جامعة الإسكندرية تبدأ غدًا استقبال طلاب المرحلة الأولى للتنسيق بالثانوية العامة    انقطاع الكهرباء 25 ساعة متواصلة يثير غضب أهالي زراعة الزقازيق    الحكومة الهولندية تتخذ إجراءات جديدة ضد إسرائيل بسبب قطاع غزة    غدًا.. منتخب الناشئين للكرة الطائرة يواجه بولندا في بطولة العالم بأوزبكستان    أخبار الحوادث اليوم.. مصرع طبيبين في حادث تصادم على الطريق الدائرى بالبساتين.. السجن 5 سنوات ل نجل عبد المنعم أبو الفتوح في اتهامه بالانضمام إلى جماعة إرهابية..    زياد الرحباني، موسيقار أحبّ دلال كرم وتغنّى بالوجع والفراق    قبل عرضه.. تفاصيل فيلم بيج رامى بطولة رامز جلال    نقيب الإعلاميين: كلمة الرئيس السيسي بشأن غزة رد عملي على حملات التضليل    «ما تراه ليس كما يبدو».. شيري عادل تستعد لتصوير حكاية "ديجافو"    اعتداء على طبيب بمستشفى أبو حماد بالشرقية، والصحة تتوعد الجناة    محمد عبد السميع يتعرض لإصابة قوية فى ودية الإسماعيلى وزد    مصطفى: مؤتمر حل الدولتين يحمل وعدا لشعب فلسطين بانتهاء الظلم    الداخلية: لا توجد تجمعات بالمحافظات والإخوان وراء هذه الشائعات    رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات: 424 مرشحًا فرديًا و200 بنظام القوائم ل انتخابات مجلس الشيوخ    محافظ جنوب سيناء يتابع تطوير محطة معالجة دهب والغابة الشجرية (صور)    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أزهري: الابتلاء أول علامات محبة الله لعبده    توقعات: دوري ملتهب وحار جدًا!    وزارة الصحة: حصول مصر على التصنيف الذهبي للقضاء على فيروس سي نجاح ل100 مليون صحة    تنفيذي الشرقية يكرم أبطال حرب أكتوبر والمتبرعين للصالح العام    نموذج تجريبي لمواجهة أزمة كثافة الفصول استعدادًا للعام الدراسي الجديد في المنوفية    بيراميدز يعلن رسمياً التعاقد مع البرازيلي إيفرتون داسيلفا    ديفيز: سعيد بالعودة للأهلي.. وهذه رسالتي للجماهير    كم سنويا؟.. طريقة حساب عائد مبلغ 200 ألف جنيه من شهادة ادخار البنك الأهلي    حزب الجيل: السيسي يعيد التأكيد على ثوابت مصر في دعم فلسطين    هل ظهور المرأة بدون حجاب أمام رجل غريب ينقض وضوءها؟.. أمينة الفتوى توضح    محافظ القاهرة يكرم 30 طالبا وطالبة من أوائل الثانوية العامة والمكفوفين والدبلومات الفنية    5 شركات تركية تدرس إنشاء مصانع للصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية في مصر    الحر الشديد خطر صامت.. كيف تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على القلب والدماغ؟    ختام فعاليات قافلة جامعة المنصورة الشاملة "جسور الخير (22)" اليوم بشمال سيناء    وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    موعد الصمت الدعائي لانتخابات مجلس الشيوخ 2025    مران خفيف للاعبي المصري غير المشاركين أمام الترجي.. وتأهيل واستشفاء للمجموعة الأساسية    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    التحقيق في وفاة فتاة خلال عملية جراحية داخل مستشفى خاص    متحدث نقابة الموسيقيين يعلن موعد انتخابات التجديد النصفي    السيسي: قطاع غزة يحتاج من 600 إلى 700 شاحنة مساعدات في الإيام العادية    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    "13 سنة وانضم لهم فريق تاني".. الغندور يثير الجدل حول مباريات الأهلي في الإسماعيلية    تصعيد خطير ضد الوجود