عندما تجد نفسك تجلس فى الصفوف الأولى فى صالة عرض سينمائى على كرسى خشب "مكسر" ويحيط بك تلاميذ المدارس "المزوغين" وأبناء الطبقة العاملة والمتوسطة والمهمشون بعضهم يدخن بشراهة والآخر لايشاهد الفيلم من أساسه لأنه نائم لتشاهد فيلما غالبا من يكون عرض فى الفضائيات أكثر من مائة مرة من، خلال شاشة عرض رديئة وصوت بالكاد مسموع، كل هذا فى ظل جولات لبائعى السميط والسندويتشات والحاجة الساقعة والذى يعلو صوتهم على صوت الفيلم الضعيف فأهلا بك ضيفا فى عالم سينما الترسو. أعتقد أنه باستثناء أبناء الطبقات والمناطق الشعبية فان الأجيال الحالية لايعرف معظمها شيئا عن هذا العالم المستقل بذاته من حيث نوعية الأفلام والأبطال وحتى الجمهور ودار العرض نفسها والتى لاتتخطى فى معظمها كونها ساحة مستديرة تقسيمها لايسمح بأى حال من الأحوال بأن يرى كل الجالسين فيها الفيلم بشكل جيد وغالبا ما تكون شاشة العرض من شدة تهالكها لاتسمح سوى بمشاهدة مشهدين فقط أما الثالث فقد تظهر الصورة مهتزة وبلا ملامح واضحة لأبطال الفيلم وتعمل معظم سينمات الترسو على فترتين الأولى من التاسعة صباحا وحتى الرابعة عصرا والثانية من الخامسة حتى الحادية عشرة مساء وكل فترة يكون العرض فيها مستمرا بسعر تذكرة لايزيد على ثلاثة جنيهات والغريب أنك إذا فكرت أن تذهب الى هناك لمشاهدة هذا العالم ستجد أن معظم جمهور الترسو عندما يقطع تذكرة لايعطى لنفسه ولو لحظة واحدة قبل دخول صالة العرض ليأخذ ولو فكرة بسيطة عن طبيعة الأفلام التى سوف يشاهدها سواء كانت عربية أو أجنبية وعلى حسب رواية أحد العاملين بتلك السينمات فإن معظم جمهور سينما الترسو لايدخل صالة العرض بهدف المشاهدة بقدر ما أنه غالبا ما يكون يعمل موظفا على فترتين بإحدى الهيئات القريبة من السينما وبالتالى تكون السينما مقصده للنوم بدلا من قضاء الوقت فى الشارع وعلى حسب كلام صاحب أحد سينمات الترسو عن سبب عرضه لأفلام التليفزيون نفسه لم يعد يعرضها لأنهم يعرضون الأفلام بعد انتهاء عرضها من سينمات الدرجة الأولى والثانية حتى يشتروها بسعر بسيط وبالتالى وفى ظل السيطرة الكبيرة للتكنولوجيا وعرض الأفلام على الإنترنت بمجرد نزولها الى السوق فانه من الطبيعى جدا أنهم على ما يعرضوا الفيلم يكون عرض فى التليفزيون مائة مرة. ومع ذلك فهناك حقيقة لايمكن إنكارها وهى إن أفلام الترسو نفسها بنجومها ابطالها وعلى مدى تاريخها لها شأن كبير فى أرشيف السينما المصرية وغالبا ما يكون لها تعريف محدد بين منتجيها وهى تلك الأفلام الشعبية البسيطة التى تستطيع أن تخلق خطا واضحا ولغة مشتركة بينها وبين جمهورها وقد تمكنت تلك النوعية من الأفلام والتى ظهرت مع بداية ظهور السينما فى مصر حيث صنف "لاشين" وهو أول فيلم أنتج فى السينما المصرية عام 1938 على أنه فيلم شعبى حيث كانت تدور أحداثه حول فكرة البطل الشعبى الذى ينتصر لمظالم الشعب ومن ثم يتحول لبطل شعبى، ومن هنا فقد استطاعت أفلام الترسو أن ترتبط بشريحة كبيرة من الجمهور خاصة أن لغتها تعبر عن الموروث الشعبى الذى شكل وجدان الشعب المصرى ومن ثم استطاعت أن تعبر عن المكون الفكرى لثقافة الحارة المصرية والتى غالبا ما تبالغ فى انفعالاتها سواء كانت بالحب أو الكره ومن ثم ظهر دائما بطل تلك الأفلام كنموذج للفارس الشعبى المغوار الذى يحاول أن يعيش حياته فى هدوء بعيدا عن المشاكل إلا أن القدر يأبى بذلك ومن ثم يتعرض للظلم والغدر الذى يحوله الى بطل لابد أن ينتصر على الظلم فى النهاية وطبيعى جدا أن تتخلل الأحداث قصة حب وبعض المشاهد الجريئة ولامانع من غناء ورقص حتى تكتمل الخلطة السحرية وبالمناسبة تلك الخلطة لم تتغير مع الزمن فهى نفسها التركيبة التى مازال يستخدمها السبكى فى أفلامه خاصة مع حصانه الرابح دائما محمد رمضان والذى يعد الممثل الوحيد منذ أيام فريد شوقى ومحمود المليجى الذى استطاع أن يعيد أو بمعنى أصح يحيى فكرة سينما الترسو بجمهورها ونوعية