«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يعتبر نفسه كاتبا مصرياً سودانياً نمساوياً بدون ترتيب:
الروائي طارق الطيب:الأدب ليس مباراة في كرة القدم
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 01 - 2011

عندما سافر طارق الطيّب إلي النمسا في بداية الثمانينيّات، لم يحمل معه إلا كتاب »ألف ليلة وليلة«، وأغنية أسمهان الشهيرة »ليالي الأنس في فيينا«، وبعض الذكريات الأليمة. وصل إلي المدينة الأوروبية في شهر يناير. لم تكن ملابسه صالحةً لبرد النمسا القارس. »ملابس قطنية لطيفة، لا تمنع تسرب البرد حتي النخاع«، كما يقول. وجد نفسه منزوعاً عن الأهل والأصدقاء، وكانت الكتابة حيلة يستعيدهم بها، ويبحث فيها عن الدفء المفتقد.
يمكن وصف صاحب » مدن بلا نخيل« (باكورته الروائية عن دار الجمل - 1992) بالكاتب »المتعدِّد«. هو مصري سوداني، يحمل الجنسيّة النمساوية، يكتب بالعربية والألمانية، وأحياناً الإنجليزية. يكتب الشعر، والقصة، والرواية، إضافةً إلي محاولات في الفن التشكيلي. وقبل عامين، اختير ليكون سفيراً ثقافياً للنمسا، ومنح وسام الجمهورية النمساوية تقديراً لأعماله في مجال الأدب. أمّا هو فيرفض أن يوصف بالمتعدد، ويفضّل أن يقال »المتنوّع«. فالتنوع يعني إضافات إيجابية، وطبقات راسخة تضاف إليها طبقات متجددة، ويتفاعل بعضها مع بعض بانسجام، فيما التعدّد يحمل معاني التشظّي. »لم يكن لي في كلّ هذا خيار. ولدت في القاهرة لأب سوداني ترك السودان من أجل فتاة جميلة، في السابعة عشرة، أحبّها بجنون. أمي أيضاً، تركيبة سودانية مصرية، ولدت في بورسعيد، وعاشت في القاهرة بين منيل الروضة، والحسينية، وكوبري القبة، حتي استقرت في عين شمس. جدَّتها من دمياط. نشأتُ في القاهرة، بين عين شمس مسكن العائلة، والحسينية مسكن جدتي لأمي، والعريش حيث عمل والدي في الجيش المصري حتي جاءت حرب 1967، فضاع البيت«.
بعد تخرجه، رفضت الجامعة أن يتقدم للحصول علي الماجستير، إذ أصبح بين ليلة وضحاها بحكم قوانين 1981 الجديدة طالباً غير مصري. هكذا قرر الهجرة. كانت التغريبة الأولي إلي العراق (أربيل)، حيث صار له مطعم كبير هناك، لا يأكل فيه الرواد، بل يشربون الشاي أو القهوة فقط. لكن بعد أشهر قليلة، عاد إلي القاهرة، هرباً من » أحداث خطرة «. بعد أيام قليلة، قرّر الهجرة إلي النمسا، حيث قبلته جامعة الاقتصاد. هناك درس التجارة » مجاناً «، يقول ويضيف ساخراً : »حتي إنّهم أعادوا لي تكلفة دراسة اللغة الألمانية في نهاية كل فصل دراسي، باعتباري من دول العالم الثالث، وذلك حتّي أتممت أطروحتي، وحصلت علي درجة الدكتوراه في فلسفة الاقتصاد والعلوم الاجتماعية «.