المسيحي بفلسطين.. مستوطنون يعتدون على دير للروم الأرثوذكس    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي لأكثر من مليون فرد    "اوراسكوم كونستراكشون" تسعى إلى نقل أسهمها إلى سوق أبو ظبي والشطب من "ناسداك دبي"    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    بسبب لهو الأطفال.. حبس المتهم بإصابة جاره بجرح نافذ بأوسيم    مفوض حقوق الإنسان يدعو لاتخاذ خطوات فورية لإنهاء الاحتلال من أراضى فلسطين    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    المجلس الوزاري الأمني للحكومة الألمانية ينعقد اليوم لبحث التطورات المتعلقة بإسرائيل    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    بداية فوضى أم عرض لأزمة أعمق؟ .. لماذا لم يقيل السيسي محافظ الجيزة ورؤساء الأحياء كما فعل مع قيادات الداخلية ؟    محاكمة 8 متهمين بقضية "خلية الإقراض الأجنبي" اليوم    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إعادة انتاج التاريخ إبداعيا قد يغفل هوية الابتكار والتميز
نشر في صوت البلد يوم 21 - 12 - 2017

في الزمن القديم كان الراوي يسرد حكاياته على جمهور المستمعين وبالقرب منهم نار مشتعلة.. فإذا لم تعجبهم الحكايات ألقوا بالراوي في النار.. حكاية قديمة قد تكون مختلفة ضمن الحكايات والأساطير، والخرافات الشعبية التي توارثتها الأجيال الإنسانية وصارت إرثاً لها تحمل خصائصها في محيط الزمان والمكان الذي أنتج تلك الموروثات.
لكن الحكاية تكشف عن عمقها التاريخي.. فقد عرف الإنسان البدائي الحكاية.. وصار ما يعرف بالأدب الشفاهي، الذي يردده الناس بشكل مشاعي، وقد عرف التاريخ العربي العديد من هذه الحكايات.. التي عبرت عن أحزان وأفراح وهموم ذلك الإنسان عبر حقب تاريخية متعاقبة.. مواوييل من الفرح المغتصب من شقاء لا ينتهي.. إذن فالفنون ركزت على تاريخ إنساني خاص، وكتاب التاريخ قدموا رؤية عامة شملت علاقة الإنسان بالمكان في زمن محدد، ووضح الفرق منذ البداية بين الراوي والمؤرخ، وقد عرفنا الجبرتي، ابن إياس، ومن بعدهما عبد الرحمن الرافعي، كما عرفنا العديد من الروائيين الذين استلهموا التاريخ في أعمالهم الروائية.
كشف د. رفعت السعيد في كتابه "كتابات في التاريخ" عن الفرق بين المؤرخ والأديب.. فالأول ينقل التاريخ بحيادية كاملة وأمانة تقتضي منه ألا يحذف أية أحداث أو يهمش شخصيات ولا يلقي عليها الضوء ويستبعد رؤيته الخاصة أو مزاجه الشخصي حتى يتسنى رواية التاريخ كما حدث، أما الأديب فربما يستلهم شخصية ما أثرت في حقبة تاريخية، لكنه يضيف أو يغير من الأحداث وطبيعة الشخصية نفسها بما يتلاءم وعمله الأدبي، لذلك فالمؤرخ يدرك التاريخ إدراكاً كاملاً بينما يظل المبدع إدراكه للتاريخ ناقصاً.. حيث مسافة الإبداع شرط لانتمائها، يبدعه سواء كان رواية أو قصة أو مسرحية إلى الإبداع ذاته.
"محفوظ" والرواية التاريخية
كتب الروائي الكبير نجيب محفوظ ثلاثيته : عبث الأقدار، كفاح طيبة، رادوبيس، استهلم فيها التاريخ الفرعوني ليجسد البطولة وقوة الإنسان في مواجهة الظلم كإسقاط مباشر على واقع الاحتلال الإنجليزي لمصر قبل ثورة يوليو.. لكن الكاتب الكبير أدرك أن التاريخ القريب.. أو المعطيات الحاضرة حيث اللحظة التاريخية في سياقها الاجتماعي هي الأجدر بالتناول.. وذلك ما فعله في ثلاثيته الخالدة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية".
