث دائما في البيت عن سعد زغلول, ومحمد فريد, ومصطفي كامل, ويتابع أخبارهم باهتمام كبير, كان إذ يذكر اسم أحد من هؤلاء فكأنما يتحدث عن مقدسات حقيقية, كان يتحدث عن أمور البيت مع أمور الوطن في وحدة واحدة, كل حدث صغير في حياتنا اليومية كان يقترن بأمر عام, فهذا الأمر وقع لأن سعد قال كذا, أو لأن السراي, أو لأن الإنجليز.., كان والدي يتكلم عنهم بحماس وكأنه يتحدث عن خصوم شخصيين أو اصدقاء شخصيين, كان والدي موظفا, وعندما وصل إلي السن التي يستحق فيها المعاش استقال, كان موظفا طبقا لكادر قديم لا نعرف عنه الآن شيئا, بعد استقالته عمل مع أحد أصحابه التجار, كان صديقه تاجرا كبيرا يسافر إلي بور سعيد..
ما تبقي
.. لا أذكر أبدا أيا من زملائي في الكتاب, أو المدرسة الابتدائية التي كانت مواجهة لمسجد الحسين, التي فيها ساعة أثرية. من هذه المدرسة رأيت المظاهرات, كانت المنطقة دامية, يمكنك القول أن أكبر شئ هز الأمن الطفولي هو ثورة1919, شفنا الإنجليز, وسمعنا ضرب الرصاص, وشفت الجثث والجرحي في ميدان بيت القاضي, شفت الهجوم علي القسم, كيف انظر إلي طفولتي الآن؟ لقد انعكست حياتي في الطفولة في الثلاثية إلي حد ما, وفي حكايات حارتنابشكل كبير, كانت طفولة طبيعية, لم أعرف الطلاق, ولا تعدد الزوجات, أو التيتم, طفولة طبيعية بمعني أن الطفل نشأ بين والدين يعيشان حياة هادئة مستقرة, لم يكن أبي سكيرا, أو مدمنا للقمار, ولم يكن شديد القسوة, مثل هذه الأمور لم يكن لها وجود في حياتي, حتي ما يكدر أخفي عني, كان المناخ الذي نشأت فيه يري بمحبة الوالدين والأسرة, كان الخيط الثقافي الوحيد في الأسرة هو الدين, في سنة1937 توفي والدي عن خمسة وستين عاما, كنت أعيش مع والدتي في العباسية, التي انتقلنا إليها منذ عام1924 تقريبا, لكن المكان الذي بقيت مشدودا إليه, أتطلع إليه دائما هو منطقة الجمالية...
بعد العباسية والحسين..
.. فارقت منطقة الجمالية إلي العباسية وعمري اثني عشر عاما, وكان لانتقالنا تأثير كبير علي حياتي, ولم تكن العباسية التي انتقلت إليها في تلك السن المبكرة تشبه العباسية الحالية, الآن تقوم المباني في كل مكان, لكن عباسية زمني القديم كانت تحوي الكثير من الخضرة, والقليل من المباني, كانت البيوت صغيرة من طابق واحد, وكل بيت تحيطه حديقة, ثم تمتد الحقول حتي الأفق, كان والدي يصحبني مع والدتي إلي منطقة حدائق القبة, فيما يلي كوبري الحدائق, وهناك نركب تروللي صغير يمشي فوق قضبان, يتوغل بنا في الحدائق/ كان السكون عميقا, والمنطقة كبيرة جدا لا تحوي إلا عددا قليلا من القصور, كل هذا راح, الحدائق اختفت, والمباني ملأت المكان, لم تكن العباسية برغم ذلك منفصلة تماما عن الحي القديم, وجدت منطقة الحسينية, وعرابي الفتوة المشهور, نفس التقاليد, قلت إن انتقالي إلي العباسية أحدث نقلة كبيرة في حياتي, الغريب أن أصدقائي, أصدقاء العباسية, أصدقاء الصغر, استمرت علاقتي بهم حتي هذه اللحظة, باستثناء الذين انتقلوا إلي رحمة الله, حتي بعد أن فرق بيننا المكان, ذهب أحدهم إلي المعادي, وآخر إلي الهرم, لكننا, عندما نلتقي, حتي بعد انقطاع زمني, فكأننا نستأنف لقاء لم ينقطع إلا أمس فقط, كان أصدقاء العباسية مجموعة متناقضة, فيها كل نوعيات البشرية, من أسماها إلي أدناها, وفيهم ناس تقلدوا أكبر المناصب المهنية, أطباء ومهندسين, ومحاسبين, ومنهم بلطجية, وبرمجية, ومنهم فتوات, والعلاقة بيننا كانت حميدة, حتي الشرير منهم كان يمارس شره بعيدا عنا, كانوا أكثر من مجموعة, لكنني كنت صديقا للكل, كلهم شخصيات لا تنسي, ولم تهن العلاقات حتي بالبعد, وهذا غريب!.
