1 كانت دعوة «نجم» صديقه القديم مغرية تماماً. قال له «نجم»: خذ الطائرة وتعال.. تعال من غير ولا مليم..الدعوة تتضمن إقامة كاملة.. يعني «فول بورد». علي كثرة سفرياته لم يكن قد زار لندن من قبل، ولهذا فما إن تأكد أن الدعوة صادقة وأن «نجم» يعنيها حقاً حتي استعد بالتأشيرة والتذكرة قبل أن يشد الرحال إلي عاصمة الضباب. عندما تقدم بطلب التأشيرة إلي القنصلية البريطانية قام بملء استمارة مليئة بالأسئلة من ضمنها سؤال يقول: هل سبق أن تقدمت بطلب فيزا إلي لندن وتم رفض طلبك؟.. ضحك عادل من هذا السؤال قبل أن يكتب: نعم. وكان السؤال التالي: إذا كانت الإجابة بنعم فما هو سبب الرفض؟.. سرح عادل في سبب الرفض وأفتر وجهه عن ابتسامة عندما عادت إلي ذاكرته تلك الأيام.. لم يكن وحده الذي تم رفض طلبه في ذلك الصيف..كل أصدقائه الطلبة تم رفضهم أيضاً لأن السيد الموظف القنصلي لم يصدق أنهم ذاهبون إلي لندن من أجل السياحة فعلاً، فلا مواردهم المالية كانت تسمح ولا كان أهلهم من الموسرين. وقد فشلت حيلتهم في جمع فلوسهم كلها وإعطائها لمن عليه الدور في الدخول للمقابلة الشخصية ليريها للسيد قنصل الوز! أما صديقه «نجم» فكان قد استقر في لندن بعد أن سافر إليها في نفس ذلك الصيف الذي تم رفضهم فيه..ومن عجب أنه كان واحداً من الذين ذهبوا إلي القنصلية البريطانية وخرجوا منها بخفي حنين! تغلب «نجم» إذاً علي القنصلية البريطانية ولم يستسلم لقرارها وسافر إلي لندن في عطلة الصيف تلك رغم أنف القنصل البريطاني، ثم قرر أن يكتفي من مصر بما لديه وأن يبدأ حياة جديدة خارج الوطن.. مفرداتها مختلفة وأناسها مختلفون. ولما لم تكن الدراسة تمثل أحد أهم طموحاته في الحياة رغم ذكائه الواضح وشغفه بمعرفة كل جديد، فلم يكن قرار البقاء يحتاج منه إلي شجاعة كبيرة. عمل «نجم» في البداية مثل معظم الطلبة المصريين في أحد المطاعم وتدرج بمرور الوقت حتي صار مديراً للمطعم الكبير، ثم استقل وفتح لنفسه مطعماً يقدم المأكولات المصرية. وكان من حظه أن التقي في بداية حياته بإنجلترا بفتاة إنجليزية أحبته وأحبها فتزوجها وأنجب منها ، وكانت زيجته من عوامل الاستقرار في حياته. ظل «نجم» مداوماً علي الاتصال بعادل صديق الدراسة منذ أيام غمرة الإعدادية رغم أن الأيام فرقت بينهما، وقد كان من المفروض أن يسافرا معاً إلي لندن كما خططا طوال العام الدراسي لو سارت الأمور سيرها الطبيعي.. ولكن الأقدار كان لها رأي آخر. نوي «نجم» وعادل أن يسافرا إلي لندن في ذلك الصيف ومعهما شلة الأصدقاء الذين كانوا يجتمعون بقهو ة قشتمر لتدارس الموقف وتبادل الخبرات واستكشاف السفارات الطيبة التي لا تضن علي الطلبة بتأشيرتها المكتوب عليها « سياحة» رغم أنهم جميعاً ذاهبون بغرض العمل والمغامرة وجمع بعض المال الذي ينفع في العام الجامعي لشراء الكتب والملابس. عقدت شلة الأصدقاء العزم علي السفر إلي لندن وتوجهو ا بربطة المعلم - وكانوا ثمانية - إلي القنصلية الإنجليزية بجاردن سيتي.. وقد أسلفنا أنهم جميعاً قد تم رفض طلبهم بالسفر إلي المملكة المتحدة، ولم يفلت واحد منهم من شباك القنصلية الضيقة! في ذلك الوقت غيّر عادل برنامجه وتوجه بمرونة شديدة إلي السفارة النمساوية التي كانت أحن علي الطلبة من مثيلتها البريطانية فمنحته وأصدقاءه تأشيرتها الجميلة المكتوب عليها «سياحة» وهي تعلم أنهم جميعاً ذاهبون لبيع الجرائد علي أرصفة فيينا.. ويبدو أن