د.أحمد أبو مطر يوم الجمعة الموافق الرابع من يناير لعام 2010 سوف يظلّ يوما مهما في التاريخ العربي المعاصر، وهو اليوم الذي قام الشاب التونسي "محمد البوعزيزي" إبن السادسة والعشرين من عمره آنذاك بإشعال النار في جسده أمام مقر "ولاية سيدي بوزيد" التونسية رفضا منه واحتجاجا على قيام سلطات البلدية بمصادرة عربة خشبية كان يبيع عليها الخضراوات والفواكه لجمع مايكفي الحد الأدني لحياته لأنّه عاطل عن العمل. ورافق ذلك رفض البلدية قبول شكوى منه إزاء هذا العمل، وقامت شرطية بصفعه على وجهه أمام المتواجدين من الجمهور صارخة فيه " إرحل ". ولم يخذلها محمد بوعزيزي بل استجاب لطلبها وأضرم النار في جسده ليرحل بعد ثمانية عشر يوما في الرابع من يناير 2011 . ورحل زين الهاربين بن علي أيضا، فقد امتدت النار من جسد محمد بوعزيزي إلى غالبية نسيج المجتمع التونسي مشعلىة نار الغضب في وجه النظام الديكتاتوري الفاسد الذي كان يراسه رأس الفساد والقمع زين العابدين بن علي الذي كان مستمرا في التمسك بالكرسي والسلطة والنهب والقمع طوال 23 عاما، واستمرت نار ثورة الشعب التونسي رافعة في وجهه نفس مطلب الشرطية التونسية لمحمد بوعزيزي " إرحل "، وقد ماطل زين العابدين شهرا كاملا إلا أن الشعب التونسي لم تخدعه تلك المماطلات واستمر في ثورة " إرحل " إلى أن رحل وهرب رأس النظام إلى المملكة السعودية في الرابع عشر من يناير 2011 أي عشرة أيام بعد رحيل محمد بوعزيزي ، وبذلك استحق هذا الرئيس الإنقلابي الإسم الجديد في عالم الرؤساء والحكام العرب " زين الهاربين بن علي ". وامتدت نار محمد بوعزيزي الرمزيه في أوساط الشباب العرب المحتجين الرافضين لأوضاع بلادهم البائسة المزرية التي لا تليق بمزرعة حيوانات، وتقليدا لناره تشير بعض الإحصائيات إلى قيام حوالي خمسين شابا عربية بحرق أنفسهم ، ولكن لم تشتهرمن بين هذه الضحايا إلا نار بوعزيزي الذي أقيم له تمثال تذكاري في العاصمة الفرنسية باريس تخليدا له ولخطوته التي أشعلت نار ما أطلق عليه " الربيع العربي ". ربيع..أم خريف وموت وسيول من دم؟ أعتقد أنّ الشاب التونسي بوعزيزي لم يكن يعرف أو يفكر أنّ النار التي التهمت جسده سوف تنتقل للعديد من العواصم العربية، أولها القاهرة العاصمة المصرية التي استجاب فيها الرئيس حسني مبارك بعد مراوغات عديدة إلى الرحيل كما أراد ثوار ميدان التحرير، ويتم القبض عليه وولديه علاء وجمال ليودعوا السجن، وما تبع ذلك من تطورات سارّة وغير سارّة يعرفها الجميع لا داعي لتكرارها الممل، خاصة الإنقسام مصريا وعربيا حول الموقف من حكم عام واحد لجماعة الإخوان المسلمين المصرية التي أوصلت الإنتخابات البرلمانية رئيسا منها لسدّة الرئاسة المصرية هو الرئيس محمد مرسي، ويستمر الإنقسام مصريا وعربيا حول ما قام به القائد العام للقوات المسلحة المصرية آنذاك الفريق عبد الفتاح السيسي يوم الثالث من يوليو 2013 بعزل الرئيس محمد مرسي وتكليف رئيس المحمة الدستورية عدلي منصور برئاسة مصر ثم آلت الرئاسة للفريق عبد الفتاح السيسي. فالبعض حتى الآن يرى أنّ ما قام به الفريق السيسي انقلابا على الشرعية والبعض الآخر يعتبره استجابة للمظاهرات الشعبية التي طالبت بتنحي الرئيس مرسي. ومنذ ذلك اليوم لم تشهد مصر استقرارا وأمنا واضحا خاصة العمليات ضد الجيش والأمن المصري في سيناء والعديد من شوارع القاهرة ، و كان أشهرها عملية اغتيال النائب العام المصري هشام بركات في أحد شوارع القاهرة في التاسع والعشرين من يونيو 2015 . وقد أعقب العملية المختلف على تسميتها التي قام بها الفريق عبد الفتاح السيسي حملة اعتقالات طالت المئات من قيادات وكوادر جماعة الإخوان المسلمين المصرية وأحكام بالسجن والإعدام طالت المئات أيضا، وما زالت مئات القضايا أمام القضاء. أما في ليبيا فابكي واندب بلا حرج، فقد اندلعت ثورة الشعب الليبي ضد الديكتاتور مخرّب ليبيا القذافي الذي حكم بالقوة والدم طوال ما يزيد على أربعين عاما إلى درجة أنّه أطلق على نفسه صفة "عميد الحكام العرب". ماطل طويلا وهرب من مدينة إلى مدينة وحارب الثوار بالقوات التي والته، وتدخل التحالف الدولي بالقصف الجوي لمراكز سيطرته، إلى أنّ جاءته الرصاصة أو القذيفة القاتله في العشرين من أكتوبر 2011 ، ليعم الفرح كافة أرجاء ليبيا خلاصا من هذا الدموي الذي رصد مسيرته التخريبية والدموية يحتاج لمجلدات. وأين هي ليبيا اليوم بعد أربع سنوات من رحيله؟ لم تعد ليبيا دولة أو جمهورية أو مملكة واحدة بل عدة دويلات قبلية أو جهوية لا يجمعها سوى القتل والدم، وكل دويلة أو قبيلة أو جهة تدّعي أنّها الشرعية بما فيها من يطلقون على أنفسهم اسم داعش حيث يمارسون نفس أفعال داعش الشام والعراق الإجرامية، فقد اغتالوا وقتلوا الكثيرين ومن أشهر جرائمهم إعدام 21 قبطيا مسيحيا مصريا في فبراير 2015 ، وما زالت مسيرة الدم والقتل مستمرة بين كل الأطراف بنفس دموية القذافي. أمّا وحش سوريا ..وحش البراميل المتفجرة، فهو مستمر في جرائمه وجرائم والده منذ عام 1970 أي أنّ الوحش الأب والإبن يحكمان سوريا شعبا وينهبانها ثروة منذ 45 عاما، أشدها دموية السنوات الأربع الماضية التي واجه فيها الوحش الإبن الثورة السلمية للشعب السوري التي انطلقت في مارس 2011 بالرصاص والكيماوي والبراميل المتفجرة، ليقتل حتى الآن ما يزيد على 300 ألف سوري ، ويهجّر قرابة خمسة ملايين لاجىء سوري وصلوا كافة القارات ومات منهم المئات برا وبحرا. أمّا العراق فالقتال الطائفي، فقد أصبح علنيا وصريحا لا تخجل منه أية طائفة حيث وصلت التفجيرات والعمليات الانتحارية لداخل المساجد والحسينيات، والقتلى بألاف مؤلفة منذ انسحاب القوات المسلحة الأمريكة في فبراير 2011 . إلى درجة أنّ بعض المواقع الإليكترونية تعتبر الصفة التي تليق بالشعب العراقي هي صفة " شعب على طريق الإنتهاء أو الإختفاء من تعداد الشعوب البشرية". إذن ما هو المتوقع يا بوعزيزي؟ ليس تشاؤما مني بل قراءة للواقع السابق وصفه فالمتوقع القادم هو: _ استمرار هذا السيل الدموي لسنوات قادمة طويلة. _ البدء قريبا بالتقسيم العلني لقيام دويلات متفرقة بدون الحاجة للسيدين سايكس بيكو، فالشعوب العربية نفسها في داخلها ملايين سايكس بيكو. وهذا التقسيم الجديد سيطال سوريا وليبيا والعراق تحديدا. ولتنم يا بوعزيزي بهدوء في قبرك، حيث توجد بارقة أمل من النار التي أحرقتك وهي أنّ شعبك التونسي أثبت انّه أرقى الشعوب العربية في تقدمه وفهمه الديمقراطي لعملية انتقال السلطة، لذلك حتى الآن يصرّ هذا الشعب على تجنب القتل والدم، وأرى عن قناعة أنّ هذه المسيرة الديمقراطية السلمية في تونس الخضراء سوف تستمر طالما فيها رجال ونساء وقيادات إنسانية حضارية عديدة مثل المنصف المرزوقي. www.drabumatar.com