لكن: كيف نستدل من خلال أعمال أدبية تستمد مادتها من التاريخ على الحقيقة التاريخية؟
لقد قدم العديد من الكتاب معالجات أدبية لشخوص تاريخية .. في مسرحية ألفريد فرج "الزير سالم".. كيف يمكن أن تعرف حقيقة الزير سالم؟ تساؤلات عديدة.. عن هذه الشخصية التي تشابهت إلى حد كبير مع شخصية أوزوريس في التاريخ المصري القديم.. حكايته تتشابه مع حكاية أوزوريس وما فعله به أخوه "ست".. حتى حادثة القتل والنواح، وتقطيع الجثة.. وتطواف إيزيس لجمع أشلائه من جديد، إذن فالمبدع يدرك الأشياء علي نحو كما يراها ويحسها في الحقيقة الحياتية والمعرفية لديه.. حيث يقلب في منظور تاريخي وينتقد ما يريد، وربما يحور، ويستبدل كما أشرنا من قبل بهدف إثبات أن ما فعله هو إبداع خالص.. ليظل النص الأدبي مفتوح الدلالات.. منكشفاً على تأويل لا ينتهي، وتظل الحقيقة التاريخية غائبة .. وهنا يقول د.جابر عصفور : القول بأن التراث تجربة تاريخية في حاجة لإيضاح أكثر حتى لا يساء فهم المعنى ، وإذا كانت بعض مكونات الحاضر تنطوي بشكل أو بآخر علي عناصر ذلك الماضي البعيد فإنه من غير المعقول أبدا، وهذا ما أعنيه أن تكون مكونات واقعنا ليست إلا انعكاساً كاملاً لما كان عليه ماضينا بكل طبيعته وبكامل صورته.
إعادة إنتاج القديم
إن د. جابر عصفور يضيىء المشهد المعاصر بجميع جوانبه، فالمبدع لا يبتكر رموزاً جديدة تضاف إلي الرمز الموروث حيث يبدو النص الأدبي المعاصر في استلهامه للتاريخ، وكأنه يعيد إنتاج الرموز القديمة غير منتبه لحيوية الابتكار والخلق لرموز جديدة.. تشكل بدورها أصالتها وتأثيرها في وجدان المتلقي وتحقق أيضا الهدف التوظيفي الذي يرمي إليه الكاتب.
فالكتابة المعاصرة التي تستلهم التاريخ مازالت تكتب بذات الطريقة التي كتب بها جورجي زيدان رواياته التاريخية.. حيث وضع العمل الأدبي في مرتبة أدنى من "التاريخ" وانعدام التوازن لم يفد الاثنين معاً ؛ حيث تلك المنطقة المتأرجحة.. فلا صارت الرواية معنية بإنجاز عناصرها الجمالية.. ولا قدم التاريخ بأمانة تلزم القارئ بوجوب تصديق الأحداث.. لذلك جرت العادة لدي القارئ أن يضع الروايات التاريخية في مرتبة أقل من كتب التاريخ ؛ حيث يتم تحميلها العديد من المبالغات الصوفية، والوعظ والإرشاد المباشر .. وهذا لا يقبله القارئ إذن فالأمر كله في إطار المتخيل والإدراك الناقص للتاريخ.
وقد عبر د. يوسف إدريس عن رأيه في رواية "الزيني بركات" لجمال الغيطاني حين قال: "أنا أفضل رواية "الرفاعي" عن "الزيني بركات" لأن جمال الغيطاني ليس ابن إياس".
بين زيدان والغيطاني
في إطار ذلك أين الحدود الفاصلة بين ما هو تاريخي، وما هو أدبي؟
لقد حاول جورجي زيدان إدراك التاريخ بالأدب، وحاول جمال الغيطاني أيضا إدراك التاريخ بالأدب، لكنها مسافة التطور لآليات الكتابة الروائية وتحديث أساليب الرد هي التي حققت لجمال الغيطاني في روايته التي استلهمها من التاريخ المصري الإسلامي.. قدراً من الفنية العالية، وإحكام البنية الروائية.
