5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إعادة انتاج التاريخ إبداعيا قد يغفل هوية الابتكار والتميز
نشر في صوت البلد يوم 21 - 12 - 2017

في الزمن القديم كان الراوي يسرد حكاياته على جمهور المستمعين وبالقرب منهم نار مشتعلة.. فإذا لم تعجبهم الحكايات ألقوا بالراوي في النار.. حكاية قديمة قد تكون مختلفة ضمن الحكايات والأساطير، والخرافات الشعبية التي توارثتها الأجيال الإنسانية وصارت إرثاً لها تحمل خصائصها في محيط الزمان والمكان الذي أنتج تلك الموروثات.
لكن الحكاية تكشف عن عمقها التاريخي.. فقد عرف الإنسان البدائي الحكاية.. وصار ما يعرف بالأدب الشفاهي، الذي يردده الناس بشكل مشاعي، وقد عرف التاريخ العربي العديد من هذه الحكايات.. التي عبرت عن أحزان وأفراح وهموم ذلك الإنسان عبر حقب تاريخية متعاقبة.. مواوييل من الفرح المغتصب من شقاء لا ينتهي.. إذن فالفنون ركزت على تاريخ إنساني خاص، وكتاب التاريخ قدموا رؤية عامة شملت علاقة الإنسان بالمكان في زمن محدد، ووضح الفرق منذ البداية بين الراوي والمؤرخ، وقد عرفنا الجبرتي، ابن إياس، ومن بعدهما عبد الرحمن الرافعي، كما عرفنا العديد من الروائيين الذين استلهموا التاريخ في أعمالهم الروائية.
كشف د. رفعت السعيد في كتابه "كتابات في التاريخ" عن الفرق بين المؤرخ والأديب.. فالأول ينقل التاريخ بحيادية كاملة وأمانة تقتضي منه ألا يحذف أية أحداث أو يهمش شخصيات ولا يلقي عليها الضوء ويستبعد رؤيته الخاصة أو مزاجه الشخصي حتى يتسنى رواية التاريخ كما حدث، أما الأديب فربما يستلهم شخصية ما أثرت في حقبة تاريخية، لكنه يضيف أو يغير من الأحداث وطبيعة الشخصية نفسها بما يتلاءم وعمله الأدبي، لذلك فالمؤرخ يدرك التاريخ إدراكاً كاملاً بينما يظل المبدع إدراكه للتاريخ ناقصاً.. حيث مسافة الإبداع شرط لانتمائها، يبدعه سواء كان رواية أو قصة أو مسرحية إلى الإبداع ذاته.
"محفوظ" والرواية التاريخية
كتب الروائي الكبير نجيب محفوظ ثلاثيته : عبث الأقدار، كفاح طيبة، رادوبيس، استهلم فيها التاريخ الفرعوني ليجسد البطولة وقوة الإنسان في مواجهة الظلم كإسقاط مباشر على واقع الاحتلال الإنجليزي لمصر قبل ثورة يوليو.. لكن الكاتب الكبير أدرك أن التاريخ القريب.. أو المعطيات الحاضرة حيث اللحظة التاريخية في سياقها الاجتماعي هي الأجدر بالتناول.. وذلك ما فعله في ثلاثيته الخالدة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية".