قلة الإقبال علي هذه الوظيفة الشاقة من جانب النمساويين قد جعلتهم يتسامحون في إعطاء الفيزا لمن يشاء من المصريين ويغضون الطرف عن التأشيرات المكسورة بعد ذلك! توجه عادل ومعه الرفاق جميعاً إلي النمسا إلا واحداً فقط.. العنيد «نجم» وحده هو الذي أصر علي أن يسافر إلي لندن مهما كلفه الأمر. ومن أجل هذا فلقد قام بحركة لا يقدم عليها إلا المغامر الجسور. أخذ بنصيحة أحد القدماء المعتّقين في السفر وحصل علي تأشيرة أيرلندا كبديل عن تأشيرة إنجلترا ثم سافر متوجهاً إلي «دبلن» ومن هناك ركب العبارة التي نقلته إلي ميناء ليفربول الإنجليزي! كانت نصيحة الصديق بالسفر إلي أيرلندا ومنها بالعبارة إلي الشاطئ الإنجليزي شديدة الغرابة ولا يصدقها عقل، لهذا فقد خشي منها ورفضها الأصدقاء جميعاً، ومع هذا فقد كانت في الصميم وحققت نجاحاً مدهشاً فأوصلت «نجم» إلي هدفه كما أراده، وكان هو الوحيد الذي صدقها وآمن بها وقام بتنفيذها فوجد نفسه في إنجلترا بدون فيزا! نزل «نجم» من السفينة وتمشي علي الرصيف دون أن يعترضه أحد، حتي وجد نفسه عند محطة القطار فوقف في الطابور لقطع تذكرة إلي لندن وهو يتوقع بين لحظة وأخري أن يجد من يضع يده علي كتفه ثم يقتاده إلي المخفر قبل إعادته علي أول رحلة إلي القاهرة. فلما لم يحدث ذلك ركب القطار وهو لا يصدق نفسه من الفرحة. وفي لندن اختفي وسط الزحام ثم بدأ حياة جديدة كللت بالنجاح. أما عادل فقد سافر إلي فيينا وقضي شهو راً بها ثم عاد فاستكمل دراسته وتخرج وبدأ حياته العملية بمصر. 2 وصل عادل إلي مطار هيثرو ولم يكن قد أخطر «نجم» بموعد قدومه حتي يكون للمفاجأة وقع كبير عندما يجد أمامه صديقه الذي غاب عنه سبع سنين. اكتفي عادل بإخطاره أنه سيأتي قريباً إلي لندن وحصل منه علي العنوان بالتفصيل. في المطار سأل موظفة الاستعلامات عن كيفية الذهاب إلي محطة «إنجل» حيث يسكن أبو النجوم، فأحضرت خريطة ووجهّته إلي كيفية استخدامها وأوضحت له كيف يصل إلي العنوان بسهو لة. وجد عادل خرائط المترو اختراعاً هائلاً يسهل التنقل في أحياء لندن دون سؤال أي إنسان. أخذ يجر حقيبته وتوجه الي قطار الأنفاق أسفل المطار وركب « الخط الأزرق» واسمه خط بيكاديللي ومضي به طويلاً حتي محطة «كينجز كروس» وهناك قام بالتغيير فانتقل في نفس المحطة إلي نفق آخر حيث «الخط الأسود» واسمه الخط الشمالي وتوجه به إلي محطة «إنجل». خرج من باب المحطة ونظر حوله يبحث عن شارع «كيستريل» فوجده قريباً.. سار ينظر إلي أرقام البيوت حتي أبصر مجموعة من العمارات الشاهقة الشبيهة بعمارات العبور بصلاح سالم، وفي واحدة منها تقع شقة «نجم» بالطابق الأخير. وكان «نجم» قد أخبره بأن ناطحات السحاب هذه هي عمارات تقوم الدولة ببنائها ومنحها إلي من يحتاج إلي مسكن رخيص من البريطانيين، وبما أنه قد أصبح من البريطانيين فقد أخذ شقة! دخل إلي المصعد وضغط علي الزر إلي الطابق الأخير وهناك وجد الشقة كما وصفها له صديقه تجاور السور المفضي الي السلم..ومن الشرفة خارج الباب يمكن رؤية جانب كبير من القطاع الشرقي لمدينة لندن. داس الجرس وانتظر فلم يرد أحد. أرهف السمع ووضع أذنه علي الباب فلم يصله صوت أي حركة من داخل الشقة. شعر بالحيرة لهذا الموقف المفاجئ الذي لم يتحسب له..كان «نجم» قد أخبره بأنه لا يخرج من البيت إلا إلي الشغل وبالعكس..