وزير الأوقاف: مبادرة «صحح مفاهيمك» مشروع وطني شامل    أحمد الحمامصي: يوجد تنوع فكري في القائمة الوطنية    الغرف التجارية: انخفاضات ملحوظة في أسعار الدواجن وبيض المائدة    وزير الخارجية يستعرض مع ويتكوف جهود مصر لاستئناف المفاوضات حول البرنامج النووى الإيراني    سموتريتش يطالب بممر إنساني فوري للدروز المحاصرين في السويداء السورية    مصر ترفع رصيدها إلى 57 ميدالية متنوعة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    رونالدو يقود النصر للفوز على تولوز الفرنسي وديا    تعرض شاب لإصابة بطلقات نارية في حادث غامض بمحافظة قنا    كمين الفجر.. "أنت مش عارف أنا مين؟!".. ضابط يواجه "ابن المستشار" ويكشف جريمة كبرى!.. "سكودا" غامضة تقود إلى شبكة مخدرات وكارنيهات قضاة مزيفة!    الكينج محمد منير: "أنا الذي" هدية لأهلى وناسي وكل شهر أطرح أغنية    شادي سرور: المسرح يفرز النجوم ويصنع الخريطة الفنية الحقيقية في مصر    زيد الأيوبى ل"ستوديو إكسترا": حماس أداة لقوى إقليمية وحكمها فى غزة انتهى    ترامب: سأسمح للاجئين الأوكرانيين بالبقاء في الولايات المتحدة حتى انتهاء الحرب    إدارة ترامب تطالب حكومات محلية بإعادة مساعدات مالية لمكافحة كورونا    ضبط 333 كيلو أسماك مملحة غير صالحة للاستهلاك ب كفر الشيخ (صور)    بتكلفة تتجاوز 90 مليون جنيه.. متابعة أعمال تطوير وصيانة المدارس ضمن برنامج «المدارس الآمنة»    رسميًا.. صرف معاشات شهر أغسطس 2025 بالزيادة الجديدة خلال ساعات    استعدادا للموسم الجديد.. الأهلي يواجه بتروجت والحدود وديًا الأحد المقبل    مثالي لكنه ينتقد نفسه.. صفات القوة والضعف لدى برج العذراء    طريقة عمل المهلبية بالشيكولاتة، حلوى باردة تسعد صغارك فى الصيف    نتنياهو: أسقطنا المساعدات على غزة وحماس تسرقها من المدنيين    مدبولي يشهد إطلاق وزارة الأوقاف مبادرة "صحح مفاهيمك"    بالصور.. أشرف زكي وأحمد فتحي في عزاء شقيق المخرج خالد جلال    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    الشيخ خالد الجندي: الرسول الكريم ضرب أعظم الأمثلة في تبسيط الدين على الناس    وزير العمل: بدء اختبارات المرشحين للعمل في الأردن    بواقع 59 رحلة يوميًا.. سكك حديد مصر تُعلن تفاصيل تشغيل قطارات "القاهرة – الإسماعيلية – بورسعيد"    محمد إسماعيل: هدفي كان الانتقال إلى الزمالك من أجل جماهيره    تأجيل دعوى عفاف شعيب ضد المخرج محمد سامي بتهمة السب والقذف    البيت الفني للمسرح ينعى الفنان لطفي لبيب    تايلاند وكمبوديا تؤكدان مجددا التزامهما بوقف إطلاق النار بعد اجتماع بوساطة الصين    فيديو.. ساموزين يطرح أغنية باب وخبط ويعود للإخراج بعد 15 عاما من الغياب    مصر تواجه تونس في ختام الاستعدادات لبطولة العالم لكرة اليد تحت 19 عامًا    ناجلسمان: تير شتيجن سيظل الحارس الأول للمنتخب الألماني    رئيس جامعة المنيا يحفّز الأطقم الطبية قبيل زيارة لجان اعتماد مستشفيي الكبد والرمد الجامعيين    أهمية دور الشباب بالعمل التطوعي في ندوة بالعريش    ترامب: الهند ستدفع تعريفة جمركية بنسبة 25% اعتبارًا من أول أغسطس    أحمد درويش: الفوز بجائزة النيل هو تتويج لجهود 60 عاما من العمل والعطاء    سباحة - الجوادي يحقق ذهبية سباق 800 متر حرة ببطولة العالم    هبوط أرضي مفاجئ في المنوفية يكشف كسرًا بخط الصرف الصحي -صور    الليلة.. دنيا سمير غانم تحتفل بالعرض الخاص ل «روكي الغلابة»    لماذا ينصح الأطباء بشرب ماء بذور اليقطين صباحًا؟    