في رأي للناقد الراحل فاروق عبد القادر إن تاريخنا المعاصر أهم مشروعاتنا الروائية لذلك فهو يتوقف عند خمسة مشروعات روائية عربية يري أنها الأم خلال العشر سنوات الأخيرة.. من "خماسية" مدن الملح للسعودي عبد الرحمن منيف، رباعية "مدارات الشرق" للسوري نبيل سليمان، ثلاثية المصري جميل عطية إبراهيم عن ثورة يوليو، رباعية الخسوف لليبي إبراهيم الكوني.. وثلاثية التحولات للسوري خيري الذهبي.
ويصف "عبد القادر" هذه الأعمال بأنها تتناول فترة تاريخية قريبة حيث لا يفضل استخدام تعبير "الرواية التاريخية" في وصف هذه الأعمال حيث يعني ذلك أنها تتناول فترة انتهت ويقول إنها تتناول التاريخ الذي شكلت نتائج أحداثه واقعنا، ولا تزال القوي التي صنعته حية ومؤثرة وفاعلة في واقعنا الراهن.. وتنوعت الأعمال الخمسة في رصد فترات تاريخية في سوريا، ومصر، وليبيا، والسعودية.. وقد كانت هذه الأعمال موضوعاً لبحث طرحه الناقد في مؤتمر عقد في المغرب وضم العديد من النقاد والروائيين حيث كانت الورقة الرئيسية للمؤتمر "التجربة الإبداعية الجديدة في الوطن العربي".. فقد لاحظ فاروق عبد القادر أن هذه الأعمال هي المفتاح الحقيقي لكتابة رواية عربية عن واقع معاصر لأن كاتبها عايش أحداث ومجريات الأمور فيها، كما تفهم طبيعة اللحظات الحاضرة، والسياق الاجتماعي فيها.. وحركة الإنسان وعلاقاته داخل حيز مكاني وزماني.. لذلك تبتعد هذه الروايات عن المتخيل والمختلق، وتقترب من الواقعي، والحقيقي، حيث لم يعد النص الأدبي مكشوفاً وعارياً من الصحة في رصده التاريخي، لذلك فالاستيعاب الكامل للمرحلة التاريخية يحقق للروائي إدراكاً تاريخياً غير منقوص، ويضيف أيضا شخصيات جديدة وهذا ما جسده لنا الروائي الكبير نجيب محفوظ حيث قدم أحمد عبد الجواد، زيطة صانع العاهات وغيرها من الشخصيات التي أصبحت رموزاً جديدة لدي القارئ وحملت معها القدرة على تشكيل وجدانه وأثرت حياته لما فيها من تقارب إنساني وتاريخي أيضاً.
في الزمن القديم كان الراوي يسرد حكاياته على جمهور المستمعين وبالقرب منهم نار مشتعلة.. فإذا لم تعجبهم الحكايات ألقوا بالراوي في النار.. حكاية قديمة قد تكون مختلفة ضمن الحكايات والأساطير، والخرافات الشعبية التي توارثتها الأجيال الإنسانية وصارت إرثاً لها تحمل خصائصها في محيط الزمان والمكان الذي أنتج تلك الموروثات.
لكن الحكاية تكشف عن عمقها التاريخي.. فقد عرف الإنسان البدائي الحكاية.. وصار ما يعرف بالأدب الشفاهي، الذي يردده الناس بشكل مشاعي، وقد عرف التاريخ العربي العديد من هذه الحكايات.. التي عبرت عن أحزان وأفراح وهموم ذلك الإنسان عبر حقب تاريخية متعاقبة.. مواوييل من الفرح المغتصب من شقاء لا ينتهي.. إذن فالفنون ركزت على تاريخ إنساني خاص، وكتاب التاريخ قدموا رؤية عامة شملت علاقة الإنسان بالمكان في زمن محدد، ووضح الفرق منذ البداية بين الراوي والمؤرخ، وقد عرفنا الجبرتي، ابن إياس، ومن بعدهما عبد الرحمن الرافعي، كما عرفنا العديد من الروائيين الذين استلهموا التاريخ في أعمالهم الروائية.
