الإسكان: جار تنفيذ 64 برجا سكنيا بها 3068 وحدة.. و310 فيلات بتجمع صوارى في غرب كارفور بالإسكندرية    الانتفاضة الطلابية بأمريكا.. ماذا يحدث في حرم جامعة كاليفورنيا؟    دور العرض ترفع أحدث أفلام بيومي فؤاد من شاشاتها.. تعرف على السبب    بحضور السيسي.. تعرف على مكان احتفالية عيد العمال اليوم    سفير روسيا لدى واشنطن: اتهامات أمريكا لروسيا باستخدام أسلحة كيميائية في أوكرانيا بغيضة    طقس أسيوط اليوم.. جو ربيعي وانخفاض درجات الحرارة لمدة يومين    ارتفاع في أسعار الذهب بكفر الشيخ.. عيار 21 بكام؟    ماذا يستفيد جيبك ومستوى معيشتك من مبادرة «ابدأ»؟ توطين الصناعات وتخفيض فاتورة الاستيراد بالعملة الصعبة 50% وفرص عمل لملايين    قوات الجيش الإسرائيلي تقتحم مخيم عايدة في بيت لحم وقرية بدرس غربي رام الله ومخيم شعفاط في القدس    "الحرب النووية" سيناريو الدمار الشامل في 72 دقيقة    ملخص عمليات حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي يوم الأربعاء    إجراء عاجل من الفلبين ضد بكين بعد اشتعال التوترات في بحر الصين الجنوبي    رامي ربيعة يهنئ أحمد حسن بمناسبة عيد ميلاده| شاهد    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 2 مايو 2024    حملة علاج الادمان: 20 الف تقدموا للعلاج بعد الاعلان    بحضور السيسي، تعرف على مكان احتفالية عيد العمال اليوم    نسخة واقعية من منزل فيلم الأنيميشن UP متاحًا للإيجار (صور)    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    مشروع انتاج خبز أبيض صحي بتمويل حكومي بريطاني    تعرف على أحداث الحلقتين الرابعة والخامسة من «البيت بيتي 2»    الصحة: لم نرصد أي إصابة بجلطات من 14 مليون جرعة للقاح أسترازينيكا في مصر    الصحة: مصر أول دولة في العالم تقضي على فيروس سي.. ونفذنا 1024 مشروعا منذ 2014    ضبط عاطل وأخصائى تمريض تخصص في تقليد الأختام وتزوير التقرير الطبى بسوهاج    تشيلسي وتوتنهام اليوم فى مباراة من العيار الثقيل بالدوري الإنجليزي.. الموعد والتشكيل المتوقع    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على الإعلامية "حليمة بولند" في الكويت    تأهل الهلال والنصر يصنع حدثًا فريدًا في السوبر السعودي    الثاني خلال ساعات، زلزال جديد يضرب سعر الذهب بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    «البنتاجون»: أوستن أكد لنظيره الإسرائيلي ضرورة ضمان تدفق المساعدات إلى غزة    أمطار تاريخية وسيول تضرب القصيم والأرصاد السعودية تحذر (فيديو)    تامر حسني يوجه رسالة لبسمة بوسيل بعد الإعلان عن اغنيتها الجديدة.. ماذا قال؟    وليد صلاح الدين يرشح لاعبًا مفاجأة ل الأهلي    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    عاطل ينهي حياته شنقًا لمروره بأزمة نفسية في المنيرة الغربية    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    أهمية ممارسة الرياضة في فصل الصيف وخلال الأجواء الحارة    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    كوكولا مصر ترفع أسعار شويبس في الأسواق، قائمة بالأسعار الجديدة وموعد التطبيق    بسام الشماع: لا توجد لعنة للفراعنة ولا قوى خارقة تحمي المقابر الفرعونية    الأنبا باخوم يترأس صلاة ليلة خميس العهد من البصخة المقدسه بالعبور    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    الخطيب يطالب خالد بيبو بتغليظ عقوبة افشة .. فماذا حدث ؟    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    أخبار التوك شو|"القبائل العربية" يختار السيسي رئيسًا فخريًا للاتحاد.. مصطفى بكري للرئيس السيسي: دمت لنا قائدا جسورا مدافعا عن الوطن والأمة    حيثيات الحكم بالسجن المشدد 5 سنوات على فرد أمن شرع فى قتل مديره: اعتقد أنه سبب فى فصله من العمل    انخفاض جديد في عز.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الخميس 2 مايو بالمصانع والأسواق    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إعادة انتاج التاريخ إبداعيا قد يغفل هوية الابتكار والتميز
نشر في صوت البلد يوم 21 - 12 - 2017

في الزمن القديم كان الراوي يسرد حكاياته على جمهور المستمعين وبالقرب منهم نار مشتعلة.. فإذا لم تعجبهم الحكايات ألقوا بالراوي في النار.. حكاية قديمة قد تكون مختلفة ضمن الحكايات والأساطير، والخرافات الشعبية التي توارثتها الأجيال الإنسانية وصارت إرثاً لها تحمل خصائصها في محيط الزمان والمكان الذي أنتج تلك الموروثات.