جامعة بنها الأهلية تختتم المدرسة الصيفية لجامعة نانجينج للطب الصيني    ختام موسم توريد القمح في محافظة البحيرة بزيادة 29.5% عن العام الماضي    النيابة العامة: الإتجار بالبشر جريمة تتعارض مع المبادئ الإنسانية والقيم الدينية    "زراعة الشيوخ": تعديل قانون التعاونيات الزراعية يساعد المزارعين على مواجهة التحديات    لترشيد الكهرباء.. تحرير 145 مخالفة للمحلات التي لم تلتزم بقرار الغلق    محافظ أسوان يوجه بالانتهاء من تجهيز مبني الغسيل الكلوي الجديد بمستشفى كوم أمبو    أبو مسلم: جراديشار "مش نافع" ولن يعوض رحيل وسام ابو علي.. وديانج يمتلك عرضين    انكسار الموجة الحارة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة    استراتيجية الفوضى المعلوماتية.. مخطط إخواني لضرب استقرار مصر واستهداف مؤسسات الدولة    البورصة المصرية تطلق مؤشر جديد للأسهم منخفضة التقلبات السعرية "EGX35-LV"    إعلام كندي: الحكومة تدرس الاعتراف بدولة فلسطين    مصرع عامل اختل توازنه وسقط من أعلى سطح المنزل في شبين القناطر    سعر الفول والسكر والسلع الأساسية بالأسواق اليوم الأربعاء 30 يوليو 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



همس النجوم .. ومورفولوجيا القص المحفوظي وتشكلاته
نشر في أخبار السيارات يوم 12 - 01 - 2019

تمثل قصص نجيب محفوظ بشكل عام النموذج المثالي للحال الإبداعية التي يكون فيها النص برنامجا أو منظومة لإنتاج المعنى، هو دائما ما يضع قيما في مقابل أخرى ولكن الجميل في تقديرنا أنه يذوّب الصورة الأولية للدلالة وتصبح هذه القيم غائرة وغير مكشوفة أو غير بدائية ساذجة، بل تصبح في أعلى مراتب التذويب الفني والتحلل في تربة الثقافة والواقع الاجتماعي ومفرادتهما. الخير في مقابل الشر أو النور في مقابل الظلام أو العلم في مقابل الجهل أو الحق في مقابل الباطل هي المادة القيمية التي يشكل منها قصصه وسرده بشكل عام، ولكن المعالجة السردية أو ما يسمى لدى السميائيين بالترهين والتحيين والتخطيب، هي التي تصنع الأسلوب وتنتج هذه الفرادة الأدبية. أتصور أن كثيرا من الجهود النقدية استهلكت نفسها في محاولات لكشف مضامين نجيب محفوظ والاشتغال على مسألة التفسير والتأويل عبر مسارات أقرب للحدس منها إلى منهج علمي أو برنامج قرائي له إجراءاته التي تقابل البرنامج السردي والإبداعي بإجراءاته وخطواته. جوهر الإبداع في تقديري وخصوصية السرد تتكشف في هذه المرحلة التحويلية التي تأخذ فيها الأفكار الكبرى وهذه العلاقات الافتراضية بين القيم من تقابلات أو صراع بين الخير والشر شكل قصة في مكان معين وبيئة معينة وثقافة محددة ووفق هيئة إنسانية أو تشخيصية محددة دون أخرى. وأتصور أن هذه هو المسار النقدي