لكن: كيف نستدل من خلال أعمال أدبية تستمد مادتها من التاريخ على الحقيقة التاريخية؟
لقد قدم العديد من الكتاب معالجات أدبية لشخوص تاريخية .. في مسرحية ألفريد فرج "الزير سالم".. كيف يمكن أن تعرف حقيقة الزير سالم؟ تساؤلات عديدة.. عن هذه الشخصية التي تشابهت إلى حد كبير مع شخصية أوزوريس في التاريخ المصري القديم.. حكايته تتشابه مع حكاية أوزوريس وما فعله به أخوه "ست".. حتى حادثة القتل والنواح، وتقطيع الجثة.. وتطواف إيزيس لجمع أشلائه من جديد، إذن فالمبدع يدرك الأشياء علي نحو كما يراها ويحسها في الحقيقة الحياتية والمعرفية لديه.. حيث يقلب في منظور تاريخي وينتقد ما يريد، وربما يحور، ويستبدل كما أشرنا من قبل بهدف إثبات أن ما فعله هو إبداع خالص.. ليظل النص الأدبي مفتوح الدلالات.. منكشفاً على تأويل لا ينتهي، وتظل الحقيقة التاريخية غائبة .. وهنا يقول د.جابر عصفور : القول بأن التراث تجربة تاريخية في حاجة لإيضاح أكثر حتى لا يساء فهم المعنى ، وإذا كانت بعض مكونات الحاضر تنطوي بشكل أو بآخر علي عناصر ذلك الماضي البعيد فإنه من غير المعقول أبدا، وهذا ما أعنيه أن تكون مكونات واقعنا ليست إلا انعكاساً كاملاً لما كان عليه ماضينا بكل طبيعته وبكامل صورته.
إعادة إنتاج القديم
إن د. جابر عصفور يضيىء المشهد المعاصر بجميع جوانبه، فالمبدع لا يبتكر رموزاً جديدة تضاف إلي الرمز الموروث حيث يبدو النص الأدبي المعاصر في استلهامه للتاريخ، وكأنه يعيد إنتاج الرموز القديمة غير منتبه لحيوية الابتكار والخلق لرموز جديدة.. تشكل بدورها أصالتها وتأثيرها في وجدان المتلقي وتحقق أيضا الهدف التوظيفي الذي يرمي إليه الكاتب.
فالكتابة المعاصرة التي تستلهم التاريخ مازالت تكتب بذات الطريقة التي كتب بها جورجي زيدان رواياته التاريخية.. حيث وضع العمل الأدبي في مرتبة أدنى من "التاريخ" وانعدام التوازن لم يفد الاثنين معاً ؛ حيث تلك المنطقة المتأرجحة.. فلا صارت الرواية معنية بإنجاز عناصرها الجمالية.. ولا قدم التاريخ بأمانة تلزم القارئ بوجوب تصديق الأحداث.. لذلك جرت العادة لدي القارئ أن يضع الروايات التاريخية في مرتبة أقل من كتب التاريخ ؛ حيث يتم تحميلها العديد من المبالغات الصوفية، والوعظ والإرشاد المباشر .. وهذا لا يقبله القارئ إذن فالأمر كله في إطار المتخيل والإدراك الناقص للتاريخ.
وقد عبر د. يوسف إدريس عن رأيه في رواية "الزيني بركات" لجمال الغيطاني حين قال: "أنا أفضل رواية "الرفاعي" عن "الزيني بركات" لأن جمال الغيطاني ليس ابن إياس".
بين زيدان والغيطاني
في إطار ذلك أين الحدود الفاصلة بين ما هو تاريخي، وما هو أدبي؟
لقد حاول جورجي زيدان إدراك التاريخ بالأدب، وحاول جمال الغيطاني أيضا إدراك التاريخ بالأدب، لكنها مسافة التطور لآليات الكتابة الروائية وتحديث أساليب الرد هي التي حققت لجمال الغيطاني في روايته التي استلهمها من التاريخ المصري الإسلامي.. قدراً من الفنية العالية، وإحكام البنية الروائية.
في رأي للناقد الراحل فاروق عبد القادر إن تاريخنا المعاصر أهم مشروعاتنا الروائية لذلك فهو يتوقف عند خمسة مشروعات روائية عربية يري أنها الأم خلال العشر سنوات الأخيرة.. من "خماسية" مدن الملح للسعودي عبد الرحمن منيف، رباعية "مدارات الشرق" للسوري نبيل سليمان، ثلاثية المصري جميل عطية إبراهيم عن ثورة يوليو، رباعية الخسوف لليبي إبراهيم الكوني.. وثلاثية التحولات للسوري خيري الذهبي.