لكن الحكاية تكشف عن عمقها التاريخي.. فقد عرف الإنسان البدائي الحكاية.. وصار ما يعرف بالأدب الشفاهي، الذي يردده الناس بشكل مشاعي، وقد عرف التاريخ العربي العديد من هذه الحكايات.. التي عبرت عن أحزان وأفراح وهموم ذلك الإنسان عبر حقب تاريخية متعاقبة.. مواوييل من الفرح المغتصب من شقاء لا ينتهي.. إذن فالفنون ركزت على تاريخ إنساني خاص، وكتاب التاريخ قدموا رؤية عامة شملت علاقة الإنسان بالمكان في زمن محدد، ووضح الفرق منذ البداية بين الراوي والمؤرخ، وقد عرفنا الجبرتي، ابن إياس، ومن بعدهما عبد الرحمن الرافعي، كما عرفنا العديد من الروائيين الذين استلهموا التاريخ في أعمالهم الروائية.
كشف د. رفعت السعيد في كتابه "كتابات في التاريخ" عن الفرق بين المؤرخ والأديب.. فالأول ينقل التاريخ بحيادية كاملة وأمانة تقتضي منه ألا يحذف أية أحداث أو يهمش شخصيات ولا يلقي عليها الضوء ويستبعد رؤيته الخاصة أو مزاجه الشخصي حتى يتسنى رواية التاريخ كما حدث، أما الأديب فربما يستلهم شخصية ما أثرت في حقبة تاريخية، لكنه يضيف أو يغير من الأحداث وطبيعة الشخصية نفسها بما يتلاءم وعمله الأدبي، لذلك فالمؤرخ يدرك التاريخ إدراكاً كاملاً بينما يظل المبدع إدراكه للتاريخ ناقصاً.. حيث مسافة الإبداع شرط لانتمائها، يبدعه سواء كان رواية أو قصة أو مسرحية إلى الإبداع ذاته.
"محفوظ" والرواية التاريخية
كتب الروائي الكبير نجيب محفوظ ثلاثيته : عبث الأقدار، كفاح طيبة، رادوبيس، استهلم فيها التاريخ الفرعوني ليجسد البطولة وقوة الإنسان في مواجهة الظلم كإسقاط مباشر على واقع الاحتلال الإنجليزي لمصر قبل ثورة يوليو.. لكن الكاتب الكبير أدرك أن التاريخ القريب.. أو المعطيات الحاضرة حيث اللحظة التاريخية في سياقها الاجتماعي هي الأجدر بالتناول.. وذلك ما فعله في ثلاثيته الخالدة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية".
