«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حلم الآثاريّ
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 05 - 2010

زرتَ هذا الجبل مراراً لكنك لم تدخل المتحف. هذه البلاد، كما تعلمت علي مقاعد الدرس، متحفٌ مفتوحٌ، فما حاجتك إلي متحف بالكاد يبلغ حجم مضافة بيتكم؟ الأعمدة الضخمة، معبد هرقل، الآثار الأموية، كانت تلفت نظرك أقل من إطلالة الجبل علي قلب المدينة النابض. في زمن ما، كنت تقيم في جبل مقابل لهذا الجبل. كان أول ما تطالعه عيناك هذا الجانب من المدينة المتكاتفة، المطلّة علي صباحات الخبز والشاي من سبع جهات. كان ذلك زمن الأفكار الكبيرة.
زمن الانشغال بالجموع والرغيف ورياح التغيير التي تنكسر وتطير شَعاعاً أمام مصدات عالية من القهر والخوف، لا زمن الانشغال بالحجر والرقيم. الوجوه المتطاولة، الأيدي المعروقة، العضلات التي تكدح في معاقل المال، هي التي كان عليك أن تقرأ نصوصها المعاصرة، لا الأوابد التي خلَّفها وراءهم أسلافٌ غابرون لا يعنيك التغني بأيامهم التليدة شيئاً. غبتَ طويلاً عن البلاد. شممتَ رائحة البارود عن قرب، رأيتَ أسلحة في أيدي شيب وشبان، شاهدتَ أناساً يقتلون، تقريباً، من أجل لا شيء. كانت الأفكار تصعد وتنحني علي مدار عالم يحاول أن يدلف إلي جنة الأرض من سَمّ الخِياط. هرمت تلك الأشجار الضخمة التي رأيتها عن بُعد، ولما وصلت إليها تقزّمت. تشقق لحاؤها وجفَّ نسغها. كانت الأمطار تهطل بغزارة علي الجانب الآخر من العالم فتتضاعف قتامته وتتطاول أعشابه الشيطانية. لكن المدينة ظلت، في هذه الرحلة اللولبية، مطبوعة، بطبوغرافيتها البسيطة في ذهنك: "وسط البلد" الذي يربط العاصمة بمقاطعات الزيت واللبن والغبار وينقل إلي جنباتها بريد الدم والأعصاب، والتلال التي تتقابل في ترويدة الخبز والشاي.

لم تصدق، يوماً، أنَّ للمسمَّيات نصيباً من أسمائها (وإلا لما شَقِيَت جبالٌ بأسرها) ناهيك أن تكون مسؤولةً عن أقدارٍ تصنعها الصدفةُ وتنساها، مثلما لا تحمِّل هذه التلة وزرَ حجارةٍ بودلت بعملةٍ فاسدة. لكنَّ الأسماء في هذي النواحي تعني شيئاً، كذلك ينشط مقتفو الأثر في تعقّب المصائر الضالة.
أنت لم تأمَلْ شيئاً من هذا النُزل الذي يصلح اسمه عنواناً مثالياً لكتاب الرحالة الأجنبي الذي رأيته هناك، ولا فكَّرتَ وأنت تصعد إلي غرفتك علي سلمٍ حجريٍّ أبيضَ أن ينبضَ تحت الشرشف شيءٌ آخرُ سوي جسدك الذي أنهكه الترحال. حسنتُك الوحيدةُ التي تكافأ عليها أيها المهاجرُ الذي يحلُّ ضيفاً علي ذاكرته أنك تؤمن بالصدفة. إنها رمية النرد التي طالما انتظرْتَ أن تُسَوِّي حسابك مع وعودٍ كلما اقتربَت طلعَتْ خُلَّباً. غير أنك تفاءلت بالجاز، بتلك الحشرجات الطويلة، المتقطعة، في شرفةٍ مطلَّةٍ علي مدينةٍ تنقشُ اسم الجلالة، بامتنانٍ كاذبٍ، علي أنصابها الحجرية. الأمرُ الوحيد الذي فعلته لاستدراج الصدفة العنيدة تلك اللمسة العارضة، قل الماكرة، علي كتف المغنية القادمة من المدرج الكبير فيما ظلت الأغنية التي تتندر علي حبٍّ ضائعٍ في الاسكندرية تُرسِّبُ أكثر من احتمالٍ في قرارة الكأس. جازٌ في مفازة الخبز والشاي وأقنعةٌ تخفي عيوناً تصطادُ العلامات في مهدها. لكن الوردة التي تركَتْها علي الطاولة يدٌ عابرةٌ هي التي أوصلت بريد الخفقات.