ويصف "عبد القادر" هذه الأعمال بأنها تتناول فترة تاريخية قريبة حيث لا يفضل استخدام تعبير "الرواية التاريخية" في وصف هذه الأعمال حيث يعني ذلك أنها تتناول فترة انتهت ويقول إنها تتناول التاريخ الذي شكلت نتائج أحداثه واقعنا، ولا تزال القوي التي صنعته حية ومؤثرة وفاعلة في واقعنا الراهن.. وتنوعت الأعمال الخمسة في رصد فترات تاريخية في سوريا، ومصر، وليبيا، والسعودية.. وقد كانت هذه الأعمال موضوعاً لبحث طرحه الناقد في مؤتمر عقد في المغرب وضم العديد من النقاد والروائيين حيث كانت الورقة الرئيسية للمؤتمر "التجربة الإبداعية الجديدة في الوطن العربي".. فقد لاحظ فاروق عبد القادر أن هذه الأعمال هي المفتاح الحقيقي لكتابة رواية عربية عن واقع معاصر لأن كاتبها عايش أحداث ومجريات الأمور فيها، كما تفهم طبيعة اللحظات الحاضرة، والسياق الاجتماعي فيها.. وحركة الإنسان وعلاقاته داخل حيز مكاني وزماني.. لذلك تبتعد هذه الروايات عن المتخيل والمختلق، وتقترب من الواقعي، والحقيقي، حيث لم يعد النص الأدبي مكشوفاً وعارياً من الصحة في رصده التاريخي، لذلك فالاستيعاب الكامل للمرحلة التاريخية يحقق للروائي إدراكاً تاريخياً غير منقوص، ويضيف أيضا شخصيات جديدة وهذا ما جسده لنا الروائي الكبير نجيب محفوظ حيث قدم أحمد عبد الجواد، زيطة صانع العاهات وغيرها من الشخصيات التي أصبحت رموزاً جديدة لدي القارئ وحملت معها القدرة على تشكيل وجدانه وأثرت حياته لما فيها من تقارب إنساني وتاريخي أيضاً.
في الزمن القديم كان الراوي يسرد حكاياته على جمهور المستمعين وبالقرب منهم نار مشتعلة.. فإذا لم تعجبهم الحكايات ألقوا بالراوي في النار.. حكاية قديمة قد تكون مختلفة ضمن الحكايات والأساطير، والخرافات الشعبية التي توارثتها الأجيال الإنسانية وصارت إرثاً لها تحمل خصائصها في محيط الزمان والمكان الذي أنتج تلك الموروثات.
لكن الحكاية تكشف عن عمقها التاريخي.. فقد عرف الإنسان البدائي الحكاية.. وصار ما يعرف بالأدب الشفاهي، الذي يردده الناس بشكل مشاعي، وقد عرف التاريخ العربي العديد من هذه الحكايات.. التي عبرت عن أحزان وأفراح وهموم ذلك الإنسان عبر حقب تاريخية متعاقبة.. مواوييل من الفرح المغتصب من شقاء لا ينتهي.. إذن فالفنون ركزت على تاريخ إنساني خاص، وكتاب التاريخ قدموا رؤية عامة شملت علاقة الإنسان بالمكان في زمن محدد، ووضح الفرق منذ البداية بين الراوي والمؤرخ، وقد عرفنا الجبرتي، ابن إياس، ومن بعدهما عبد الرحمن الرافعي، كما عرفنا العديد من الروائيين الذين استلهموا التاريخ في أعمالهم الروائية.