لكن: كيف نستدل من خلال أعمال أدبية تستمد مادتها من التاريخ على الحقيقة التاريخية؟
لقد قدم العديد من الكتاب معالجات أدبية لشخوص تاريخية .. في مسرحية ألفريد فرج "الزير سالم".. كيف يمكن أن تعرف حقيقة الزير سالم؟ تساؤلات عديدة.. عن هذه الشخصية التي تشابهت إلى حد كبير مع شخصية أوزوريس في التاريخ المصري القديم.. حكايته تتشابه مع حكاية أوزوريس وما فعله به أخوه "ست".. حتى حادثة القتل والنواح، وتقطيع الجثة.. وتطواف إيزيس لجمع أشلائه من جديد، إذن فالمبدع يدرك الأشياء علي نحو كما يراها ويحسها في الحقيقة الحياتية والمعرفية لديه.. حيث يقلب في منظور تاريخي وينتقد ما يريد، وربما يحور، ويستبدل كما أشرنا من قبل بهدف إثبات أن ما فعله هو إبداع خالص.. ليظل النص الأدبي مفتوح الدلالات.. منكشفاً على تأويل لا ينتهي، وتظل الحقيقة التاريخية غائبة .. وهنا يقول د.جابر عصفور : القول بأن التراث تجربة تاريخية في حاجة لإيضاح أكثر حتى لا يساء فهم المعنى ، وإذا كانت بعض مكونات الحاضر تنطوي بشكل أو بآخر علي عناصر ذلك الماضي البعيد فإنه من غير المعقول أبدا، وهذا ما أعنيه أن تكون مكونات واقعنا ليست إلا انعكاساً كاملاً لما كان عليه ماضينا بكل طبيعته وبكامل صورته.
إعادة إنتاج القديم
إن د. جابر عصفور يضيىء المشهد المعاصر بجميع جوانبه، فالمبدع لا يبتكر رموزاً جديدة تضاف إلي الرمز الموروث حيث يبدو النص الأدبي المعاصر في استلهامه للتاريخ، وكأنه يعيد إنتاج الرموز القديمة غير منتبه لحيوية الابتكار والخلق لرموز جديدة.. تشكل بدورها أصالتها وتأثيرها في وجدان المتلقي وتحقق أيضا الهدف التوظيفي الذي يرمي إليه الكاتب.
فالكتابة المعاصرة التي تستلهم التاريخ مازالت تكتب بذات الطريقة التي كتب بها جورجي زيدان رواياته التاريخية.. حيث وضع العمل الأدبي في مرتبة أدنى من "التاريخ" وانعدام التوازن لم يفد الاثنين معاً ؛ حيث تلك المنطقة المتأرجحة.. فلا صارت الرواية معنية بإنجاز عناصرها الجمالية.. ولا قدم التاريخ بأمانة تلزم القارئ بوجوب تصديق الأحداث.. لذلك جرت العادة لدي القارئ أن يضع الروايات التاريخية في مرتبة أقل من كتب التاريخ ؛ حيث يتم تحميلها العديد من المبالغات الصوفية، والوعظ والإرشاد المباشر .. وهذا لا يقبله القارئ إذن فالأمر كله في إطار المتخيل والإدراك الناقص للتاريخ.
وقد عبر د. يوسف إدريس عن رأيه في رواية "الزيني بركات" لجمال الغيطاني حين قال: "أنا أفضل رواية "الرفاعي" عن "الزيني بركات" لأن جمال الغيطاني ليس ابن إياس".
بين زيدان والغيطاني
في إطار ذلك أين الحدود الفاصلة بين ما هو تاريخي، وما هو أدبي؟
لقد حاول جورجي زيدان إدراك التاريخ بالأدب، وحاول جمال الغيطاني أيضا إدراك التاريخ بالأدب، لكنها مسافة التطور لآليات الكتابة الروائية وتحديث أساليب الرد هي التي حققت لجمال الغيطاني في روايته التي استلهمها من التاريخ المصري الإسلامي.. قدراً من الفنية العالية، وإحكام البنية الروائية.
في رأي للناقد الراحل فاروق عبد القادر إن تاريخنا المعاصر أهم مشروعاتنا الروائية لذلك فهو يتوقف عند خمسة مشروعات روائية عربية يري أنها الأم خلال العشر سنوات الأخيرة.. من "خماسية" مدن الملح للسعودي عبد الرحمن منيف، رباعية "مدارات الشرق" للسوري نبيل سليمان، ثلاثية المصري جميل عطية إبراهيم عن ثورة يوليو، رباعية الخسوف لليبي إبراهيم الكوني.. وثلاثية التحولات للسوري خيري الذهبي.