تعود إلي القصر مرةً أخري، إلي تلك المتاهة الفريسكية التي صمدَتْ في قلب الصحراء بضربة حظ، فالمارون هنا يتركون، عادة، أثراً فوق أثر أو يستخدمونه لشؤونهم اليومية. "عمرة" محظوظ أكثر من سواه، فلم يضربه، علي الأقل، زلزال مدمر، وإن كان الرعاة والجند أفرطوا في شرب شاي ثقيل بين ردهاته. تري هناك آثارياً يخبرك حكايات أكثر مما يخبرك معلومات ووقائع، تنتبه وأنت تغادر إلي الشبَه الغريب بينك وبينه، لولا سواد شعره الفاحم والحَوَل الخفيف في عينه اليمني.

إنه ليس قلعة. تلك، علي الأغلب، جارته ذات الكتلة الحجرية المربعة. تصميمه ومرافقُه الداخلية تعطيه شكل حمام، رغم أن مظهره الخارجي لا يعكس ما يمكن توقعه في الداخل. إنه ذو شكل قُببيّ، محرابيّ بسيط، بينما داخله يشع بالفريسكو الملون الذي قد يكون الأول من نوعه في الإسلام. كل جدرانه وقببه مزينة بالرسومات، وهي ليست أية رسومات. إنها، مرة، تعكس حال القوة والغلبة، ومرة أخري حال الرغد المادي والمشاغل الدنيوية المفرطة في حسيتها. المثال الأول تلك اللوحة التي تراها وأنت تدلف إلي ردهة القصر وتصور خليفة أو أميراً (هل هو الوليد باني القصر، أم أخوه سليمان؟) جالساً علي عرشه تحيط به حاشيته، فيما علي الجدار الجنوبي هناك لوحة الملوك الستة. المثال الثاني للرغد والرفاه والمتعة. إنها الأعمال التي تعكس طابعاً "أبيقورياً"، مذهباً قائماً علي اللذة الحسيّة: الخمر، النساء، الرقص. نساء عاريات مستلقيات في لوحات "الفريسكو" تعكس مشاهد قصر روماني، ولكن بين هاته النساء هناك واحدة عارية ما فوق الجذع ذات مقاييس في الرسم تكاد تنتمي إلي زماننا. تلك ستتوقف أمامها طويلاً وستري حلماً أو عِلْماً (ذلك الالتباس الذي لم تفلح، قط، في حله) ظل يتكرر. برهانُه واضح: بللٌ بين الساقين.

الآن، صار القصر المتواري، قروناً، عن الأنظار تحت حدقاتٍ فضوليةٍ وكاميرات تبثُّ علي مدار الساعة. كان في برّية بعيدة عن جَلبة المدن وعوادم السيارات وعلب السجائر والتشيبس والببسي كولا. لكنه لم يعد كذلك. شُقّتْ بالقرب منه طريق تجارية ذات اتجاهين عريضين تعبرهما، بلا توقف تقريباً، تريلات طويلة في طريقها من الحدود الدولية وإليها. هناك تقع الصحراء العظيمة التي تفصلنا عن المدن الحديثة التي نهضت، فجأة، علي جوانب آبار الزيت الأسود. من قبل لم تكن هذه الطريق الدولية موجودة. لم تكن بالقرب من القصر تجمعات سكنية تطير نفاياتها مع الريح إلي محيطه المتلفع بصمت دهورٍ مدحورة. ترددتُ إلي القصر كثيراً في السنين الأخيرة، طالباً في معهد الآثار الملكي ومختصاً في الأوابد الصحراوية، وأخيراً كممسوسٍ وقع في غرام المستحمات، أو بالأحري، في واحدة بعينها.