كشف د. رفعت السعيد في كتابه "كتابات في التاريخ" عن الفرق بين المؤرخ والأديب.. فالأول ينقل التاريخ بحيادية كاملة وأمانة تقتضي منه ألا يحذف أية أحداث أو يهمش شخصيات ولا يلقي عليها الضوء ويستبعد رؤيته الخاصة أو مزاجه الشخصي حتى يتسنى رواية التاريخ كما حدث، أما الأديب فربما يستلهم شخصية ما أثرت في حقبة تاريخية، لكنه يضيف أو يغير من الأحداث وطبيعة الشخصية نفسها بما يتلاءم وعمله الأدبي، لذلك فالمؤرخ يدرك التاريخ إدراكاً كاملاً بينما يظل المبدع إدراكه للتاريخ ناقصاً.. حيث مسافة الإبداع شرط لانتمائها، يبدعه سواء كان رواية أو قصة أو مسرحية إلى الإبداع ذاته.
"محفوظ" والرواية التاريخية
كتب الروائي الكبير نجيب محفوظ ثلاثيته : عبث الأقدار، كفاح طيبة، رادوبيس، استهلم فيها التاريخ الفرعوني ليجسد البطولة وقوة الإنسان في مواجهة الظلم كإسقاط مباشر على واقع الاحتلال الإنجليزي لمصر قبل ثورة يوليو.. لكن الكاتب الكبير أدرك أن التاريخ القريب.. أو المعطيات الحاضرة حيث اللحظة التاريخية في سياقها الاجتماعي هي الأجدر بالتناول.. وذلك ما فعله في ثلاثيته الخالدة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية".
لكن: كيف نستدل من خلال أعمال أدبية تستمد مادتها من التاريخ على الحقيقة التاريخية؟
لقد قدم العديد من الكتاب معالجات أدبية لشخوص تاريخية .. في مسرحية ألفريد فرج "الزير سالم".. كيف يمكن أن تعرف حقيقة الزير سالم؟ تساؤلات عديدة.. عن هذه الشخصية التي تشابهت إلى حد كبير مع شخصية أوزوريس في التاريخ المصري القديم.. حكايته تتشابه مع حكاية أوزوريس وما فعله به أخوه "ست".. حتى حادثة القتل والنواح، وتقطيع الجثة.. وتطواف إيزيس لجمع أشلائه من جديد، إذن فالمبدع يدرك الأشياء علي نحو كما يراها ويحسها في الحقيقة الحياتية والمعرفية لديه.. حيث يقلب في منظور تاريخي وينتقد ما يريد، وربما يحور، ويستبدل كما أشرنا من قبل بهدف إثبات أن ما فعله هو إبداع خالص.. ليظل النص الأدبي مفتوح الدلالات.. منكشفاً على تأويل لا ينتهي، وتظل الحقيقة التاريخية غائبة .. وهنا يقول د.جابر عصفور : القول بأن التراث تجربة تاريخية في حاجة لإيضاح أكثر حتى لا يساء فهم المعنى ، وإذا كانت بعض مكونات الحاضر تنطوي بشكل أو بآخر علي عناصر ذلك الماضي البعيد فإنه من غير المعقول أبدا، وهذا ما أعنيه أن تكون مكونات واقعنا ليست إلا انعكاساً كاملاً لما كان عليه ماضينا بكل طبيعته وبكامل صورته.
إعادة إنتاج القديم
إن د. جابر عصفور يضيىء المشهد المعاصر بجميع جوانبه، فالمبدع لا يبتكر رموزاً جديدة تضاف إلي الرمز الموروث حيث يبدو النص الأدبي المعاصر في استلهامه للتاريخ، وكأنه يعيد إنتاج الرموز القديمة غير منتبه لحيوية الابتكار والخلق لرموز جديدة.. تشكل بدورها أصالتها وتأثيرها في وجدان المتلقي وتحقق أيضا الهدف التوظيفي الذي يرمي إليه الكاتب.
