نحو ربع ساعة كاملة قضيتُها متجولا في المسجد دون رقيب. كنتُ وحيدا بين مقتنيات لا تجد من يحميها، في مسجد قُجماس الإسحاقي الشهير بأبي حريبة. وعندما هممتُ بالخروج قابلني الحارس علي الباب، وسألني عما إذا كنتُ قد وجدته مفتوحا أم أنني دفعته ودخلت. بطبيعة الحال كان مفتوحا في استقبال أي عابر قد تُحرضه الآثار »السايبة» علي السرقة. خاصة أن المنطقة شهدت أحداثا مؤلمة، أثارت ضجة واسعة منذ سنوات، بعد اختفاء أجزاء من منابر مساجدها ومقتنياتها، وانتهت الضجة كالعادة بالصمت الرهيب. لاحظ الحارس وجومي، فأخذ يبحث عن حجج، ويلقي بالمسئولية علي حارس آخر تركه في المكان لكنه اختفي! قبلها بدقائق كنت في مسجد المؤيد شيخ، جلس الحراس علي مدخله، وتجمّع آخرون في غرفة يتبادلون كلام الموظفين المعتاد، بينما خلا الصحن ومكان الصلاة حول المنبر من أي منهم. لا أحد يتابع الزوار القلائل، ومن بينهم أطفال قد يقوم أي منهم بفعل عفوي، يهدد المقتنيات الأثرية. كان ذلك قبل رمضان، لكي لا نلقي بالمسئولية علي كسل الصيام، إذا جاز أن يكون ذلك مبررا. وعلي بعد خطوات تحت باب زويلة، دخلتُ من الباب الذي يكاد يظهر بصعوبة، خلف البضائع التي عرضتها المحال بكثافة، جلس موظف علي مكتبه، كل مهمته أن يتقاضي ثمن التذكرة من كل زائر يود الصعود إلي أبراج الباب ومئذنتي المؤيد شيخ. بأعلي لا أحد يتابع ما يجري، ولكل إنسان حرية أن يفعل ما يشاء! في أجواء كهذه لا تُعتبر سرقة حشوة من منبر المؤيد شيخ مفاجأة، رغم ما تثيره من صدمة، تنضم إلي قائمة صدمات اعتدنا عليها في مجال الآثار. تتغير الأنظمة والهيئات المسئولة ومسميات المسئولين، وتبقي السلبيات قائمة تُخرج لسانها للجميع. ويتكرر السيناريو نفسه: بعض الضجة تنتهي بانشغالنا عن هويتنا، التي أثبتنا جدارتنا في التخلي عنها. السرقة الأخيرة تدق ناقوس خطر جديد، وأعتقد أن الحذر ضروري، كي نمنع عودة »عصابات المنابر» التي مارست السرقة بحرية شديدة عام 2008، وسرقت حشوات عديدة من مساجد بالمنطقة نفسها، وبلغت جرأة اللصوص درجة عجيبة، حيث استهدفوا منبر مسجد الطنبغا المارداني ثلاث مرات في عشرة أيام، ولم يشعروا بالخوف من إبلاغ الشرطة التي بدأت تحقيقاتها قبل السطو الثالث. في حادث المؤيد شيخ الأخير كانت الحشوة المسروقة صغيرة، لا تتجاوز أبعادها 5 في 5 سنتيمترات، لكن سرقة المارداني قبل سنوات أدت إلي فقد منبره لكل حشواته تقريبا، حتي أصبح مثل هيكل عظمي لا قيمة له! السرقات امتدت وقتها إلي منبر مسجد جانم البهلوان وأماكن أخري، ولكل سرقة منها قصة مثيرة لا مجال لسرد تفاصيلها هنا. غير أنه كان واضحا أن التشكيل العصابي يعلم جيدا ما يفعل، بدءا من الاختيار وحتي التنفيذ، فقد قام اللصوص بفك الحشوات بمهارة تؤكد أنهم محترفون. المفاجأة الحقيقية في واقعة المؤيد، تتمثل في مديرة المنطقة التي اكتشفت السرقة بمجرد نظرة، فقامت بإبلاغ النيابة، لكنها لم تكن مفاجأة وحيدة، فقد ترددت أنباء عن تفريغ كاميرات المراقبة للوصول إلي الجاني. اللص إذن غافل الحراس والكاميرات وفعل فعلته، والجميع غافلون، وكان يمكن للسرقة أن تظل في طي الكتمان لولا يقظة المسئولة، التي جاءت بعد فوات الأوان. إذا كانت هناك كاميرات مراقبة، فمن يتابعها في الناحية الأخري؟ أم أنها أصبحت شبيهة بخيال المآتة، الذي كان يُثبّت في الحقول، لإيهام الطيور بأن هناك من يحمي المحاصيل فلا تقترب منها؟ الطيور اكتشفت السر، واتخذت في بعض الأحوال خيال المآتة مُستقرا لها، تماما مثلما أدرك اللص أن الكاميرات مجرد منظر، فتجول بالمسجد حتي اطمأن، ثم اقتطع جزءا من المنبر، وخرج بعد أن ألقي التحية علي الحراس ومضي! هل يملك لص المؤيد شيخ مهارة»العصابة» القديمة؟ أم أنه مجرد هاو أغراه الاهمال بالسرقة؟ هل هو مجرد حادث عارض؟ أم جس نبض يقوم به تشكيل عصابي، لاستطلاع ميدان نشاطه تمهيدا للعودة إلي الساحة؟ لا إجابات حاسمة طالما ظل اللص طليقا بالحشوة الخشبية الخماسية المُطعمة بالعاج، وحتي ذلك الحين تظل كل الفرضيات مطروحة. تفريغ الكاميرات كشف فعليا شكل القائم بالسرقة، حسبما أكد لي مصدر مسئول بوزارة الآثار، لكن لم يتم التوصل إليه حتي الآن، وغالبا سيتم ضبطه، واستعادة الحشوة المنهوبة إذا كانت لاتزال معه. غير أن نهايات الأفلام البوليسية، التي تحتفي بكشف الجاني، لا تصلح وحدها كخاتمة لقصتنا، فالأمر يحتاج إلي مراجعة شاملة لأساليب الحماية وأداء الموظفين، لأن الاستهتار سيجعل القادم أكثر خطرا.