لكن، لماذا كانت »ألف ليلة وليلة« الكتاب الوحيد الذي حمله في سفره، تماماً كما فعل حمزة بطل روايته/ السيرة » بيت النخيل « (دار الحضارة للنشر 2006). يقول : »بطلي حمل معه كتابا يثق فيه، فقد أحبطته جميع الكتب. أراد أن ينسج علي منواله وبصوته حكاية عصرية تحقق له النجاة من سيف شهريار الشرق والغرب المتربص. الحكاية هي طريق النجاة. علي الأقل نجاة تاريخه الشخصي من الضياع والاندثار«. يضيف: الحكاية لكي تعيش تحتاج إلي "روح". هذه الروح منحها له الصوت الآخر، صوت غنائي رائق قديم يجلجل في فضاءات بعيدة، لم يدخل اعتباطا إلي النص وإنما من قصة حب أقدم لشخصية أخري هامة في الرواية. هذا الصوت الآخر لأسمهان كان يغني لمدينة اسمها فيينا، سيكون فيها بالفعل، في (بيت النخيل)، وستكون فيها ساندرا التي سيسافر إليها حمزة كل هذه المسافة لتسمع منه قصة لم يرغب أحد هناك سواء في موطنه الأصلي أو في بلاد رحلته الطويلة (مصر والسودان) أن ينصت إليها.
هكذا بدأت حكايته مع الكتابة الاحترافية. لكن قبل الاحتراف، كانت ثمّة محاولات أخري قبل السفر. » بداية الأدب جاءت عندي من باب « قلّة الأدب » بمعناها الدارج «، يقول ضاحكاً. »أحببت فتاةً حباً أخرجني عن شعوري، وحرّر مشاعري كلّها؛ فكتبت فيها شعراً. قدمت هذه الأشعار إلي أصدقائي باسم مستعار، فراقتهم كثيراً وطلبوا المزيد. توالت قصائدي أمام الأصدقاء الشغوفين بذاك الهيمان المستتر الذي هو أنا «. حفزته مكتبة والده، القارئ النهم، علي المطالعة في عمر مبكّر. » كان والدي يجلّد روايات »الهلال« في مجموعات، ويطبع علي كل مجلّد اسمه. فاعتقدت قبل دخولي المدرسة أنّ أبي أديب، وأنه ينبغي لي أن أصير مثله، وأتابع دربه مستقبلاً «.
في سنوات الجامعة كاد أن يصاب بنوع من الإحباط. » كنت أتخبط بين سماوات وأراض من دون تحليق مستمر أو هبوط سليم «. بدأ منذ ذلك الحين في كتابة مقالات نقدية عن أحواله النفسية، ورؤيته للبيئة المحيطة. » كنت أشعر بارتياح لا يضاهي بعد الانتهاء من كتابة موضوع ما. شعرت بتوازن كبير نتيجة هذه الكتابات المتكررة «.
الكتابة باعتبارها علاجاً واكبته بعد السفر. كانت النمسا موجعة بصدماتها. » صدمة مناخية أمام الصقيع. وصلت في الشتاء، وعشت في بيوت من الجليد، وعملت في الشارع عاماً ونصف عام. صدمة لغوية، أمام الألمانيّة التي لم أكن أفقه منها كلمة واحدة. وصدمة أكاديمية. فبعدما تعلمت الألمانية، وجدتها في الجامعة أكثر صرامة «. أمام هذه العزلة قرّر أن يستعيد الغائبين من الأهل والأصدقاء، فلجأ إلي الكتابة عن ربع قرن قاهري. »استرجعت الجميع علي الورق في حكايات وكتابات، إلي أن وجدت يوماً من يرغب في نشر كتاباتي، بل يمدحها، ويحثّني علي كتابة المزيد«.
قرأ بالمصادفة إعلاناً في مجلة » الاغتراب الأدبي « التي كانت تصدر من لندن، تطلب نشر قصص من يعيشون في أوروبا. أرسل أولي قصصه وكانت تحمل عنوان » المساومة «، فرحب صلاح نيازي رئيس تحرير المجلة بها، طالباً المزيد. كان ذلك في أواخر الثمانينيات. بعدها، كرّت السبحة، ونشر في » الأهرام »، ثم مجلة »إبداع«، والعديد من الدوريات والجرائد في الوطن العربي وأوروبا. » نشرتُ أولاً في ألمانيا ثمّ القاهرة بالعربية، ثم بعد ذلك بالألمانية في فيينا، فبرلين، وبعد ذلك ظهرت ترجمات لي في دول عديدة «.