فالكتابة المعاصرة التي تستلهم التاريخ مازالت تكتب بذات الطريقة التي كتب بها جورجي زيدان رواياته التاريخية.. حيث وضع العمل الأدبي في مرتبة أدنى من "التاريخ" وانعدام التوازن لم يفد الاثنين معاً ؛ حيث تلك المنطقة المتأرجحة.. فلا صارت الرواية معنية بإنجاز عناصرها الجمالية.. ولا قدم التاريخ بأمانة تلزم القارئ بوجوب تصديق الأحداث.. لذلك جرت العادة لدي القارئ أن يضع الروايات التاريخية في مرتبة أقل من كتب التاريخ ؛ حيث يتم تحميلها العديد من المبالغات الصوفية، والوعظ والإرشاد المباشر .. وهذا لا يقبله القارئ إذن فالأمر كله في إطار المتخيل والإدراك الناقص للتاريخ.
وقد عبر د. يوسف إدريس عن رأيه في رواية "الزيني بركات" لجمال الغيطاني حين قال: "أنا أفضل رواية "الرفاعي" عن "الزيني بركات" لأن جمال الغيطاني ليس ابن إياس".
بين زيدان والغيطاني
في إطار ذلك أين الحدود الفاصلة بين ما هو تاريخي، وما هو أدبي؟
لقد حاول جورجي زيدان إدراك التاريخ بالأدب، وحاول جمال الغيطاني أيضا إدراك التاريخ بالأدب، لكنها مسافة التطور لآليات الكتابة الروائية وتحديث أساليب الرد هي التي حققت لجمال الغيطاني في روايته التي استلهمها من التاريخ المصري الإسلامي.. قدراً من الفنية العالية، وإحكام البنية الروائية.
في رأي للناقد الراحل فاروق عبد القادر إن تاريخنا المعاصر أهم مشروعاتنا الروائية لذلك فهو يتوقف عند خمسة مشروعات روائية عربية يري أنها الأم خلال العشر سنوات الأخيرة.. من "خماسية" مدن الملح للسعودي عبد الرحمن منيف، رباعية "مدارات الشرق" للسوري نبيل سليمان، ثلاثية المصري جميل عطية إبراهيم عن ثورة يوليو، رباعية الخسوف لليبي إبراهيم الكوني.. وثلاثية التحولات للسوري خيري الذهبي.
ويصف "عبد القادر" هذه الأعمال بأنها تتناول فترة تاريخية قريبة حيث لا يفضل استخدام تعبير "الرواية التاريخية" في وصف هذه الأعمال حيث يعني ذلك أنها تتناول فترة انتهت ويقول إنها تتناول التاريخ الذي شكلت نتائج أحداثه واقعنا، ولا تزال القوي التي صنعته حية ومؤثرة وفاعلة في واقعنا الراهن.. وتنوعت الأعمال الخمسة في رصد فترات تاريخية في سوريا، ومصر، وليبيا، والسعودية.. وقد كانت هذه الأعمال موضوعاً لبحث طرحه الناقد في مؤتمر عقد في المغرب وضم العديد من النقاد والروائيين حيث كانت الورقة الرئيسية للمؤتمر "التجربة الإبداعية الجديدة في الوطن العربي".. فقد لاحظ فاروق عبد القادر أن هذه الأعمال هي المفتاح الحقيقي لكتابة رواية عربية عن واقع معاصر لأن كاتبها عايش أحداث ومجريات الأمور فيها، كما تفهم طبيعة اللحظات الحاضرة، والسياق الاجتماعي فيها.. وحركة الإنسان وعلاقاته داخل حيز مكاني وزماني.. لذلك تبتعد هذه الروايات عن المتخيل والمختلق، وتقترب من الواقعي، والحقيقي، حيث لم يعد النص الأدبي مكشوفاً وعارياً من الصحة في رصده التاريخي، لذلك فالاستيعاب الكامل للمرحلة التاريخية يحقق للروائي إدراكاً تاريخياً غير منقوص، ويضيف أيضا شخصيات جديدة وهذا ما جسده لنا الروائي الكبير نجيب محفوظ حيث قدم أحمد عبد الجواد، زيطة صانع العاهات وغيرها من الشخصيات التي أصبحت رموزاً جديدة لدي القارئ وحملت معها القدرة على تشكيل وجدانه وأثرت حياته لما فيها من تقارب إنساني وتاريخي أيضاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.