أفلامها وبرغم كل الانتقادات التى تعرض لها فى أفلامه إلا أنه لاأحد ينكر أنه يمثل شريحة كبيرة من الجمهور وإلا لما استطاعت أفلامه أن تحقق كل هذا النجاح والإيرادات وهى أيضا نفس التركيبة التى حاول الفنان أحمد السقا تقديمها ولكنه لم يوفق فيها لأنه وقف فى منطقة وسط ما بين الشعبى والكلاسيكى ومن ثم لم يستطع أن يصل لفكرة البطل الشعبى فى عيون جمهور الترسو. وعلق الكاتب والسيناريست أحمد عبدالله مؤلف مثل فيلمى كباريه والفرح وهما فيلمان تعرضا لأدق تفاصيل الحارة الشعبية على فكرة افلام الترسو قائلا: سينما الترسو تعد من أهم الأفلام الموجودة فى كل العالم وليس عندنا فى مصر فقط وخاصة الهند حيث تعد الدولة الأولى فى العالم التى تقوم كل أفكار أفلامها تقريبا على نموذج الإنسان البسيط الذى تحوله الظروف والظلم الذى يتعرض له الى بطل شعبى مغوار يداعب أحلام الشباب بأن يصبحوا مثله، وفى مصر يعد النجم الكبير ملك الترسو "فريد شوقى" هو فتوة الناس الغلابة وربما كان الوحيد فى تاريخ السينما الذى استطاع أن يعبر عن أحلام المكبوتين والمهمشين والبسطاء فقد كان يقدم نموذج الرجل الشجاع المنقذ طيب القلب نصير المظلومين ومن ثم استطاع طوال حياته أن يظل الحلم الذى وجد فيه جمهور الترسو نفسه وأكثر من عبر عنهم وتحدث بلغتهم وعاش حياتهم وأحلامهم البسيطة وربما كان هذا هو السبب الأول الذى جعله متربعا على عرش النجومية فى السينما والتليفزيون لآخر يوم فى عمره حتى عندما تقدم فى السن جاءت أفلامه مثل "بالوالدين إحسانا "و"ضاع العمر يا ولدى" و"قضية عم أحمد" لتعبر عن البطل الشعبى الأب الذى لم يفرط فى حقوقه ولاحقوق أبنائه ومتمسك بقيمه ومبادئه وأرضه كما أنه استطاع أن يخلق مع نظيره الذى لايقل عنه إبداعا "محمود المليجى" حالة لاتتكرر كثيرا من حيث صراع الخير والشر وكان المليجى بارعا فى تقديم الشر الذى لابد أن ينهزم أمام الخير وبالرغم من أن جمهور الترسو كان ومازال يشاهد أفلام هذين العملاقين ويعرف مقدما أن الخير هو الذى سينتصر فى النهاية إلا أنه كان يصفق ويتحمس لتلك النهاية وكأنه تفاجأ بالأمر وتلك هى فلسفة الترسو وحكمة سينما البسطاء. ويؤكد المخرج ياسر زايد أن سينما الترسو بأفلامها وحكايتها تعد رمانة ميزان الإنتاج السينمائى على مدى تاريخه فى العالم كله فحتى أمريكا تعطى اهتماما كبيرا لتلك النوعية من الأفلام لانها تدرك مدى أهميتها فى تحقيق الرواج الأكبر فى عالم الإيرادات خاصة أن حدوتة البطل الشعبى المغوار تلك لها جمهورها ومريدوها فى كل مكان ولاتقتصر علينا فى مصر فقط، فسينما الترسو على مدى تاريخها لها فلسفة واحدة وهى نصرة البسطاء ومداعبة أحلامهم ومن ثم تلعب على أن يجد المشاهد نفسه فى كل تفاصيل الدراما التى يشاهدها فيبقى مأخوذا مع الأحداث لأن كل لقطة أو مشهد تعبر عن موقف فى حياته ومن ثم ينفعل معها الى درجة التوحد ويتحمس لدرجة التصفيق بحرارة لأنه يشعر وكأنه يصفق لنفسه أو للحدث الذى يعبر عنه ويؤكد له أهمية وحقيقة وجوده ومن هنا تكمن أهمية سينما الترسو لأنه تعبر عن الواقع الذى يعيشه النسبة الأكبر من المصريين. أما عن سبب اختفاء تلك النوعية من الأفلام قال الناقد الفنى طارق الشناوى: هى كانت اختفت بالفعل لفترة طويلة جدا وربما لم نرها منذ أيام فريد شوقى الذى لقبه النقاد بملك الترسو وكان سعيد جدا بهذا اللقب وقد حاول بعض نجوم الجيل الجديد أن يلعبوا هذا الدور ولكنهم فشلوا فيه لأن ممثل الترسو لايمكنه أن يقف فى منطقة وسط بين أفلام المهمشين والمثقفين وإنما لابد أن يشعر جمهور الترسو أنه واحد منهم وهذا ما استطاع محمد رمضان أن يلعبه بنجاح لم يسبقه فيه أحد من الأجيال التى سبقته فقد اختار أن ينحاز لهذا الجمهور ويبقى واحدا منه ويعبر عنه ومن ثم يعد الممثل الوحيد بعد فريد شوقى الذى استطاع أن يعود بسينما الترسو الى الظهور مرة أخرى بعد أن كادت تندثر تماما تحت ضغط البدائل التكنولوجية المبهرة.