عرفتُ القصر الذي يقع بالقرب من مضاربنا، أنا الذي ينتمي إلي سلالة من البدو انقرضت بفعل الاستيطان وتبدل الأحوال، قبل أن تتقاطر أفواج السياح الأجانب للوقوف علي معجزته المتوارية عن الانظار نحو ثلاثة عشر قرناً. والدي، توفي في سن تقارب سني الآن. وهذا نذير سوء، فقد سمعت، مرة، من يقول إن الأشخاص يموتون كما يموت ذووهم. لكن أبي الذي عرف القصر قبلي لم يكن آثارياً ولا دارساً للتاريخ. كان له شرف العمل، بيديه المعروقتين وعينيه المحدقتين بفضول عجيب، مع البروفيسور "مارتين ألماغرو" وفهم منه، بلغة لا تحتاج إلي كلمات، بعضاً من أسرار هذا القصر، ولا أستبعد أن يكون البروفيسور الإسباني قد أنصت، بدوره، إلي تهويمات أبي. ربما يتوجب عليَّ القول إن والدي لم ينل حظاً يُذكر من العلم. لكنه كان راوي حكايات لم أعرف إن كانت حقيقية أم مختلقة. لا أسيء إلي ذكراه لو قلت إنه كان مشوشاً. يتلفظ، أحياناً، بتهويمات ومزاعم لم يؤيدها، في محيطه، أحد. كما أنه لم يعرف، كما أحسب، الاطمئنان الذي كان يلوح علي أقرانه المكتفين بما هم عليه. كان يبدو لي أنه أراد أن يكون ما لم يستطع أن يكونه: رحالة، مثلاً، حارس فنار، أو مراقب سدود. عائلته المتكاثرة قيدته في أرض لم يبرحها، وليس عندنا بحر ليكون حارس فنار، ولا مياه لتحبس وراء سدّ. هكذا كانت حكاياته عن القصر وغيره من أوابد، لم أتحقق من وجودها، ونساء يطلعن من زبد البحر وزرقته، تهويمات أو أحلاماً طالما أثارت انقباض أمي وضحكات إخوتي المستترة. لم أقل له هذا يوماً. فقد كان يمتلك، كما يقولون، حساسية شاعر. بين سبعة إخوة وأخوات كنت ابنه الأثير. لأني كنت، ببساطة، مستمعه العائلي الوحيد. قد يكون هناك سبب آخر لم أدركه إلاَّ متأخراً: شبهي به. قدرتي علي السرحان والعيش في مكانين مختلفين في وقت واحد.
جلتُ في ردهات القصر _ الحمام كثيراً. أمعنتُ النظر طويلاً في ما رأته عينا "الأمير" الذي يُنسب إليه القصر. تلمستَ، بتمهلٍ واستغراقٍ، مواقع استرخاء نسائه الروميات، بيضاوات في خَدَرِ الضحي (وهذا اقتباس من شاعر نسيتَ اسمه). درتُ. مفتوناً درتُ، في متاهته التي يضاعفها في خيالي "فريسكو" الطراد والولائم الباخوسية والنسوة الطالعات من بخار حماماتٍ تفوح بعطر الخزامي أو ماء الزهر. كنتُ أمشي. مسرنماً أمشي. ألعب مع نفسي لعبة "الغميضة". أضيعني وأجدني. القصر صغير، لكن تشابه ردهاته وكثافة رسوماته الباقي منها أو تلك التي يعيد خيالي رسمها مرة أخري، تجعله دائرياً، لا نهاية له. الرأس دائري، وما في داخله دائري. الجوع، الظمأ، الرغبة، النهارات، الليالي، القمر، نجمة الصبح، وربما الأب والابن.