الأكثر دقة لمقاربة خطاب محفوظ السردي لمعرفة أكبر بسماته وتفرده وفق تحديدات علمية وليس مجرد مزاعم أو رؤى فردية من هنا وهناك. كما كتب محمد شعير في تقديمه لهذه القصص الثماني عشرة التي نشرت في مجموعة همس النجوم لا تختلف هذه القصص كثيرا عن عوالم نجيب محفوظ، فكلها تدور في الحارة والأنماط الإنسانية التي أنتجها هي المعروفة في الأعمال الأخرى، مثل شيخ الحارة وإمام الزاوية ورجال القبو من الصعاليك والحرافيش أو بقية الشعب خارج دوائر السلطة، وكذلك هناك دائما التاجر الكبير صاحب النفوذ عبر أمواله وهو قريب دائما للسلطة ولشيخ الحارة وله علاقة قوية به، وكأنه دائما نموذج الرأسمالية التي تحكم بشكل غير مباشر وصاحبة نصيب كبير في السلطة ليس فقط على مستوى الدولة ولكن على مستوى العالم كله، فالحارة عنده دائما وليس في مجموعة همس النجوم فقط هي مثال للعالم أو للوجود كله. وكذلك لديه أنماط ثابتة من العائدين إلى الحارة بعد مدة غياب غامضة يعودون محملين بالأسرار والاختلافات في الهيئة، وهي غالبا ما تكون اختلافات جوهرية تخص الحكمة أو المعرفة أو الولاية بالمعنى الديني أو سمات نفسية كالإصرار على الثأر أو الإصرار على إصلاح ما أفسدوه سابقا. فالأنماط تقريبا هي هي نفسها التي تحصرها رواية الحرافيش حصرا، ورواية الحرافيش في تقديري هي النموذج الفني الشامل والأكثر اكتمالا وجمالا لدى نجيب محفوظ. هناك كذلك بين شخصيات هذه المجموعة وأنماطها الإنسانية التي أنتجها سردها شخصيات ترتبط بالغيب أو تصبح ذات طبيعة سماوية أو وسيطة بين الواقع المادي أو الفيزيقي وبين الماورائيات والغيب، شخصيات تبدو مسخَّرة أو مدفوعة بشكل قدري نحو أداء رسالة أو إنجاز تكليف غامض. ثمة كذلك شخصيات ذات طبيعة أو بنية خرافية عجائبية أو أقرب للموروث الجمعي والأسطوري المقابل للعقل مثل قارئات الغيب أو ضاربات الرمل والودع وأولياء الله الصالحين الذين يعرفون الأسرار والغيب ولا يملكون إلا التلميح دون التصريح والبوح. وما قد يكون لافتا أو يدعو للتساؤل هو غياب نمط الفتوة عن قصص هذه المجموعة، وربما يكون الفاعل في هذا هو كونها كُتبت في مرحلة متأخرة وهذا النموذج تحديدا قد تم استهلاكه إلى حد بعيد من قبل محفوظ نفسه وأصبح واضحا في دلالته على السلطة، بينما ظل نمط شيخ الحارة هو المهيمن وهو العنصر الثابت في كل القصص وفي تقديري أنه يشير إلى العقل والحكمة دون أي معنى في التراتب الطبقي أو السلطوي، فشيخ الحارة في هذه المجموعة أقرب إلى نموذج تجريدي يراقب ويحلل ويمنح الرأي المتوازن ويقوم بأدوار توفيقية أو تأليفية بين المعاني والقيم المتصارعة، فهو يتوسط بين الخير والشر ويحاول التهدئة أو صنع التوازن، ويميل دائما إلى تجاوز الغيبيات ويصدق فقط المادي والمحسوس وهذا ما نراه في أكثر من موضع، فهو لا يميل مثلا إلى آراء غيبية فيما يخص السهم المجهول الذي قتل المعلم زين البركة في قصة السهم، وكذلك يرفض التفسيرات غير العلمية في العاصفة التي اجتاحت الحارة ، وكذلك يرفض هذه التفسيرات في ظاهرة غريبة أخرى تجتاح الحارة وهي عدوى البكاء الشديد المجهول الأسباب في قصة (نصيبك من الحياة).