كشف د. رفعت السعيد في كتابه "كتابات في التاريخ" عن الفرق بين المؤرخ والأديب.. فالأول ينقل التاريخ بحيادية كاملة وأمانة تقتضي منه ألا يحذف أية أحداث أو يهمش شخصيات ولا يلقي عليها الضوء ويستبعد رؤيته الخاصة أو مزاجه الشخصي حتى يتسنى رواية التاريخ كما حدث، أما الأديب فربما يستلهم شخصية ما أثرت في حقبة تاريخية، لكنه يضيف أو يغير من الأحداث وطبيعة الشخصية نفسها بما يتلاءم وعمله الأدبي، لذلك فالمؤرخ يدرك التاريخ إدراكاً كاملاً بينما يظل المبدع إدراكه للتاريخ ناقصاً.. حيث مسافة الإبداع شرط لانتمائها، يبدعه سواء كان رواية أو قصة أو مسرحية إلى الإبداع ذاته.
"محفوظ" والرواية التاريخية
كتب الروائي الكبير نجيب محفوظ ثلاثيته : عبث الأقدار، كفاح طيبة، رادوبيس، استهلم فيها التاريخ الفرعوني ليجسد البطولة وقوة الإنسان في مواجهة الظلم كإسقاط مباشر على واقع الاحتلال الإنجليزي لمصر قبل ثورة يوليو.. لكن الكاتب الكبير أدرك أن التاريخ القريب.. أو المعطيات الحاضرة حيث اللحظة التاريخية في سياقها الاجتماعي هي الأجدر بالتناول.. وذلك ما فعله في ثلاثيته الخالدة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية".
لكن: كيف نستدل من خلال أعمال أدبية تستمد مادتها من التاريخ على الحقيقة التاريخية؟
لقد قدم العديد من الكتاب معالجات أدبية لشخوص تاريخية .. في مسرحية ألفريد فرج "الزير سالم".. كيف يمكن أن تعرف حقيقة الزير سالم؟ تساؤلات عديدة.. عن هذه الشخصية التي تشابهت إلى حد كبير مع شخصية أوزوريس في التاريخ المصري القديم.. حكايته تتشابه مع حكاية أوزوريس وما فعله به أخوه "ست".. حتى حادثة القتل والنواح، وتقطيع الجثة.. وتطواف إيزيس لجمع أشلائه من جديد، إذن فالمبدع يدرك الأشياء علي نحو كما يراها ويحسها في الحقيقة الحياتية والمعرفية لديه.. حيث يقلب في منظور تاريخي وينتقد ما يريد، وربما يحور، ويستبدل كما أشرنا من قبل بهدف إثبات أن ما فعله هو إبداع خالص.. ليظل النص الأدبي مفتوح الدلالات.. منكشفاً على تأويل لا ينتهي، وتظل الحقيقة التاريخية غائبة .. وهنا يقول د.جابر عصفور : القول بأن التراث تجربة تاريخية في حاجة لإيضاح أكثر حتى لا يساء فهم المعنى ، وإذا كانت بعض مكونات الحاضر تنطوي بشكل أو بآخر علي عناصر ذلك الماضي البعيد فإنه من غير المعقول أبدا، وهذا ما أعنيه أن تكون مكونات واقعنا ليست إلا انعكاساً كاملاً لما كان عليه ماضينا بكل طبيعته وبكامل صورته.
إعادة إنتاج القديم
إن د. جابر عصفور يضيىء المشهد المعاصر بجميع جوانبه، فالمبدع لا يبتكر رموزاً جديدة تضاف إلي الرمز الموروث حيث يبدو النص الأدبي المعاصر في استلهامه للتاريخ، وكأنه يعيد إنتاج الرموز القديمة غير منتبه لحيوية الابتكار والخلق لرموز جديدة.. تشكل بدورها أصالتها وتأثيرها في وجدان المتلقي وتحقق أيضا الهدف التوظيفي الذي يرمي إليه الكاتب.