والساعة الآن تقترب من السابعة ولم يعد بعد، ولا حتي زوجته والطفل. جلس علي السلم لمدة ساعة ثم شعر بالملل فنزل إلي الشارع وهو لا يدري إلي أين يذهب، وكان أشد ما يضايقه هو هذه الشنطة الكبيرة التي يجرها بصعوبة وبها ملابسه الثقيلة لتقيه من برد ديسمبر. أخذ يفكر في كيفية الخلاص من الحقيبة حتي يكون خفيف الحركة وينطلق في المدينة دون معوقات. فكر في العودة إلي المطار ووضع الحقيبة بصندوق أمانات، لكنه نبذ الفكرة واستثقل المشوار، ثم اهتدي إلي أن أفضل حل هو الذهاب إلي محطة قطارات قريبة وإيداع الحقيبة هناك. أمسك عادل بالخريطة وأخذ يردد أسماء المحطات، وانتبه إلي اسم محطة شهير جداً يعرفه من الأفلام والمسلسلات الإنجليزية.. محطة فيكتوريا. توجه من فوره إلي المحطة الشهيرة وفي مكتب الأمانات قام بوضع حقيبته لدي أحد الموظفين واستلم إيصالاً بها. جلس علي أحد المقاهي بالمحطة واحتسي كوباً من الشاي، ثم قفل راجعاً إلي محطة «إنجل» من جديد وتوجه إلي العمارة الشاهقة آملاً أن يكون أبوالنجوم قد عاد. للمرة الثانية يطرق الباب ولا يرد أحد. خاب أمله وبدأ يشعر بالضيق، وحدّث نفسه: ماذا يحدث لو كان «نجم» علي سفر ولا ينوي العودة قريباً؟.. في هذه الحالة عليه أن يشق طريقه في لندن كما تعود أن يفعل في كل مكان سافر إليه منذ كان طالباً حتي الآن..لقد كان السفر بالنسبة له متعة ما بعدها متعة، وليس غريباً عليه أن يقضي أياماً يتجول فيها وحده ويتعرف علي هذا وذاك وعلي هذه وتلك ويبيت كل ليلة في مكان مختلف. لكن المشكلة الآن أنه قد وطّن نفسه علي قضاء أيام بصحبة «نجم» ولم يكن حتي يملك مالاً كثيراً يبدده في الفنادق، وبند الإقامة علي أي حال هو أصعب البنود عند السفر..الأكل والشرب رخيص ومقدور عليه في كل مكان، لكن النوم هو الذي يحتاج إلي ميزانية..وهو لم يعد صغيراً الآن علي النوم في الحدائق كما كان يفعل وهو طالب..ولا الجو في شتاء لندن كان يسمح لو رضي هو ! عاد إلي محطة فيكتوريا التي أحس نحوها بألفة وأخذ يتسكع علي أرصفة المحطة ويتجول بين المحلات ثم تناول ساندوتش هامبورجر في أحد المطاعم وجلس يفكر. أكثر ما غاظه هو أن التليفون كان معطلاً عند «نجم» لفترة طويلة سابقة، ولهذا لم يحرص علي تدوين الرقم! والآن صار نادماً علي قراره الخاطئ بمفاجأة صديقه وزيارته دون إخطار وعلي عدم تدوين النمرة، فلربما كان التليفون يعمل الآن ومنه يعرف إن كان قد عاد أم ما زال بالخارج دون أن يضطر إلي القفز في القطارات جيئة وذهاباً. لا مفر من العودة إلي بيت «نجم» للمرة الأخيرة قبل أن أقرر المبيت في فندق..هكذا حدّث نفسه. ما زال «نجم» بالخارج..يا للحظ العجيب! نفض عادل عن نفسه الشعور بالضيق وعاد إلي المحطة من أجل أن يأخذ بعض الملابس من حقيبته ويتوجه إلي أحد الفنادق الرخيصة. في المحطة فؤجئ بأن مكتب الأمانات قد أغلق أبوابه وبأنه لن يفتح قبل الصباح. خرج إلي الشارع وقد بدأت البرودة تشتد وتغزو عظامه فأحكم لف ملابسه حول نفسه وقام بتقفيل كل أزرار سترته ومع ذلك لم يخف شعوره بالبرد. دخل إلي أول فندق صادفه فأخبروه في الاستقبال بعدم وجود غرف خالية..سار في الشارع الهادئ والذي زاده الجو البارد وحشة حتي لمح لافتة فندق علي البعد. توجه إليه وطلب غرفة مفردة فأجابته الفتاة الحسناء خلف المكتب بأن سعر الغرفة في الليلة هو ثمانون جنيهاً إسترلينيا. قام بعمل حسبة صغيرة فأدرك أن ما معه من نقود لن يكفيه خمس ليال دون أكل أو شرب... وهو علي أي حال لم يعمل حساب هذا لأن الفلوس التي بحوزته مخصصة للتسوق وشراء الملابس من المحلات التي سيأخذه إليها «نجم»..