شخصية غريبة
لم أنس الجمالية. حنيني إليها ظل قويا, دائما كنت أشعر بالرغبة في العودة إلي الجمالية, إلي أصدقائي هناك, ما الذي يسر لي هذا النظام؟ كان لنا صديق من شلة العباسية توقف عن الدراسة وانتقل إلي العمل مع والده في دكان مانيفاتورة بالغورية, كنا في الإجازة, في العطلة المدرسية, كانت أكثر من أربعة أشهر, كان يقول لنا: لابد أن تجيئوني يوميا, كنا عندئذ نقطع الطريق سيرا علي الأقدام, بدءا من ميدان فاروق( ميدان الجيش حاليا) ثم شارع الحسينية, ثم بوابة الفتوح, فشارع المعز, كان لابد أن نمشي حتي الغورية لاستمتع بالمنطقة, وعندما نصل إليه نبقي معه حتي يغلق الدكان, ثم نمضي إلي مكانين كان يفضل الجلوس فيهما, مقهي زقاق المدق, ومقهي الفيشاوي, عرفت زقاق المدق بفضل صاحبنا هذا, الحقيقة كان بيني وبين المنطقة هناك, والآثار علاقة غريبة, تثير عواطف حميمة, ومشاعر غامضة, لم يكن ممكنا الراحة منها بعد إلا بالكتابة عنها, أعود إلي صديقي هذا, لقد كان شخصا مغامرا, عمل مع والده, وعندما جاءت أزمة الثلاثينات هجر أباه, اختفي, راح يلتقط رزقه من الصعيد, كان جريئا جدا, أطلق لحيته, وقال إنه قادم من المدينة المنورة وباع التراب للناس علي انه تراب من قبر النبي, وكان يعالج الناس, وكانت له أحداث عديدة, في إحدي المرات أحدث نزيفا لرجل أثناء خلعه لضرسه, وهرب من البلدة, كان بائعا جيدا برغم ذلك, ثم تزوج, واستقر به الحال, كان بورمجي تمام, الحقيقة أنه هو الذي عرفنا الطريق إلي انحاء القاهرة, أين هو الآن؟ لا أدري, كان إذا جاء إلي القاهرة يجئ إلي, يزورني, كان يفاجئني في وزارة الأوقاف, ثم وزارة الثقافة, ثم يختفي لا أدري, هل يعيش الآن أم انتقل إلي رحمة الله, لو أنه موجود في القاهرة لزارني بكل تأكيد, كان مغامرا, وأذكر أنه بعد أن هجر والده إثر أزمة الثلاثينات, ثم ضاق به الحال, أراد أن يرجع إلي والده, وسطني, ذهبت إلي والده, كان جارا لنا في نفس الشارع, استقبلني الرجل بحفاوة, وعندما ذكرت اسم ابنه, هب البيت كله في وجهي, حتي أمه, لأنه تخلي عن العائلة في ظرف حرج, صديقي هذا لم يكن يعرف مبادئ الوفاء والتعلق بالأسرة, قل إنه بلا مبادئ, قل إنه سابق لعصره, المهم أنه كان مغامرا, شخصيته وتجاربه فتحت لي عوالم جديدة كتبت عنها العديد من المرات, وهي موزعة في كثير من الروايات.. أما صديقي هذا فلا أدري أين هو الآن..
