عرفت روايات محمد جبريل قبل أن أعرفه شخصيَّاً. كنت أكتب بحثاً عن «التاريخ القناع فى الرواية العربية»، واتخذت روايته «من أوراق أبى الطيِّب المتنبِّى» أنموذجاً. بدا لى أن الراوى، فى هذه الرواية، يتَّخذ وقائع التاريخ مادَّة أوَّليَّة، ويختار منها، من منظوره ما يقيم منه، ومن منظوره أيضا، بنية روائية متخيَّلة، تصدر عن المرجع التاريخى، وتغايره، وتنطق برؤية اليه. وهو؛ إذ يفعل ذلك، يتيح للرواية أن تروى حكاية التاريخ الكاشفة حقائقه وحقائق الواقع الحياتى المعيش فى الوقت نفسه، فيكون النصُّ الروائى التاريخى ناطقا برؤية إلى التاريخ، وفى الوقت نفسه ضوءاً كاشفاَ للواقع المعيش، ما يعنى اتخاذ التاريخ قناعا للنُّطق بخطاب الحاضر. هذا إضافة إلى اعتماد تقنية روائية توهم بصدقية ما يُروى وجعله يؤدَّى من منظور شاعر العربية الكبير المتنبى؛ وذلك عندما أوهم القارى بأنه عثر على أوراق للمتنبى يقدم بعضها للقارى. ثم عرفت محمد جبريل شخصيَّا،ً عندما التقيت به فى مؤتمر اتحاد الأدباء والكتاب العرب العام، فى دمشق. كان يهدى نسخاً من مؤلَّفاته لعدد من المشاركين فى المؤتمر، فاقتربت منه، وقلت له: أنا قرأت لك، وكتبت عنك. وإن أهديتنى أقرأ لك و...قاطعنى: يكفينى هذا..وأهدانى مجموعة من رواياته. وكانت هذه الحادثة بداية صداقة أعتزُّ بها، فجبريل، كما عرفته، إنسان دمث، لطيف المعشر، طيِّب القلب، عفوى، وطنى قومى صادق، محبٌّ. كما يضىء جبريل التاريخ والواقع، فيكشفهما ويرى إليهما من منظور نقدى، فهو يضىء، أيضا، أجواء الذات الانسانية المعتمة بلغة سلسة نافذة موحية، ويصوِّر الناس، وهم يسعون، كلٌّ فى فضائه الخاص، فيشعر القارى بأن هذا الفضاء أليف وحميم، وهو إذ يشكِّله يبدو مشعَّاً بالدلالات. إن كان نجيب محفوظ قد روى حكايات القاهرة فى ثلاثيته المعروفة وروايات أخرى، فإن جبريل روى حكايات الاسكندرية فى «رباعية بحرى» وروايات أخرى. يبدو أن نشأة جبريل فى حى شعبى متديِّن، ومتديِّن بخاصة تديُّناً شعبياً، تكثر فيه مقامات الأولياء والمساجد والاحتفالات الدينية.. أسهمت فى تشكيل منظوره الروائى وزاوية الرؤية لديه، فوجَّه مرآته الروائية الى بؤر مركزية، منها : التراث والشعبى منه بخاصة والحياة الشعبية...، فالتقطت موضوعات وشخصيات يغلب عليها التدين والشعبى الصوفى منه بخاصة والعجائبية والغرائبية. تمثلت هذه المرآة الروائية «الوجدان الشعبى» للحيز الذى رأت إليه، ومثلته روايات واقعية وعجائبية وميتافيزيقية وصوفية فى الوقت نفسه، ما يجعلنا نرى أنَّ هذه الروايات تمثل تيارا متميزا فى الرواية العربية يعدُّ محمد جبريل رائده، وهو تيار «الواقعية الروحية». يشير جبريل إلى هذا التيار بقوله: أنا «أتعامل مع الموروث والميتافيزيقيا من وجهة نظر دينية إسلامية مصرية...». مرجع جبريل هو الحياة: وقائع وشخصيات وأماكن وأولياء وسير... يقول جبريل: أدين بأفكار لى إلى إمام جامع هو «ابن بامبا» الذى تحوَّل إلى ولى. يصدر جبريل عن هذا المرجع، ويقيم من معطياته بنية متخيَّلة تعادله وتغايره وترى إليه. وتفيد روايات أخرى لجبريل أنَّ المواطن يشعر بأنه يعيش الغربة فى وطنه، فيهاجر ليعيش فى غربة أمر وأقسي. ففى روايته الأخيرة: «النفى إلى الوطن»، على سبيل المثال، يستقبلنا التصدير الآتى لأبى حيان التوحيدى: «أغرب الغرباء من صار غريبا فى وطنه. وأبعد البعداء من كان بعيدا فى محل قربه». والمعروف أن شعور التوحيدى بالغربة فى وطنه دفعه إلى إحراق كتبه. إن كانت روايات جبريل تتميَّز موضوعاتيا ورؤيويا، كما ذكرنا بإيجاز، فإنها تتميَّز بنيوياً، فمسار القصِّ فى هذه الروايات يمضى فى سياق متكسر، يتشكل من لقطات للَّحظات المهمة فى الحياة، قريبة من لقطات الفيلم السينمائى أو المسلسل التلفازى التى تترك مساحات مسكوتا عنها للمتلقى كى يتخيل، ويكمل القص. وهو - أى القارى - يتابع القراءة، فيسهم فى تشكيل البنية القصصية، ويكون شريكا فى الابداع من ناحيتين: أولاهما قول المسكوت عنه وثانيتهما تبين الدلالة وقولها، وهذا ما يؤتى لذة القراءة. تتشكل روايات جبريل من فصول قصيرة يبدو كأنَّ كلاًّ منها قصة قصيرة، إن أُفرد، لكنه عندما ينتظم فى نظام البنية يسهم فى تشكيل بنيتها الكلية وفاعلية هذه البنية الجمالية الدلالية. يتكوَّن نسيج هذه البنية من سرد مشوِّق ووصف خلاَّق للمعنى وحوار ذاتى وثنائى ملائم للموقف والشخصية وموظَّف فى تنمية مسار القص. ما يؤلم هو أن يُترك هذا المبدع العربى الكبير الذى نذر عمره للعطاء إلى معاناة نتائج خطأ طبى أقعده فى منزله. شفاك الله تعالى، صديقى العزيز، وأمدَّ الله، تعالى، في عمرك لتواصل إضاءة عالمنا بالكشف الممتع والمضىء.