ثم كانت مجموعته القصصية الأولي » الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء « التي أرسلها إلي الطيب صالح ليقرأها ويكتب لها مقدمة. علي الهاتف قال له الطيب بصوته الأفريقي الدافئ : » من أنا لأكتب لك مقدمة لكتابك؟ « لكنه كتب بعدها المقدمة الجميلة بخطّ يده المميز، وما زال طارق الطيب يحتفظ بها. » الغريب أنه حدث مرتين في قراءات لي هنا في أوروبا، أن أتي البعض معتقداً أنني الطيّب صالح، وهم ممن قرأوا له من دون أن يروا له صورة. صحّحت لهم ظنّهم، وأخبرتهم أنّ الطيب صالح أكبر مني قدراً وعمراً«.
ولكن ماذا عن المجالات الأخري الفن التشكيلي والسينما؟ يجيب: " شاركت في أدوار صغيرة جدا في أفلام نمساوية وألمانية منذ سنوات كتجربة شيقة لي ربما خمسة أفلام أو ستة، مرة كطيار ومرة كرئيس جلسة في الأمم المتحدة ومرة كصديق إفريقي لبطل فيلم ومرة كجنرال افريقي فاسد يشتري أسلحة وهكذا...". ولكن ماذا عن مشاركته البطولة لمورجان فريدمان في فيلم يتناول قصة حياة هذا الممثل الأمريكي الشهير؟
يضحك الطيب: » تقول لي زميلاتي في الجامعة أنني أشبه مورجان فريمان إلي حد كبير، ويقول لي كثير من النمساويين والنمساويات أنني أشبه مورجان فريمان بصورة كبيرة جدا، وامتد هذا التصريح لأمكنة أخري زرتها في أوروبا، دائما أنا مورجان فريمان؛ لأنه بشكل آخر محبوب جدا في أوروبا وأميركا كممثل بارع ومثير. أنا أحب هذا الممثل جدا لكني أراه يشبه والدي أكثر مني في أول يوم من شهر أبريل الماضي كنت جالسا هادئا في بيتي في فيينا؛ ففكرت أن أمزح مع أصدقائي ممن يشبهونني بمورجان فريمان. بحثت عن صور له ووجدت الكثير وضاهيت هذه الصور بصور مشابهة لي، حيث صورني كثير من المصورين المحترفين هنا في النمسا أولا ثم في أميركا بشكل احترافي وجميل بعض هذه الصور نشر في مجلات وجرائد والبعض مازال في حوزتي. وضعت صوري المشابهة تماما لصور مورجان فريمان، في عرض متواز جميل: صورته وهو يبتسم مع صورتي وأنا أبتسم. صورته وهو يضحك صورتي وأنا أضحك. صورة بروفيل جانبية له، مثلها لي ، وهكذا، وأرسلت خبرا مازحا لكثيرمن أصدقائي وصديقاتي عن قيامي بفيلم عن حياة مورجان فريمان بمشاركته. فوجئت بالردود الجميلة والتهاني اللانهائية من أميركا وأوروبا واستراليا ناهيك عن عالمنا العربي. كنت أمزح في أول أبريل، لكن يبدو أن المزحة تلقاها البعض علي أنها خبر أكيد؛ حتي رئيس جامعتي دعاني قبل أسابيع ليحتفل بي بهدية قيمة بمناسبة تدريسي في الجامعة معهم لعشر سنوات، واعتقد جازما أنني سأشارك في هذا الفيلم المنتظر، ولما أعلمته بالمزحة ظل يضحك لخمس دقائق، قائلا إن هذه أجمل مزحة سمعها في سنواته الأخيرة