بالصدفة وجدت تلك الورقة. في واحدة من ترنحاتي المسهبة وجدتها. لم تكن من البردي. ولا هي جلد غزال. إنها ورقة مُسَطَّرة، مُجَعَّدة، تنتمي الي زمننا المسطّر والمجعّد. في شقٍّ يكاد لا يُري. بالضبط، تحت تلك العارية فوق الجذع، تلك التي لها نهدان كرُمّان "جلعاد" في تشرين، التي تنظر إليَّ، أينما كنتُ، بعينين مدورتين. الورقة مدسوسةً بحرص. الورقة التي سيستعير حكايتها المدورة شاعرٌ سمعها مني ذات مساءٍ في مقهي يتفوَّحُ برائحة شايٍّ مُنعنعٍ وينسبها، بلا وجلٍ، إلي نفسه. قلت إن أبي لم ينل حظاً من العلم. وكنت أقصد أنه لم يكن يقرأ أو يكتب. لكن ذلك لم يكن صحيحاً، في الأقل، بعد أن وقعت تلك الورقة في يدي. الورقة _ الرسالة موجهة إلي. لا بدَّ أن تكون كذلك. فسائر إخوتي انشغلوا في أمور ملموسة ونجحوا، بتفاوتٍ، فيها، بينما ظللتُ أغالبَ ميلاً إلي الأحلام والسَّرَحان لم يفرح والدي بهما، أول الأمر، ثم ما لبث أن استسلم،علي ما يبدو، لفكرة توارث القسمات والطول والحلاقة من الخد الأيسر والسرَحان. بسبب كثافتها بدت لي الرسالة كقصيدة أو كنبوءة مشؤومة. لم أكن أنا، فقط، من تتراءي له المستحمة العارية فوق الجذع. من تتدلي أمام فمه وأنفه رمانتان كرمان "جلعاد" في تشرين. كان يحدث ذلك لأبي. كانت تنزل، في ليالي سهره الطويلة، من الجدار وتخطر أمامه برائحة الخزامي مرة، برائحة ماء الزهر مرة أخري، عارية فوق الجذع، يستر نصفها الأسفل نسيجٌ موصليٌّ مُهفهفٌ. لن آتي علي محتوي الورقة _ الرسالة. فقد تجدونها، مُحَرَّفة قليلاً، في مدونة ذلك الشاعر المنتحل، لكن خلاصتها المزعجة، خلاصتها التي أظهرت، لمحاً، ما مرَّ من حياتي (ولا أعلم كم تخترق ستر أيامي المقبلة) يمكن إجمالها في هذه الأبيات الثلاثة التي لا تتبعُ وزناً معلوماً: سيكون لك ما كان لي، ستمشي الخطي التي كُتِبَتْ، ومثلي لن تصل!
يُمكنكَ أن تقول للحجر في عينه إنه حجر، وللشجرة بلا تردد شجرة وللرجل المائل إنه أعوج ولكنك لا تعرف كيف تقول ذلك للظل المراوغ.
هناك أُناس مجهولون دائماً.هذا هو وفاء الحياة المعلوم لرافعي نهاراتها علي أكتافٍ مائلةٍ، أو لعله سأمها من التكرار والتشابه. معبِّدو الطرق، حرس الحدود، عمال المناجم، سعاة البريد، بناة القلاع، مُقّبلو زوجاتهم قبل الذهاب الي الحرب، كتبة المواثيق والعقود، مسافرو الليالي، إلخ إلخ. لا يمكن تَذَكُّر كل السابقين. لم توجد، بعدُ، ذاكرة كذلك، ولا ضرورة لها. شخص واحد، كما قال مهرطق كبير، يُذكِّر بكل الأشخاص. وجه واحد قد يختصر كل الوجوه. لكن البعض يعوِّل علي الكلمات في تبيان الفروق. فهي تبقي، أحياناً، بعد أن يذهب الناس وينهار الحجر أو يتفتت من تلقاء ذاته تحت وطأة جفاف مخيف. للحجر عمر أيضاً وطاقة تحمّل. حتي الحجر يمكن أن يئن. بوسع الجفاف، هنا، أن يستمر عقوداً. ثمة، طبعاً، من يتذكر أمطاراً وينابيع. هؤلاء ليسوا كثرة. وهم مسنون بلا ريب. قد تكون تلك هي الذكري السعيدة في حياتهم. ذكري محفورة في أذهانهم علي شكل أخاديد. هناك، كالمعتاد، من يشكك بحكايات الطاعنين عن أمطار وسيول هادرة وينابيع. ذاكرة الطاعنين لا تعتبر، في هذه الأنحاء، دليلاً دامغاً. فالجميع يعرف أنها غربال. براهينهم الوحيدة تلك الأخاديد العميقة والمجاري المحصبة. لكنك لست مهتماً، الآن، بالجفاف. فذلك لا جديد فيه. هناك رحلة تركت خيوطاً فالتة في أنوال رأسك. ثمة قلعة مستطيلة تقع علي قمة جبل حيث يبلغ الجفاف أوجَهُ تتراقص في سراب ذاكرتك. لا تعرف أين ومتي رأيتها. ربما في الصحراء. لكن ليس في الصحراء جبالٌ كهذه. قد تكون علي الجانب الغربي من هذه الطريق المندثرة. لِمَ لا تكون في رحلة مبكرة إلي الجنوب؟ وتلك رحلة حدثت بمعية "الشافعيّ" في زمن اقتسام الرغيف والحكاية وكباية الشاي. تتذكر أبراجها. أحجارها الكبيرة القطع. التلة العالية التي صعدتها متقطع الأنفاس. الجرف الحاد. بقايا ربيع سريع يهرب الي الأسفل. تبلغه، فقط، أظلاف الماعز المتقافز. القلعة كبيرة. متاهة من الأروقة والحُجرات المربَّعة والسراديب. طوابق متراكبة. قِلة يعرفون كيف يؤدي بعضها إلي بعض. ثمة رطوبة قوية تفوح من الحجر والتراب. ضوء وعتمة كارافاجيو (تمكنتَ من هذا الوصف لاحقاً). للقلعة، حسب ما بقي من صورتها الرجرجة في ذاكرتك، مدخل واحد ولكن هناك من يقول إن أحداً لم يعرف عدد مداخلها السرية. وهذا، علي الأغلب، مجرد زعم شعبيٍّ متجذرٍ في الأقاليم. دخلتَ من بوابة خشبية كبيرة. لم تكن متداعية كما يفترض عمرها. إنها في حالة جيدة. خشبها مكوَّنٌ من ألواح عريضة مشققة غير أنه متين، تبرز منه رؤوس مسامير غليظة صدئة. هناك مسافة بين صفوف المسامير المتناظرة. تمكن ملاحظة بقايا زخارف هندسية بسيطة: دوائر، مستطيلات، معينات. واضح أنهم جربوا أشكالا هندسية أولي. عراء داخلي. صمت أو صدي ضعيف مبهم، لكن يمكن استنطاقه لو شئتَ. كان هناك شخص بجانبك. لعله "الشافعي". سمعته يتحدث كما لو أنه يبوح سراً. فهنا لا يزالون يتحدثون عن مذبحة. (لِمَ تقرن القلاع بالمذابح والمآدب المسمومة؟). ثمة أسماء أجنبية. لكن اسماً فرنسيّاً أكثر تواتراً من سواه. مرة يسمي "أرناط" ومرة "رينالد دو شاتيون". كانت هناك صلبان كبيرة، لكنها لم تعد موجودة. الرموز هنا تتغير شأنها في أي مكان آخر. الصوت الذي كان بجانبك يقول: لقد لاحقوه إلي الصحراء بعد فراره فقبضوا عليه وحبسوه في سرداب حتي مات جوعاً. هذا هو السرداب. كما هو متوقع لا اسم لباني القلعة. مصمم متاهتها الحجرية. هناك أسماء الأمراء الذين ملكوها ثم فقدوها. هناك أديان توالت. آلهة ورسل متعاقبون. الرحالة الذي قطع نحو خمسة وعشرين ألف كيلو متر علي قدميه ذكرها بين عجائب سفره الطويل وسماها "قلعة الغراب". ذلك اسم مشؤوم، هنا، كما تعرف، لكن "الشافعي" سماها "قلعة الكرك". يمكن الذهاب بعيداً في سلسلة النسب. أبعد من اسم الفرنسي الذي روَّع النواحي، ومَنْ حُبِسَ في سرادبٍ حتي مات جوعاً (وقيل إنه أكل جيفةً قبل أن يلفظ أنفاسه)، وأبعد من محررها. للنسب البعيد اسم إله مقدود من جبل لم ينج هو، أيضاً، من آلة الأيام.
تتذكّرُ وشماً علي نحاسٍ مؤكسدٍ، أو ربما علي كاحلٍ مغبرٍّ، كان يشبه فراشةً زرقاء. رأيتَ يوماً فراشةً زرقاء ترفّرف علي منحدرٍ خطرٍ، قريباً من شقٍّ أو هاويةٍ حيث تثوي رائحةٌ عضويةٌ مُبيَّتة. رَقَصَ الوشمُ علي نحاسه المؤكسد، فتحركت في ذاكرتكَ النقطة التي تودع فيها الرائحةُ سرَّها. لم تكن نقطة بل مثلثاً غير متساوي الأضلاع بل صدعاً بنفسجياً قاتماً، بل خاتماً في صندوق. أمعنَ الكاحلُ النحاسيُّ في الرقص. تصاعد الغبارُ مع حماسةِ غناءٍ حلقيٍّ مبحوحٍ، خفقَ حريرٌ أسود علي فلقة قمر. تصاعدت الرائحة، تأججتْ، ولكنها لم تبُحْ بمكنونها. ظلت مثل الطلسم والحلم وغموض الحيوان.