آه أين أنت يا أبا النجوم؟! خرج من ردهة الفندق في حيرة وشعر أن تفكيره مشوش بفعل البرد، ثم بدأ المطر يهطل وهو لم يستعد حتي بإحضار مظلة، وساهم الشعور بالجوع في خفض معنوياته، ثم وجد أن أفضل ما يفعله هو أن يعود إلي المحطة يحتمي بها فأسرع الخطي وقد ابتلت ملابسه وأحس أنه يأخذ دشا مثلجاً. دخل إلي المحطة يلهث فوجدها صامتة بعد أن هدأ الضجيج الذي كان يلفها وقد كادت تخلو من الناس ووجد بعض الهائمين يجلسون متناثرين إما علي دكة خشبية أو بالمقهي الوحيد الذي كان لا يزال يعمل..وكان هناك من المشردين من أعد لنفسه فرشة إلي جوار أحد الأعمدة علي الأرض واستلقي في هدوء. جلس داخل المقهي وطلب شريحة بيتزا وكوباً من القهو ة القوية وأخذ يفكر في تكملة الرحلة علي أسس جديدة بعد أن فقد الأمل في لقاء «نجم». عقد العزم علي تمضية الليلة بالمحطة حتي الصباح ثم البحث من خلال مكتب الاستعلامات عن أحد بيوت الشباب حيث يضع حقيبته ويأخذ حماماً ساخناً ويستمتع بتناول الوجبات الكاملة الرخيصة التي تقدمها هذه البيوت في خدمة حقيقية للشباب تساعدهم علي التجوال والسفر بما لا يجهد ميزانيتهم المحدودة..وتذكر عادل أنه شخصياً قد قضي أياماً جميلة في بيوت الشباب في فيينا وبرلين وزيورخ وأمستردام. قطع عليه استرساله في أفكاره صوت اقتراب خطوات منه. نظر إلي جانبه فأبصر رجلاً فخماً أنيق الهندام يرتدي بدلة كاملة ومعطفاً من الصوف الإنجليزي الأسود. حياه الرجل قائلاً: هاللو. فرد التحية وانصرف إلي طعامه. سحب الرجل كرسياً وجلس في مواجهته وهو يبتسم في تودد. قال الرجل: هل تريد مزيداً من الطعام؟ رد عادل في دهشة: ماذا؟ هل أريد مزيداً من الطعام؟ من تكون؟ هل أنت نادل في المطعم تهتم بطلبات الزبائن أم ماذا؟ قال الرجل في هدوء: أنا شخص يشعر بالوحدة ويريد أن يجد من يقضي معه وقتاً طيباً، فهل تسمح بمرافقتي وأعدك بتلبية كل طلباتك من طعام وشراب وملابس، ويمكنك طبعاً أن تبيت معي بالبيت.. قال جملته الأخيرة وعلي شفتيه ابتسامة لعوب! شعر عادل بالقلق وقد أدرك ما يرمي إليه الرجل، وكانت لديه عقدة من أمثال هذا الرجل الذي صادف مثله كثيراً أثناء رحلاته وتسكعاته في مدن الغرب.. طاف بخيال عادل أن السكن والاستقرار كفيلان وحدهما بألا يلتقي بهذه الأصناف أبداً، وتذكر أن المرات التي نزل فيها في الفنادق كسائح محترم لم يصادف خلالها أحداً من هؤلاء. أما حياة التسكع والنوم في محطات القطارات وتحت الأشجار في الحدائق فهي التي تغري هؤلاء الشواذ بالخروج وتصيد الرفاق من بين المشردين والجائعين والباحثين عن مأوي. نظر للرجل وقال له في جدية: هل تعرف أين يمكن أن يكون «نجم» قد ذهب هذه الليلة؟ رد الرجل في دهشة: ماذا؟ قال عادل: أنا محتار في أمره.. هل يمكن أن يكون قد سافر خارج لندن؟. ابتلع الرجل دهشته ثم قرر التجاوب مع تخاريف عادل علي أمل أن توصله إلي غرضه فقال:ربما كان قد ذهب إلي «برايتون» لقضاء إجازة ولن يعود قريباً ثم أردف: لكن لئن كان «نجم» قد ذهب فإن ريتشارد «وأشار إلي نفسه» موجود وتحت أمرك. نظر إليه عادل في غضب وقال بصوت أفزع الرجل : اذهب وابحث في مكان آخر يا «...» يا ابن ال«....».. كان عادل ضليعاً في الشتائم الإنجليزية والأمريكية بكل أشكالها، وقد انتقي منها أقذرها مما حدا بالرجل إلي أن يبتعد وقد اكفهر وجهه!