قصص هذه المجموعة مثل كافة نصوص نجيب محفوظ السردية سواء الرواية والقصة تقارب الكليات أو السرديات الكبري وتجعل من الحارة برنامجها السردي الذي يغير في مكوناته ووظائفه ليصنع قصصا جديدة ويولد الحكايات المختلفة من العناصر نفسها. بمعنى أنها كتابة تنتمي لعصرها المشغول بالكليات وبالقيم الكبرى مثل الخير والشر والظلم والعدل والحرية والاستعباد والعلم والجهل والنور والظلام... إلخ. والحقيقة كذلك أنه يجب مقاربة قصص هذه المجموعة في إطار السردي المحفوظي نفسه ودون انفصال عنه لأن هذا قد يسهم في كشف الاختلاف فيها أو ما بها من تطور أو ربما إخفاق ناتج عن ضعف في القدرات الحيوية لنجيب محفوظ الذي هو في النهاية إنسان يمر بكافة مراحل القوة والضعف البدني والذهني، وجزء مهم من أسطورته ونجاحه العظيم يتمثل في هذه الطبيعة البشرية التي تمكنت عبر منهج تفكيري وكتابي وإبداعي معين من إنجاز هذا الإنتاج السردي الضخم والفريد كما وكيفا. هذه القصص بما فيها من الإمكانات والقدرات السردية الأكيدة وبما قد يشوبها من القصور أو الضعف في منظومتها البنائية تسهم في الكشف عن القواعد والقوانين الضمنية الكامنة في عقل محفوظ أو ذهنيته المنتجة للحكايات والسرد. والحقيقة أن من الأمانة أن أبوح هنا بما شعرت به حيال بعض قصص هذه المجموعة من وجود عطب ما أو خلل ما في بنيتها السردية أو في البرنامج الحكائي للقصص، فالقصص وفق رؤية السيميائية السردية تأخذ شكل خطاطة سردية تبدأ في التكون في العقل وفق نموذج افتراضي أقرب لقاعدة رياضية تضع معنى في مقابل معنى أو قيمة في مقابل أخرى، وكذلك تبدأ بما يسمى بالبنية الأولية للدلالة أو النموذج التأسيسي أو التكويني، ثم مرحلة التحيين والترهين، وبعد ذلك التخطيب أي تحويل هذه البنى الأولية إلى خطاب سردي تتجلى فيه هذه القيم عبر شخصيات وأحداث وأفعال ومشاعر أو ما يسمى بالتوتير وسيمياء الأهواء أي العواطف والمشاعر مثل الغيرة والحب والغضب والكراهية وغيرها التي تنتج الأفعال أو تتسبب في الحدث وتخلق حالا من التوتر في بنية الخطاب السردي وتسهم في جعل المتلقي في أكبر حالات التشويق والترقب للقادم من بنية الخطاب السردي. القيمة الدلالية الواحدة الكامنة في العقل أو التي يبدأ منها تكوين الحكاية بشكل افتراضي أشبه بمعادلة رياضية مثل قيمة الثأر تأخذ وضعيات حضور مختلفة في السرد بحسب البيئة أو الثقافة التي سيتم صنع الترهين والتحيين منها، أي الثقافة أو البنية الاجتماعية والمعرفية هذه التي سيتم تطبيق قيمة الثأر عليها. فصراع الفتوات في الحارة يختلف عن الصراع في بيئة أخرى كالصعيد المصري، الثأر لدى الحرافيش الذين يريدون تحقيق العدالة واستعادة الحقوق غير الثأر عند رجال العصابات أو التنظيمات الإجرامية في أعمال أخرى أو لدى كتاب آخرين، الثأر في الثقافة العربية أو في المجتمع المصري على سبيل التمثيل يأخذ شكلا مغايرا عنه في مجتمع غربي أو في ثقافات شرق آسيا. وكذلك فكرة الحصول على الحبيبة أو قيمة النضال من أجل الحب تأخذ أشكالا سردية عدة بحسب الثقافة وبحسب تنويعات الكاتب نفسه ومغايراته في أدواته ومعادلاته أو قدرته على إنتاج أكثر من تطبيق سردي للنموذج الواحد، ففي حالات قد ينتقم الحبيب إذا فقد حبيبته وفي حالات أخرى يكون مصرا على الهرب بها أو يواجه المجتمع والأهل وينتصر عليهم أو ينهزم، وهكذا.