نقطة انطلاقي
من أصدقاء العباسية الذين انتقلوا إلي رحمة الله, المرحوم فؤاد نويرة, والمرحوم أحمد نويرة, وهما من شلة العباسية, وهما أشقاء الموسيقار عبد الحليم نويرة, كانت صداقتي للكبير أحمد, أما عبد الحليم نويرة فكان يتردد علينا من حين إلي آخر, كان أصغر إخوته, رحلا في عمر مبكر, رحمهما الله.. كانت كل سهراتنا في منطقة الحسين, كنت أتردد علي المنطقة بافتتان لاحد له, وتبلغ سهراتنا أجمل لياليها في رمضان, كنا نمضي إلي الحسين لنسمع الشيخ علي محمود, ونقضي الليل كله حتي الصباح, كان ذلك أثناء دراستي, ثم أثناء وظيفتي, تعرف أنني لم أنقطع عن منطقة الحسين حتي أوائل السبعينات, عندما كنت ألتقي بك هناك, لكن تقدمي في العمر, وازدياد أزمة المواصلات, تسببا في عدم ترددي بانتظام, أضف إلي ذلك أن المكان نفسه تغير, الفيشاوي القديمة تهدمت, كان السهر في الفيشاوي حتي الصباح من أمتع ساعات حياتي, وكانت الليالي تجمع شخصيات عديدة. إن عدم ترددي علي الجمالية يحزنني جدا, أحيانا يشكو الانسان بعض جفاف في النفس, تعرف هذه اللحظات التي تمر بالمؤلفين, عندما أمر في الجمالية تنثال علي الخيالات, أغلب رواياتي كانت تدور في عقلي كخواطر أثناء جلوسي في هذه المنطقة, أثناء تدخيني النرجيلة, يخيل لي أنه لابد من الارتباط بمكان معين, أو شئ معين, يكون نقطة انطلاق للمشاعروالأحاسيس, خذ مثلا كتابنا الذين عاشوا في الريف, مثل محمد عبد الحليم عبد الله أو عبد الرحمن الشرقاوي, ستجد أن الريف هو حجر الزاوية في أعمالهم ومنبع أعمالهم, نعم.. لابد للأديب من شئ ما, يشع ويلهم..
أول حب
عدت إلي الجمالية كموظف, عندما عملت في مكتبة الغوري, وأشرفت علي مشروع القرض الحسن, كان ذلك في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات, كنت أعمل في مكتب وزير الأوقاف, وحدث أن تغيرت الوزارة, طلبوا مني أن أختار مكانا مختلفا لأعمل فيه, اخترت مكتبة الغوري في الأزهر, دهشوا طبعا لأن هذا مكان لا يختاره موظف لبعده, والاهمال الذي يحيط به, لكنني كنت أرمي إلي هدف آخر, لقد قضيت شهورا من أمتع فترات حياتي في مكتبة الغوري, في هذه الفترة قرأت مارسيل بروست البحث عن الزمن الضائع, وكنت أتردد بانتظام علي مقهي الفيشاوي في النهار, حيث المقهي العريق شبه خال, أدخن النرجيلة, أفكر وأتأمل, كنت أمشي في الغورية أيضا, لقد انعكست هذه المنطقة في أعمالي, حتي عندما انتقلت بعد ذلك إلي معالجة موضوعات ذات طبيعة فكرية, أو رمزية, هناك البعض يقع اختيارهم علي مكان واقعي, أو خيالي, أو فترة ما من التاريخ, لكن عالمي الأثير هو الحارة, أصبحت الحارة خلفية لمعظم أعمالي, حتي أعيش في المنطقة التي أحبها, لماذا تدور الحرافيش في الحارة, كان من الممكن أن تجري الأحداث في منطقة أخري, في مكان آخر له طبيعة مغايرة, إنما اختبار الحارة هنا لأنه عندما تكتب عملا روائيا طويلا فإنك تحرص علي اختيار البيئة التي تحبها, التي ترتاح إليها, حتي تصبح القعدة حلوة, أما الخلاء الذي يظهر في عالم الحارة فاستوحيته من العباسية أثناء سكني في العباسية كثيرا ما كنت أخرج إلي حدود الصحراء, إلي منطقة عيون الماء حيث كان الاحتفال يقام عادة بالمولد النبوي, هناك كنت أجد نفسي وحيدا, خاصة أن هذا الخلاء كان علي حافته المقابر, كان خلاء لا نهائيا في العباسية عانيت أول حب حقيقي من نوعه, من قبل كنت أحس بالجمال في الجمالية بقدر الأحاسيس التي تراود صبيا في الثامنة أو العاشرة, لكن العباسية عرفت أول حب لي من نوعه, كانت تجربة مجردة من العلاقات, نظرا لفوارق السن, والطبقة, من هنا لم تعرف هذه العلاقة أي شكل من التواصل, وربما لو حدث ذلك لتجردت العاطفة من كثير مما أضفيته عليها وسوف تبدو آثار هذه العلاقة في تجربة كمال عبد الجواد في الثلاثية وحيد لعايدة شداد, عرفت العباسية مرحا, وصحبة لا تعوض, وكنت ألعب الكرة مع الأصدقاء, وكنت لاعبا جيدا..