أما عن الرسم فهذه قصة مختلفة.. يشرحها: مثل فرعون صغير لطخت حوائط البيت برسوماتي، ولكن تعاملت مع رسوماتنا باعتبارها "عك"، ولكن عندما هاجرت إلي أوروبا بدأت في التنقل بين معارض الفن التشكيلي والمتاحف، وصادقت فنانين وفنانات، أصبحت زيارة المتحف والمعرض والكونسيرت والمسرح والسينما مثل زيارة المقهي أو التمشية في الشارع؛ فكل شيء متاح وكل الفنون متقاربة". ولكن ممارسة الرسم بشكل احترافي لم تكن تتكون سوي عندما تأخرت الفنانة الدنمراكية في الانتهاء من غلاف روايته الأولي، واقترحت زوجته أن يفعل ذلك بنفسه ، ولما سمعت مسئولة ثقافية من النمسا عن رسوماته اقترحت أن تقيم له معرضا .. :" أقمت بعض المعارض الصغيرة علي استحياء، لكني رفضت بيع أي لوحة وأكدت علي أنني كاتب في المقام الأول، وأمارس هوايتي في الرسم في المقام الأربعين.لا يمكن وصفي بالشمولية في الفن، بل هي مجرد هواية تمس الكثيرين بجنونها. لست أولهم ولا آخرهم. ربما يمثل هذا التجريب الفني بالنسبة لي تنفيسا عن قلق داخلي في شكل فني آخر يريحني أنا في المقام الأول".
روايته » بيت النخيل « أشبه بسيرة ذاتية. بطل الرواية حمزة لم يتصالح مع السدود التي واجهها في الغربة، بل كسرها. المصالحة من وجهة نظره، تعني التعايش، أو التنازل، أو الإجبار، أو الخنوع. »كسرت حاجز اللغة بتعلمها؛ بأخذها إلي ملعبي. كسرت حاجز المعاناة من الشتاء والبرودة بالعمل والكسب وتجهيز تدفئة منزلية وشراء ملابس شتوية مناسبة، اسمّيها دائماً وليس مجازاً : أسلحتي ضد الشتاء «. يبتسم قبل أن يوضح: »أستطيع الآن أن أمارس رياضة الحياة هنا في فيينا، بعدما تدربت عليها سنوات طويلة، وجمعت من الخبرات ما يؤهلني لمتابعة المباراة حتي الشوط الأخير«.
ولكن كيف كانت السدود ..وكيف استطاع كسرها كيف أثرت الغربة علي الحواس ؟ أسأله..ويجيب:" بدايتي في النمسا كانت مربكة لي علي صعيد معظم الحواس: السمع لم تعد له القيمة الكبري التي كانت. اختلت وظيفة السمع بسبب الرطانة الألمانية، لم أعد أفهم عبر هذه الحاسة أبسط المعلومات. النظر أصبح يقوم بمهمة أكبر من مهمته الاعتيادية. أصبحت أفسر ما يريدون قولة عبر حركة الأجسام والإيماءات النمساوية، ورغم ذلك ظل معظم فهمي خاطئا. اللمس كان يضيع مني في كثير من الأحيان، حين أضطر للبقاء في الشارع في درجات برودة تجاوزت الصفر بمراحل، وحين أتحرك لا أشعر بجسدي، كنت أحمّل عينيَّ عبئا جديدا لتنظر في طريق سيري وتحفظ الجسد المشلول من الخطأ. المذاق تغير بالطبع والشم أيضا، وروائح الأشياء القديمة قبعت في الذاكرة تنتظر أي تلويحة أو إشارة.