قصص مجموعة همس النجوم على قدر كبير من التشويق برغم كونها تنتمي لعوالم نجيب محفوظ التي قد نتصور أنها مكررة أو مستهلكة. فالحقيقة أن الملكات والقدرات السردية الخاصة بالزمن وترتيب وحدات الحكاية وأحداثها في الخطاب السردي تنتج حالا من التوتر والتحفيز وتجعل القارئ شريكا من البداية في رحلة بحث - طويلة أو قصيرة بحسب فضاء النص – عن لغز أو سر أو يحاول أن يفهم هذا العالم الغريب أو الحالة الغريبة التي ينتجها السرد. في قصة مطاردة التي هي نموذج رمزي بسيط على فكرة تعقب صاحب الحق لحقه وإصراره عليه ودور شيخ الحارة في التوفيق بين زكية صاحبة الحق والمعلم عثمان ظالمها، ولا تزيد عن هذا من حيث محتواها الدلالي أما جماليا فنجد أن البنية السردية تزيد على هذا لتنتج قدرا من التشويق والتوتر عبر التفاصيل الصغيرة والمشهدية التي ترصد المشاعر وما وراء الكلام والكامن في نفوس الشخصيات. فالمعلم عثمان لا يتحدث مع زكية المرابطة بالحلوى عند باب دكانه بوليدها على ذراعها إلا حين يجد المكان خاليا، وحين يتكلم يتكلم همسا، ليكون باحثا عن التخفي وهو ما يمكن استثماره تفسيريا لاستنتاج كونه هو والد الطفل ومنكره أي أنه هو الذي يسلب الأم وطفلها حق الاعتراف بالأبوة والنسب دون البيوت التلاث الأولى التي ألمحت إليها بنية السرد في أول القصة حين تجولت زكية في أول مشهد بين البيوت الثلاثة في أول دخول إلى الحارة والعودة إليها بالطفل على ذراعها. وغيرها من مواضع التوتير/ صنع التوتر وتشكيل البنية الشعورية للشخوص، فنجدها كذلك على قدر من التشويق في موضع آخر من القصة حين ينقل شيخ الحارة عرض المعلم عثمان إلى زكية فتصمت زكية مدة طويلة تحفز المتلقي على تخيل احتمالات عدة لردة فعلها بين القبول والرفض أو الثورة والعنف سواء ضد المعلم عثمان وحده أو شيخ الحارة أو ضدهما معا. وتتكرر هذه اللعبة السردية من القدرة على إنتاج التشويق وصنع التوتر في هذه القصة وغيرها.
وفي قصة توحيدة تنتج شعرية القصة من موقع الراوي أو زاوية الرؤية بشكل خاص لأن السرد الذي يأتي على لسان الراوي المشارك أي الحاضر في القصة ويتحدث بصيغة المتكلم يصبح في موضع المراقبة لتطورات الزمن وما يصنعه في النفوس والشخصيات وكأنه هو البطل الثابت أو الفاعل الأوحد في الجميع يبدل فيهم كيفما يشاء. فهذه الزاوية للرصد أو نقل الأحداث والإحساس بها هي أبرز ما في القصة من الوضعيات الفنية المناسبة لأن عبرها تجلت مشاعر الشخصية التي باحت بآثار الزمن على الآخرين وكيف شعر بالغربة بعدما هيمنت فاعلية الزمن في الوجود حول صاحب الصوت في القصة وغيرت عناصر عالمه بالموت والهجرة أو الارتحال والخروج من الحارة أو ما يكون من تطور في التعليم أو الثقافة أو الوعي بحيث يصبح الكون أو الوجود شيئا آخر مختلفا عما ترسخ في وجدان هذا المراقب في الطفولة، ويكون هذا هو السبب المباشر في تكريس الشعور بالاغتراب وتبدد الألفة.