ويصف "عبد القادر" هذه الأعمال بأنها تتناول فترة تاريخية قريبة حيث لا يفضل استخدام تعبير "الرواية التاريخية" في وصف هذه الأعمال حيث يعني ذلك أنها تتناول فترة انتهت ويقول إنها تتناول التاريخ الذي شكلت نتائج أحداثه واقعنا، ولا تزال القوي التي صنعته حية ومؤثرة وفاعلة في واقعنا الراهن.. وتنوعت الأعمال الخمسة في رصد فترات تاريخية في سوريا، ومصر، وليبيا، والسعودية.. وقد كانت هذه الأعمال موضوعاً لبحث طرحه الناقد في مؤتمر عقد في المغرب وضم العديد من النقاد والروائيين حيث كانت الورقة الرئيسية للمؤتمر "التجربة الإبداعية الجديدة في الوطن العربي".. فقد لاحظ فاروق عبد القادر أن هذه الأعمال هي المفتاح الحقيقي لكتابة رواية عربية عن واقع معاصر لأن كاتبها عايش أحداث ومجريات الأمور فيها، كما تفهم طبيعة اللحظات الحاضرة، والسياق الاجتماعي فيها.. وحركة الإنسان وعلاقاته داخل حيز مكاني وزماني.. لذلك تبتعد هذه الروايات عن المتخيل والمختلق، وتقترب من الواقعي، والحقيقي، حيث لم يعد النص الأدبي مكشوفاً وعارياً من الصحة في رصده التاريخي، لذلك فالاستيعاب الكامل للمرحلة التاريخية يحقق للروائي إدراكاً تاريخياً غير منقوص، ويضيف أيضا شخصيات جديدة وهذا ما جسده لنا الروائي الكبير نجيب محفوظ حيث قدم أحمد عبد الجواد، زيطة صانع العاهات وغيرها من الشخصيات التي أصبحت رموزاً جديدة لدي القارئ وحملت معها القدرة على تشكيل وجدانه وأثرت حياته لما فيها من تقارب إنساني وتاريخي أيضاً.
في الزمن القديم كان الراوي يسرد حكاياته على جمهور المستمعين وبالقرب منهم نار مشتعلة.. فإذا لم تعجبهم الحكايات ألقوا بالراوي في النار.. حكاية قديمة قد تكون مختلفة ضمن الحكايات والأساطير، والخرافات الشعبية التي توارثتها الأجيال الإنسانية وصارت إرثاً لها تحمل خصائصها في محيط الزمان والمكان الذي أنتج تلك الموروثات.
لكن الحكاية تكشف عن عمقها التاريخي.. فقد عرف الإنسان البدائي الحكاية.. وصار ما يعرف بالأدب الشفاهي، الذي يردده الناس بشكل مشاعي، وقد عرف التاريخ العربي العديد من هذه الحكايات.. التي عبرت عن أحزان وأفراح وهموم ذلك الإنسان عبر حقب تاريخية متعاقبة.. مواوييل من الفرح المغتصب من شقاء لا ينتهي.. إذن فالفنون ركزت على تاريخ إنساني خاص، وكتاب التاريخ قدموا رؤية عامة شملت علاقة الإنسان بالمكان في زمن محدد، ووضح الفرق منذ البداية بين الراوي والمؤرخ، وقد عرفنا الجبرتي، ابن إياس، ومن بعدهما عبد الرحمن الرافعي، كما عرفنا العديد من الروائيين الذين استلهموا التاريخ في أعمالهم الروائية.