فالكتابة المعاصرة التي تستلهم التاريخ مازالت تكتب بذات الطريقة التي كتب بها جورجي زيدان رواياته التاريخية.. حيث وضع العمل الأدبي في مرتبة أدنى من "التاريخ" وانعدام التوازن لم يفد الاثنين معاً ؛ حيث تلك المنطقة المتأرجحة.. فلا صارت الرواية معنية بإنجاز عناصرها الجمالية.. ولا قدم التاريخ بأمانة تلزم القارئ بوجوب تصديق الأحداث.. لذلك جرت العادة لدي القارئ أن يضع الروايات التاريخية في مرتبة أقل من كتب التاريخ ؛ حيث يتم تحميلها العديد من المبالغات الصوفية، والوعظ والإرشاد المباشر .. وهذا لا يقبله القارئ إذن فالأمر كله في إطار المتخيل والإدراك الناقص للتاريخ.
وقد عبر د. يوسف إدريس عن رأيه في رواية "الزيني بركات" لجمال الغيطاني حين قال: "أنا أفضل رواية "الرفاعي" عن "الزيني بركات" لأن جمال الغيطاني ليس ابن إياس".
بين زيدان والغيطاني
في إطار ذلك أين الحدود الفاصلة بين ما هو تاريخي، وما هو أدبي؟
لقد حاول جورجي زيدان إدراك التاريخ بالأدب، وحاول جمال الغيطاني أيضا إدراك التاريخ بالأدب، لكنها مسافة التطور لآليات الكتابة الروائية وتحديث أساليب الرد هي التي حققت لجمال الغيطاني في روايته التي استلهمها من التاريخ المصري الإسلامي.. قدراً من الفنية العالية، وإحكام البنية الروائية.
في رأي للناقد الراحل فاروق عبد القادر إن تاريخنا المعاصر أهم مشروعاتنا الروائية لذلك فهو يتوقف عند خمسة مشروعات روائية عربية يري أنها الأم خلال العشر سنوات الأخيرة.. من "خماسية" مدن الملح للسعودي عبد الرحمن منيف، رباعية "مدارات الشرق" للسوري نبيل سليمان، ثلاثية المصري جميل عطية إبراهيم عن ثورة يوليو، رباعية الخسوف لليبي إبراهيم الكوني.. وثلاثية التحولات للسوري خيري الذهبي.
ويصف "عبد القادر" هذه الأعمال بأنها تتناول فترة تاريخية قريبة حيث لا يفضل استخدام تعبير "الرواية التاريخية" في وصف هذه الأعمال حيث يعني ذلك أنها تتناول فترة انتهت ويقول إنها تتناول التاريخ الذي شكلت نتائج أحداثه واقعنا، ولا تزال القوي التي صنعته حية ومؤثرة وفاعلة في واقعنا الراهن.. وتنوعت الأعمال الخمسة في رصد فترات تاريخية في سوريا، ومصر، وليبيا، والسعودية.. وقد كانت هذه الأعمال موضوعاً لبحث طرحه الناقد في مؤتمر عقد في المغرب وضم العديد من النقاد والروائيين حيث كانت الورقة الرئيسية للمؤتمر "التجربة الإبداعية الجديدة في الوطن العربي".. فقد لاحظ فاروق عبد القادر أن هذه الأعمال هي المفتاح الحقيقي لكتابة رواية عربية عن واقع معاصر لأن كاتبها عايش أحداث ومجريات الأمور فيها، كما تفهم طبيعة اللحظات الحاضرة، والسياق الاجتماعي فيها.. وحركة الإنسان وعلاقاته داخل حيز مكاني وزماني.. لذلك تبتعد هذه الروايات عن المتخيل والمختلق، وتقترب من الواقعي، والحقيقي، حيث لم يعد النص الأدبي مكشوفاً وعارياً من الصحة في رصده التاريخي، لذلك فالاستيعاب الكامل للمرحلة التاريخية يحقق للروائي إدراكاً تاريخياً غير منقوص، ويضيف أيضا شخصيات جديدة وهذا ما جسده لنا الروائي الكبير نجيب محفوظ حيث قدم أحمد عبد الجواد، زيطة صانع العاهات وغيرها من الشخصيات التي أصبحت رموزاً جديدة لدي القارئ وحملت معها القدرة على تشكيل وجدانه وأثرت حياته لما فيها من تقارب إنساني وتاريخي أيضاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.