على أن السمة الأبرز في هذه القصص هو طاقاتها الرمزية النادرة أو غير المتكررة أو نادرة التوافر عند غيره من الكتاب الآخرين أو النصوص السردية الأخرى المصمتة إن جاز التعبير، فسمة مهمة من سمات سرد محفوظ بشكل عام وسرد هذه القصص أنها تحمل مستويات دلالية أبعد بكثير من مجرد الحال الواقعية التي جسدتها عبر شخصياتها وأحداثها، فهي ليست مجرد حالات من الظلم الإنساني العادي بقدر ما هي محاولات للتأريخ للإنسانية أو التعبير بشكل رمزي عن الحوادث الكبرى في هذا الوجود وبخاصة ما يخص الرسالات السماوية أو علاقة الأرض بالسماء أو الوجود المادي بالغيب والآلهة. وهذا الطابع الرمزي هو تعديد في الأساس لمستويات القراءة ولا يحدث فيه أدنى تعسف بل إن العلامات الدالة أو المشكلة للنص وكذلك المنظومة السردية نفسها المتمثلة في منطق الخطاب بعد تضام وحداته وتفاعلها مع بعضها تتيح هذه الفرضية التأويلية المنبنية على الرمز، إذ تقدر هذه البنية السردية للنصوص على الإيحاء والاشتباك غير المباشر مع أبنية معرفية خارج السرد من قصص تاريخية كبرى. فمثلا قصة نبقة في الحصن القديم يمكن فهمها بحسب عقلي أنا الاستقبالي أو القرائي على أنها أحد تجليات قصة النبي محمد في ذهن نجيب محفوظ، ومثلها بالضبط قصة ابن الحارة، فالقصتان تكرسان لبناء النموذج الإنساني المكلف برسالة أو المسخر لأداء مهمة غيبية غامضة، يعرف الأسرار أو يُوحَى إليه عبر صوت غامض في الحصن القديم ويعمل على أداء هذه الرسالة بأمانة وتجرد ولكن آثار هذه الرسالة أو تأثير حضورها في عالم الحارة هو الذي يكون نقطة تحول كبرى في حياتها أو في عمر هذا الوجود، في قصة ابن الحارة ينتج السرد في البداية نموذجا تعمل عوامل عدة على جعله مصدقا أو أمينا ومخلصا ويعتقد الناس فيه اعتقادا حسنا، بما يعني تأهيله للرسالة الغيبية، ثم بعدها يأتيه الصوت الذي يكلفه بالذهاب إلى المعلم زاوي وأمره برد الحقوق المسلوبة إلى أهلها، فيذهب إليه ويلقى منه أذى شديدا ولكنه يكون مثالا في الصبر وقوة التحمل ويعاود التبليغ مرات ومرات ويتضاعف الأذى ويظل صامدا بعدما تيقن من الرسالة الغيبية التي وصلت إليه بتكرار وإصرار. المهم في هذه القصة هو ما ينتج عن هذه التكليفات من الصدام بين البشر وشيوع القتل والحرب في الحارة، فأهل القبو من الفقراء والمظلومين انضموا إلى ابن الحارة يساندونه ضد المعلم زاوي، أو كما جاء في سرد محفوظ نفسه بأنها (كانت ليلة سوداء كما وصفها إمام الزاوية. امتلأ المكان بالغاضبين وسالت الدماء وسقط زاوي كما سقط ابن الحارة لإعادة النظام وهو يعجب من كثرة الجرحى). ومثل القصتين تقريبا قصة شيخون التي لا تختلف كثيرا، فهذه المرة يأتي شيخون بعد غياب ولكنه محمل بالحكمة ومعرفة الغيب، ولكني هذه المرة أراه يميل إلى نموذج آخر من الرسالات السماوية التي تقترن بمداواة المرضى ويتم رفعها عن الناس بشكل غريب أو سحبها إلى السماء في أوج تأثيرها أو في اللحظة التي ينتظر منها المؤمنون بها الكثير من الخير والتغيير. لكن النهاية في هذه القصة تأتي على نحو ساخر ومباشر وظريف. وأتصور أن كثيرا من قصص هذه المجموعة لمحفوظ موقف فني معين منها تسبب في جعله لا ينشرها في مجموعة، ولا يعني هذا عتابا على من نشروها أو رفضا للنشر، بل هو مجرد باعث يدعم البحث في خصوصيتها البنائية ومراقبة منظومتها المنتجة للمعنى، فبعضها يبدو مباشرا أو لم يتم تذويب القيمة الدلالية الأولية أو إخفاء المرموز إليه أو ما وراء الرمز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.