كشف د. رفعت السعيد في كتابه "كتابات في التاريخ" عن الفرق بين المؤرخ والأديب.. فالأول ينقل التاريخ بحيادية كاملة وأمانة تقتضي منه ألا يحذف أية أحداث أو يهمش شخصيات ولا يلقي عليها الضوء ويستبعد رؤيته الخاصة أو مزاجه الشخصي حتى يتسنى رواية التاريخ كما حدث، أما الأديب فربما يستلهم شخصية ما أثرت في حقبة تاريخية، لكنه يضيف أو يغير من الأحداث وطبيعة الشخصية نفسها بما يتلاءم وعمله الأدبي، لذلك فالمؤرخ يدرك التاريخ إدراكاً كاملاً بينما يظل المبدع إدراكه للتاريخ ناقصاً.. حيث مسافة الإبداع شرط لانتمائها، يبدعه سواء كان رواية أو قصة أو مسرحية إلى الإبداع ذاته.
"محفوظ" والرواية التاريخية
كتب الروائي الكبير نجيب محفوظ ثلاثيته : عبث الأقدار، كفاح طيبة، رادوبيس، استهلم فيها التاريخ الفرعوني ليجسد البطولة وقوة الإنسان في مواجهة الظلم كإسقاط مباشر على واقع الاحتلال الإنجليزي لمصر قبل ثورة يوليو.. لكن الكاتب الكبير أدرك أن التاريخ القريب.. أو المعطيات الحاضرة حيث اللحظة التاريخية في سياقها الاجتماعي هي الأجدر بالتناول.. وذلك ما فعله في ثلاثيته الخالدة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية".
لكن: كيف نستدل من خلال أعمال أدبية تستمد مادتها من التاريخ على الحقيقة التاريخية؟
لقد قدم العديد من الكتاب معالجات أدبية لشخوص تاريخية .. في مسرحية ألفريد فرج "الزير سالم".. كيف يمكن أن تعرف حقيقة الزير سالم؟ تساؤلات عديدة.. عن هذه الشخصية التي تشابهت إلى حد كبير مع شخصية أوزوريس في التاريخ المصري القديم.. حكايته تتشابه مع حكاية أوزوريس وما فعله به أخوه "ست".. حتى حادثة القتل والنواح، وتقطيع الجثة.. وتطواف إيزيس لجمع أشلائه من جديد، إذن فالمبدع يدرك الأشياء علي نحو كما يراها ويحسها في الحقيقة الحياتية والمعرفية لديه.. حيث يقلب في منظور تاريخي وينتقد ما يريد، وربما يحور، ويستبدل كما أشرنا من قبل بهدف إثبات أن ما فعله هو إبداع خالص.. ليظل النص الأدبي مفتوح الدلالات.. منكشفاً على تأويل لا ينتهي، وتظل الحقيقة التاريخية غائبة .. وهنا يقول د.جابر عصفور : القول بأن التراث تجربة تاريخية في حاجة لإيضاح أكثر حتى لا يساء فهم المعنى ، وإذا كانت بعض مكونات الحاضر تنطوي بشكل أو بآخر علي عناصر ذلك الماضي البعيد فإنه من غير المعقول أبدا، وهذا ما أعنيه أن تكون مكونات واقعنا ليست إلا انعكاساً كاملاً لما كان عليه ماضينا بكل طبيعته وبكامل صورته.
إعادة إنتاج القديم
إن د. جابر عصفور يضيىء المشهد المعاصر بجميع جوانبه، فالمبدع لا يبتكر رموزاً جديدة تضاف إلي الرمز الموروث حيث يبدو النص الأدبي المعاصر في استلهامه للتاريخ، وكأنه يعيد إنتاج الرموز القديمة غير منتبه لحيوية الابتكار والخلق لرموز جديدة.. تشكل بدورها أصالتها وتأثيرها في وجدان المتلقي وتحقق أيضا الهدف التوظيفي الذي يرمي إليه الكاتب.