المنطوي
تسألني عما إذا كنت إنطوائيا؟ ربما لأنك رأيتني في مرحلة مختلفة من العمر, ولكن الانطوائي نموذج مختلف تماما, كان أحد أفراد شلتنا منطويا, يجلس صامتا بمفرده, و كنا نتحلق أو ندور حوله, لنستثيره ننكشه لكنه لم يكن يستجيب لنا, إنما يغادرنا إلي البيت, هل أنا منطوي؟ أنا طول عمري لم تخل فترة واحدة لي من أصدقاء, في السياسة كنت طوال النهار مع أصحابي, لكن في نواح أخري تجدني مثلا لا أتبادل الزيارات مع الأقارب, إنني لا أندمج إلا مع الأصدقاء الذين أبقي معهم علي سجيتي, ونقعد كما أقعد معك الآن, في مقهي, في الشارع, فوق الأرض, لكن إذا جئت تقول لي أن هناك اجتماعا, أو عرسا, أو.. لا أطيق ذلك, أي قعدة تقيدني لا أطيقها, حتي الأفراح الخاصة بالأقارب لا أحضرها,.. نعم.. نعم أنا أقوم بالواجب الاجتماعي, لكن في حدود, الساعة الخامسة مثلا تجدني معهم أثناء عقد القران, ثم أنصرف, لكن زيارة رسمية أو ما شابه ذلك, لا, أصدقائي لا يزورونني لسبب, إنني معهم طوال اليوم, مع الأصدقاء كنت أصبح علي طبيعتي, إنني لا أطيق التكلف, لا أحتمله, لا أحب الجلسة التي أصبح فيها مع أصدقائي وكأنني بمفردي, ولعلك تذكر جلساتنا في مقهي عرابي مع الأصحاب القدامي.
بداية التكوين والصراع بين الفلسفة والأدب
في أحد الأيام رأيت أحد أصدقائي واسمه يحيي صقر يقرأ كتابا, رواية بوليسية عنوانها ابن جونسون, ويحيي هذا قريب لعبد الكريم صقر لاعب الكرة المشهور, سألته: ما هذا ؟ قال إنه كتاب ممتع جدا.. استعرته منه, قرأته واستمتعت به للغاية, كان ذلك ونحن طلبة في السنة الثالثة الابتدائية, بحثت عن روايات أخري من نفس السلسلة, ثم تساءلت, إذا كان هذا ابن جونسون, فأين جونسون نفسه؟, بحثت ووجدت سلسلة أخري من الروايات بطلها الأب, كانت هذه أول روايات قرأتها في حياتي, كان عمري حوالي عشر سنوات, وكما قت لك لم يكن هناك مناخ ثقافي في العائلة والكتاب الأدبي الوحيد الذي رأيته مع أبي حديث عيسي ابن هشام لأن مؤلفه المويلحي, كان صديقا للوالد, كنت أقرأ روايات جونسون علي أنها حقائق, ولهذا كنت أكاد أبكي, أو أضحك تبعا لتغيير المواقف, من رواية إلي رواية, من بوليسية إلي تاريخية, سارت قراءاتي, وبدأت التأليف وأنا طالب في المرحلة الابتدائية, ولكنه تأليف من نوع غريب,كنت أقرأ الرواية وأعيد كتابتها مرة أخري, بنفس الشخصيات مع تعديلات بسيطة, ثم أكتب علي غلاف الكشكول, تأليف نجيب محفوظ, وأختار اسما لناشر وهمي, أعدت كتابة روايات لسير ريدر هجارد, لتشارلي جارفس, كان التأليف دائما في الإجازات, هكذا بدأت كتابتي للرواية, طبعا مع ملاحظة الإضافات التي أضيفها من حياتي من علاقاتي وخناقاتي مع الأصدقاء, وبدأت بعد ذلك التنقل في القراءة, حتي وصلت إلي المنفلوطي, ثم المجددين, قرأت أيضا للمفكرين, وكان المفكرون هم الذين يحظون بالاحترام في هذه الفترة, طه حسين, العقاد, وغيرهما, أما الأدب فقد اعتبرته هواية جانبية, كان الاحترام للفكر, للمقالات, للنقد, للعرض, وليس للقصة, وهذا أثار تساؤلاتي الفلسفية, كان العقاد يثير تساؤلات حول أصل الوجود, علم الجمال, من هنا جاء توجهي إلي الفلسفة, كان الجانب المحترم في الحياة الأدبية هو المقال, أما القصة فغير محترمة, ولهذا كنت لا أفكر في التفرغ للأدب, للقصة, كما أنني كنت متفوقا في الرياضة والعلوم.