هنا أقول إن بيت النخيل في فصوله الأولي يحمل الكثير من شهوري الأولي في هذه المدينة، وفي الفصول التالية كثير من الحكايات التي نتشارك حمزة وأنا في خبرتها، هناك الكثير من خبرات حمزة التي لم أوردها في هذه الرواية وهناك خبرات أكثر من حياتي أنا لم تتناولها الكتابة بعد أو بالأصح لم تتهيأ لها. أما ما يتعلق بالرائحة فهي فكرة عابرة ومعبرة في الرواية؛ صحيح أنني حكيت في رواية بيت النخيل عن البيض الفاسد الذي يروح بعطر زجاجة اللوتس التي أحضرها حمزة من السودان أو أحضرتها أنا من مصر، لكن الزجاجة بقيت، نحتفظ بها لوقت الأزمات ضد الرائحة الفاسدة لنستنشق منها ما يعيد إلينا التوازن في فترات خلل الرائحة.
سؤال الهوية بعد هذه السنوات، والتجارب، والخبرات لا يشغله. ليس مهماً أن يكون مصرياً أو سودانياً أو نمسوياً. هو كلّ هؤلاء. فالهويّة برأيه كائن حيّ، يتغذّي ليعيش، ويتطوّر ليؤثر ويتأثر. ومن الضروري أن يتغير هذا الكائن.
يشرح بتفصيل فكرته: أعتبر نفسي كاتبا سودانيا مصريا نمساويا بدون ترتيب، وقد مثلت الكل في ملتقيات ومهرجانات أدبية حول العالم. أصحاب الأفق الضيق هم دائما ما يؤكدون علي فواصل وحواجز الجنسيات، لكن الأدب ليس مباراة في كرة القدم، وقد يؤكد البعض علي الجنس (رجل أو امرأة) أو علي الديانة، وقد يبحثون عن اختلافات مظهرية أو عرقية أخري وما أكثرها ولا يلتفتون إلي أي توافق أو اتفاق. البعض يظلون في بحث دائم مرهق لهم وليس لي، للوصول إلي صورة مسبقة في أذهانهم هم فقط عني، لكنها في النهاية ليست لي، لأنهم لا يرغبون في أن يتعرفوا عليَّ من خلال أعمالي بل من خلال ثرثرات المقاهي وكسل الأذهان.
سؤال الهوية إذا لا يشغلني علي الإطلاق عبر هذه العطفة الضيقة أو »الحارة السد«؛ فالهوية كائن حي يتبدل كل يوم لكل شخص بمقدار. تعلمي للغة الألمانية أثر بالتأكيد علي هويتي بإضافات مفيدة. تعاملي الأكاديمي مع الطلاب أفادني وغيّر من نظرتي لكثير من الأمور؛ فأنا غارق معهم في أبحاثهم وأفكارهم ورؤاهم. أسفاري المتعددة حول العالم غيرت الكثير من أفكاري المسبقة. حياتي في مدينة مثل فيينا لابد أن تؤثر علي تفكيري ويومي وحياتي. زوجتي النمساوية فرع آخر إضافي مهم للهوية، أضافت وتضيف لي من تراثها تاريخا إضافيا ومن ثقافتها لغة جديدة وفنونا رفيعة ومن عائلتها قرابة لا تنقطع وأتبادل معها التواصل نفسه.
كل يوم جديد يضيف لهويتي جديدا، يضيف وعيا وأفقا جديدا، إضافات أعتبرها إيجابية بقدر صدقي في التعامل معها وتقبلي لما يصلح لي دون أن أصير مسخا مقلدا للآخر أو متجمدا صارما يسير للآخرة رافضا الحياة.. يختتم الطيب بالتأكيد: "الهوية بيت كبير بحجرات لا حصر لها، إما أن تدخلها وستتأثر حتما بعد كل دخول وخروج، وإما أن تقبع في حجرة واحدة وتقنع نفسك بأنك أعلم وأفضل من الآخرين ببقية الحجرات، وإما أن تجلس خارج البيت علي "شلتة" وثيرة وتصف للناس وهما من ذهنك عن البيت وحجراته كأنك خير العالمين".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.