فالكتابة المعاصرة التي تستلهم التاريخ مازالت تكتب بذات الطريقة التي كتب بها جورجي زيدان رواياته التاريخية.. حيث وضع العمل الأدبي في مرتبة أدنى من "التاريخ" وانعدام التوازن لم يفد الاثنين معاً ؛ حيث تلك المنطقة المتأرجحة.. فلا صارت الرواية معنية بإنجاز عناصرها الجمالية.. ولا قدم التاريخ بأمانة تلزم القارئ بوجوب تصديق الأحداث.. لذلك جرت العادة لدي القارئ أن يضع الروايات التاريخية في مرتبة أقل من كتب التاريخ ؛ حيث يتم تحميلها العديد من المبالغات الصوفية، والوعظ والإرشاد المباشر .. وهذا لا يقبله القارئ إذن فالأمر كله في إطار المتخيل والإدراك الناقص للتاريخ.
وقد عبر د. يوسف إدريس عن رأيه في رواية "الزيني بركات" لجمال الغيطاني حين قال: "أنا أفضل رواية "الرفاعي" عن "الزيني بركات" لأن جمال الغيطاني ليس ابن إياس".
بين زيدان والغيطاني
في إطار ذلك أين الحدود الفاصلة بين ما هو تاريخي، وما هو أدبي؟
لقد حاول جورجي زيدان إدراك التاريخ بالأدب، وحاول جمال الغيطاني أيضا إدراك التاريخ بالأدب، لكنها مسافة التطور لآليات الكتابة الروائية وتحديث أساليب الرد هي التي حققت لجمال الغيطاني في روايته التي استلهمها من التاريخ المصري الإسلامي.. قدراً من الفنية العالية، وإحكام البنية الروائية.
في رأي للناقد الراحل فاروق عبد القادر إن تاريخنا المعاصر أهم مشروعاتنا الروائية لذلك فهو يتوقف عند خمسة مشروعات روائية عربية يري أنها الأم خلال العشر سنوات الأخيرة.. من "خماسية" مدن الملح للسعودي عبد الرحمن منيف، رباعية "مدارات الشرق" للسوري نبيل سليمان، ثلاثية المصري جميل عطية إبراهيم عن ثورة يوليو، رباعية الخسوف لليبي إبراهيم الكوني.. وثلاثية التحولات للسوري خيري الذهبي.
ويصف "عبد القادر" هذه الأعمال بأنها تتناول فترة تاريخية قريبة حيث لا يفضل استخدام تعبير "الرواية التاريخية" في وصف هذه الأعمال حيث يعني ذلك أنها تتناول فترة انتهت ويقول إنها تتناول التاريخ الذي شكلت نتائج أحداثه واقعنا، ولا تزال القوي التي صنعته حية ومؤثرة وفاعلة في واقعنا الراهن.. وتنوعت الأعمال الخمسة في رصد فترات تاريخية في سوريا، ومصر، وليبيا، والسعودية.. وقد كانت هذه الأعمال موضوعاً لبحث طرحه الناقد في مؤتمر عقد في المغرب وضم العديد من النقاد والروائيين حيث كانت الورقة الرئيسية للمؤتمر "التجربة الإبداعية الجديدة في الوطن العربي".. فقد لاحظ فاروق عبد القادر أن هذه الأعمال هي المفتاح الحقيقي لكتابة رواية عربية عن واقع معاصر لأن كاتبها عايش أحداث ومجريات الأمور فيها، كما تفهم طبيعة اللحظات الحاضرة، والسياق الاجتماعي فيها.. وحركة الإنسان وعلاقاته داخل حيز مكاني وزماني.. لذلك تبتعد هذه الروايات عن المتخيل والمختلق، وتقترب من الواقعي، والحقيقي، حيث لم يعد النص الأدبي مكشوفاً وعارياً من الصحة في رصده التاريخي، لذلك فالاستيعاب الكامل للمرحلة التاريخية يحقق للروائي إدراكاً تاريخياً غير منقوص، ويضيف أيضا شخصيات جديدة وهذا ما جسده لنا الروائي الكبير نجيب محفوظ حيث قدم أحمد عبد الجواد، زيطة صانع العاهات وغيرها من الشخصيات التي أصبحت رموزاً جديدة لدي القارئ وحملت معها القدرة على تشكيل وجدانه وأثرت حياته لما فيها من تقارب إنساني وتاريخي أيضاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.