سر الوجود
كان اتجاهي معروفا, إما إلي الهندسة, أو الطب, لهذا عندما فكرت في الفلسفة والدي انزعج انزعاجا شديدا, كذلك انزعج المدرسون, لأنني كنت ضعيفا في المواد الأدبية, أحد أساتذتي واسمه بشارة باغوص الله يرحمه سألني مستنكرا.. لماذا تؤذي نفسك.. ماذا تفعله بنفسك؟ كان المدرسون يعرفون طلبتهم وقتها معرفة وثيقة, لأن الفصل لم يكن يضم إلا خمسة عشر, أو ستة عشر طلبا, كان المدرسون يراهنون علي الطلبة, ويفخرون بالطالب الذي ينبغ, في البداية لم أكن أفكر إلا في الوظيفة من خلال الكرة, بمعني أن أحصل علي وظيفة تمكنني من البقاء في القاهرة لأواصل لعب كرة القدم, وبعد أن تركت الكرة بدأت أفكر في أن أصير طبيبا, أو مهندسا, لأنني قوي في الرياضة والعلوم, هذا هو السبب الوحيد, لكنني بعد أن بدأت أقرأ المقالات الفلسفية للعقاد ولاسماعيل مظهر, وغيرهما, وبدأت قراءاتي تتعمق, تحركت في اعماقي الأسئلة الفلسفية, وجدت أن هذه هي همومي, وخيل إلي أنني بدراستي الفلسفة سأجد الأجوبة الصحيحة, ألا يصبح الدارس للطب طبيبا, والدارس للهندسة مهندسا؟ إذن فدارستي الفلسفة سوف تجيب عن الأسئلة التي تعذبني. خيل لي أنني سأعرف سر الوجود, ومصير الانسان, يعني بعد تخرجي, سأتخرج ومعي سر الوجود, وكنت أدهش, كيف يتجاهل الناس سر الوجود في قسم الفلسفة ويدرسون الطب أو الهندسة, بالطبع والدي صدم, وعندما قوبل بإصراري قال لي: ادخل الحقوق مثل ابن عمك, وابن عمتك, لتتخرج قاضيا, أو مستشارا, لكن أي مستشار, أي قاض؟ إنني أريد سر الوجود؟ هل أنت منتبه إلي سذاجة الفكرة؟ كما تتعلم الطب ستتعلم سر الوجود..
الأدب والفلسفة
.... مشيت في حياتي بدون مرشد, وكان أفراد من عائلتنا من أصحاب المهن, طبيب, مهندس, قاض, لم يكن أحدهم يهتم بالأدب, من كان سيدلني؟ ولم يكن السؤال ممكنا,إلي من أتجه؟ إلي العقاد مثلا؟ هنا يبدو جانب انطوائي, لقد عشت حياتي أقرأ للعقاد, وطه حسين لم ألتق به أبدا إلا عندما دعانا المرحوم يوسف السباعي لمقابلته في نادي القصة. كنت أعتقد أن الأدب نشاط سري, نشاط أسلي نفسي به, حتي استفحل الأمر كالداء, وحتي بدأ الصراع بعد حصولي علي الليسانس. الصراع بين الفلسفة والأدب, وفي السنة الأخيرة لدراستي أدركت ميلي الحاد إلي الأدب, أردت التخصص في الأدب إلي جانب الفلسفة, ولكن المرحوم عباس محمود أخبرني أن هذا مستحيل لمخالفته النظم المعمول بها وقتئذ, أثناء إعدادي لرسالة الماجستير وقعت فريسة لصراع حاد, كل ليلة أتساءل, فلسفة أم أدب؟ كان صراعا حادا من الممكن أن تكون له عواقب خطيرة, استمر ذلك حتي سنة1936, حسمت الحيرة المعذبة لمصلحة الأدب, وهنا شعرت براحة عميقة, راحة لامثيل لها, ولكن ظهرت أمامي صعوبة من نوع جديد.....
هذا الموضوع جزء من الفصل الأول في كتاب نجيب محفوظ يتذكر للأديب جمال الغيطاني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.