يمكن التلفظ بكلمات مثل: جبال. قلاع معزولة. مضارب مبعثرة. ربيع سريع. قيعان ماء. حجارة كحلية. شابات لهن رائحة صابون معطر. غزوات في ذاكرة مسنين. رعاةُ غبشٍ رنَّتْ أجراسُ أكباشهم في القصائد والغناء، ريح تعوي ككلاب شرسة، لكن يصعب التلفظ بكلمة: رَمْل. إنها لا تنعقد علي اللسان، مثلما يصعب الاحتفاظ بها في اليد. الرَّمْل الذي يتسرَّب من اليد مثل تسرّب الزمن (استعارة قُتِلت استخداماً ولكنها، عجباً، ما زالت حيَّة) من أعمارٍ مُهَروِلة. الرمل الذي يتسرب، ينفلت، يتسلل، كما لو أنه يقاوم الجمع والتماسك والاستقرار، وسيط فردي. أصله الوحدة. التجاور. التساكن. من دون اندماج. بالقسر تستطيع. مثلما تفعل ذلك مع البدو. الرمل بدوي. ليس هناك أكثر بداوة من الرمل. أن تخوض في الرمل ليس كما تمشي علي الأرض. الرمل ليس أرضاً. الأرض يابسة، الرمل كلا. إنه، هنا، وسم البداوة المتواري وراء جبال تهزّها الرّيح، تجوفها، ولكن لا تزحزحها. يقال إن للجبال جذوراً بعيدة غائرة، يسميها البعض أوتاداً. هذا الوادي قطعة تكاد تكون منقولة من وراء الحدود. كتلة مفاجئة مغلقة علي نفسها. شقفة قمر سقطت في ليلة هاربة. جرها الجنُّ أو العمالقة الذين انقرضوا ورموها هنا. لعلها
العلامة المرفرفة علي اقترابك من التيه الحقيقي الذي يخبئه الجبل. الجبل لا يعطي فكرة مسبقة عما خلفه. عندما تقول الجبل تقصد عائلة من الجبال. البعض يقول إنها سبعة. هذا رقم سهل. متواتر. سحري. لكنها، علي ما راح يسميها لك موسيقيٌّ مهووسٌ بالوادي، بدت أكثر. الجبالُ هي حارسة الوادي الذي لا تراه، وربما لا تتوقعه وأنت قادم من الغرب أو الشمال. تكوينات وثنية، أفواه ضخمة فاغرة. ثم الرمال التي تتقلب، بلا استقرار، بين الأحمر والذهبي، فالمياه المفاجئة التي تنزّ من قلب حجر صلد.. وأخيراً صمت مُرصَّع لا يقطعه إلاّ خفق جناح طائر، أو هدير سيارة ذات دفعٍ رباعيٍّ يُذكّر أن الرمل لم يعد متروكاً لشأنه، وأن عزلته لا تستعيد زمامها إلاَّ عندما ينزوي العابرون.
كُتل من الغرانيت والصَّخر الرَّملي. رياحٌ تضرب ثم ترتدّ وتتسلل. غروب برتقالي. فوهات مفتوحة كصرخة رعب أو ولادة. أطواق نجاة. صدوع طويلة. شقوق لحمية. روائح جماع.
ظلال مراوغة. فلورا ضئيلة مبعثرة، وأعشاب لمداواة القروح.
الرمال التي تدخل إليها من بين جبال، اتخذت عند أشهَرِ عابريها، في العصر الحديث، اسمَ "أعمدة الحكمة السبعة". بين أضلاعها الصخرية توجد الصحراء الحقيقية الوحيدة في البلاد. إن كانت الصحراء تعني رملاً، فهذا هو الرمل. لكن للرمل، هنا، اسم وتاريخ. تناقض! فليس للرمل، عادةً، اسم وتاريخ. تاريخ الرمل واسمه هو الرمل نفسه. كثبان وهضاب صغيرة قابلة للتغير والترحال. عرعر. رمث. غضا. رتم. طلح. سرخسيات. عبوات ماء بلاستكية مشققة. فردة حذاء رياضي ماركة "نايك" مقلوبة. مشبك شعر حديدي رفيع. بقع زيت قاتمة. أشياء هشة كخطي العابرين. كأشباح الظل. العزلة ليست وصفة جاهزة للاستشفاء. الظمأ ليس فكرة. التيه يعدك بعلامات مؤكدة. ستقول: كيف أعود أدراجي؟ تكوينات نحتية تصعد من سراب متراقص. حتٌّ وتعريةٌ لا يتوقفان. أيدٍ تركتْ، في عُبورها الحائر، أثراً أيضاً. كتاباتٌ ورسومٌ علي صفحة الصخور يقال إنها تنتمي إلي "ثمود"، ثم كتابات توحيدية لاحقة قد تكون لطرد لعنة أحاقت بقومٍ غابرين. ذِكْرُ إلهٍ أوحدَ، اجتثَّ، بكلمةٍ وضربة سيفٍ، الآلهة الإناث والآلهة الذكور، يتردَّدُ بخطٍ لم يضع زخارفه الألفية بعدُ.
هناك من يتوقف، تحت خطم "الخزعلي" المكعَّب، أمام ذكري أخري. أحدث عهداً، بكثيرٍ، من كتابات "ثمود". ذكري حملتها السينما إلي بقاع شتي في العالم: ثورة في الصحراء. أمراء وبدو وإنكليز ينسفون سكة حديد ويغيرون علي قلاع معزولة تنوخ تحت قيظ ظهيرات حارقة. ضباط أتراك يخبئون ذهباً "عصملياً" علي جانبي طريق لن يعودوا إليها مرة أخري. وعودٌ تُقْطَع. خارطة تتفكك. وعود تُنْكَث. خارطة أخري مخبأة في أدرج عواصمِ امبراطوريةٍ بعيدةٍ تنفردُ علي الأرض. الأمرُ يتعلق، لمن لا يعرف، بإقامة ضابط انكليزي غامض بين متمردين علي سلطة "الباب العالي" المتداعية وسط هذه الجبال، بالقرب من نبعٍ صخريٍّ سخيٍّ. لم تكن تلك الإقامة أكثرَ من وقفة تكتيكية. عبور إلي مدن وتجمعات وأعلام تُرفع علي مقرات حكومية فرَّ مديروها العموميون. لِمَ نري شعلة العبور الليلي السريع ولا نسمع أصوات الذين أقاموا طويلاً بين أضلاع الجبل؟ ولكن ها هو صوت معزول يصل. فهنا سمع الانكليزي الغامض، وهو يستحمُّ بماءٍ بلوريٍّ ثمينٍ، رجلاً يقول "المحبَّة من الله، لله، في الله"، فاستغرب أن يكون "الساميُّ" قادراً علي هذا العناق العاشق. اللا مشروط. ف "الساميّون"، يقول لنفسه، صدّوا الباب أمام تعاليم المحبَّة فسافرتْ إلي الجهة الأخري من البحر. هل زحزح قول البدويّ الأشعث عن المحبَّة كتلة الأفكار الجاهزة في رأس الإنكليزي الغامض؟ ربما قليلاً. لكنَّ ذلك الإنكليزي الذي فتنه الوادي، الذي وقع، علي ما تضمر كلماته، في غرام أجساد ضامرة وحدقات واسعة، لن يعرف أن تلك المياه التي استحمَّ بها ستسمي لاحقاً "عين لورنس".
الأمر، بكل بساطة، يتعلق ب "خطأ" أو مزحة. كنت ترتدي، بعد مغادرتك بلادك، قناعاً لم يعرف سوي اثنين أو ثلاثة، في المدينة التي لجأت إليها، أنه قناع وليس وجهك الحقيقي. كان القناع طبيعياً لدرجة يصعب الشك فيه: وجه بلا علامات فارقة. ليس وجه إله، كما فعل سابقون، ولا وجه نمر أو أسد من الصور المتحركة، كما يفعل صبية مشاكسون راهنون، بل وجهٌ عاديٌّ ممسوح. عندما قدمت باكورتك الشعرية إلي شاعر كبير ليقرأها وربما ليدفعها، بشفاعة اسمه، إلي دار نشر، لم يشك الشاعر الكبير، علي ما يبدو، في وجهك. اعتبرك بلا قناع ربما. قرأ تلك الكلمات التي ينهل بعضها من صحراء وبدو وصدمة ساذجة تسمي المدينة، فقال: هذا البدوي القادم من قبيلة....
من "لورنس"، من "ديفيد لين" أو من معرفته بقبائل بلادك البعيدة (من الصعب الجزم) جاء ذلك الوصف الذي خلعه عليك الشاعر الكبير فصار قناعاً فوق قناع. انطبع "الخطأ" علي غلاف. شاع. صدَّقه آخرون. أعجبك القناع الجديد. فذلك زمن الكرنفال الكبير في مدينة "الوجوه البيضاء" (وهذا عنوان رواية اشتهرت آنذاك). جاءك، ذات يوم، شاب عابر في تلك المدينة. تمعَّن فيك قليلاً، فقال الشاب حازراً ريبتك التي كانت، يومذاك، مذهباً: لا تطل التحديق فهذا هو وجهي الحقيقي. شدَّ خدَّه ليريك أنه من لحم وليس قناعاً. لكن الشاب العابر لم يترك اللحظة المتوترة لمزيد من الشك والتساؤل فأضاف سريعاً: إنني هنا لسببٍ غير سببك. فأنا عابر في هذه المدينة ولا أحتاج قناعاً وهذا هو الدليل. أخرجَ من حقيبة يده الجلدية كتاباً. وضعه علي الطاولة أمامه. كان باكورتك المطبوع علي غلافها الأخير اسم قبيلة. كان الشاب عابراً في المدينة التي يلعلع فيها كلام ورصاص طائشان وظنَّ أنك قريبه في مدينة "الوجوه البيضاء". مدينة الغرباء. سألك إلي أيّ فرع تنتمي. فقلت له، بشيء من الحرج، إنك لست من قبيلته، وأرجعت الخطأ إلي شاعر كبير لم يتحرَّ الدقة، أو أراد أن يلعب مع ألقاب لا يُلعبُ معها بخفَّةٍ كهذه. خاب ظنّ الشاب الذي اعتقد أنه وجد قريباً له في مدينة الغرباء، أو لعله لم يصدقك. فقد كان قناعُك مُقنعاً. تذكُرُ أن الشاب ربَّتَ، قبل مغادرته، علي صفحة الكتاب الأخيرة حيث نقش اسم قبيلته وقال لك: لا يهم من تكون، لماذا أنت هنا. تعال إلي زيارتي عندما تعود! ثم أدركتَ، ولكن بعد أن انصرف الشاب العابر، لِمَ أخطأ الشاعر الكبير الذي قدَّمك إلي مجمع آلهة تلك الفترة.
أنت الآن تدلف إلي خمسيناتك. لقد مرت ثلاثون سنة علي اليوم الذي غادرتَ فيه بلادك. ها أنت تقرر زيارة ديار الشاب الذي جاءك، ذات يوم، حاملاً باكورتك الشعرية في مدينة "الوجوه البيضاء". تسأل عنه في البلدة التي سماها لك. فيقول لك رجل بدا، لِعَجَبك، أنه يعرف تلك الحكاية: هل صدَّقت فعلاً حكاية البحث عن ابن قبيلة في تلك المدينة؟ لم تفهم. يوضِّح الرجل: ذلك الشاب الذي جاءك حاملاً باكورتك الشعرية لم يكن عابراً بريئاً. أنت صدقته. لكنه جاء ليراك أنت لا ليبحث عن ابن قبيلته الذي أصبح شاعراً. فهو يعرف أنك لست من قبيلته، لقد أرسلوه خصيصاً ليراك. تساءلْتَ مندهشاً: أرسلوه ليراني؟ أجابك الرجل الذي بدا، لعجبك، أنه يعرف الحكاية: هل ظننتَ أن قناعك انطلي عليهم؟ ثم بعد برهة صمت قال مبتسماً: يبدو أنك لم تعرفني رغم أنني أعرف الحكاية. لم تفهم مغزي كلام محدثك إلاَّ عندما شدَّ الرجل، الذي كان يعرف الحكاية، خدَّه.
مقاطع من عمل جديد لأمجد ناصر بعنوان "فرصة ثانية".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.