ظل الاحتفال برأس السنة حلما مُؤجلا، وبقيت القصص المرتبطة به أشبه بالأساطير التي نتداولها في مراهقتنا. كان أقصي ما نفعله هو إطلاق الأمنيات بأن يمن علينا التليفزيون بسهرة جذابة، تجعلنا نلتف حوله في زمن لم تكن الفضائيات قد ظهرت للوجود بعد، وكانت شبكة الإنترنت خارج نطاقات خيالاتنا. وفي اليوم التالي يغيب البعض متعمّدين عن الدراسة، ليعودوا بعدها مُحمّلين بقصص مُختلقة عن ليلة تنتمي لليالي ألف ليلة، خاصة عند حديثهم عن تلك اللحظة الحاسمة بين عامين، التي تنطفئ بها الأنوار وتمنع الرقابة حكي ما يدور بها! كان الأصدقاء »النصّابون» ينسجون قصصا تحتاج تفاصيلها لساعات إذا وقعت في الحقيقة، بينما لا يستغرق الظلام سوي لحظات، ورغم ذلك كنا نُصدقها علي سذاجتها، ربما لأنها تغازل خيالاتنا. تذكرتُ كل ذلك وأنا أتابع محاولات ابني لقضاء ليلة مختلفة مع أصدقائه، لكنها باءت بالفشل نتيجة الاعتذارات المتتابعة، وفي النهاية عاد من الخارج في العاشرة مساء، وظل مصمما علي عدم تغيير ملابسه، ليمنح نفسه شعورا كاذبا بأنه علي وشك الخروج! ومع دقات الثانية عشرة قرر سيف الدين أن يبادر بفعل إيجابي، فلجأ إلي السرير ليبدأ احتفالاته في المنام! وقد يكون ما دفعه لذلك هو شعوره بالملل من حكاية اعتدت تكرارها، عن ليلة رأس السنة الوحيدة التي احتفلتُ بها، وكان ذلك جزءا من عملي الصحفي. لم يكن العام وحده هو الذي يوشك علي توديعنا، بل كانت ألفية كاملة تستعد للرحيل، عندما قررت وزارة الثقافة تنظيم احتفال مغاير، فاستقدمت الموسيقي الفرنسي ميشيل جار، ليحيي الليلة علي سفح الأهرامات. لم أحاول مع زملائي الحصول علي دعوات تتيح لنا الجلوس مع علية القوم، واشترينا أرخص تذاكر لنبقي مع عشرات الآلاف من المحتفلين بالليلة، التي كانت في الوقت نفسه إحدي ليالي شهر رمضان. استغرق دخول المنطقة الأثرية منا نحو ثلاث ساعات، نظرا للزحام الذي سيطر علي كل الشوارع المحيطة. وعندما أتممنا رحلتنا فوجئنا بالمنطقة وقد تحولت إلي أكبر مرقص في العالم، حتي أن أحدنا أطلق علي المناسبة وقتها تعبير »رقص» السنة! ورغم أنني لم أكن وحيدا إلا أنني شعرت بالغربة وسط آلاف الثنائيات. شعرتُ بالأسي علي أجدادنا الراقدين تحت إيقاع الأجساد الصاخبة، وتسللت البرودة إلي أطرافي مع أن أجساد الكثيرين تكاد تُشع من فرط حرارتها. وقبل مطلع الفجر بحثنا عن كسرة خبز نأكلها كسحور، لكن كل المحال كانت قد باعت بضاعتها. أعتقد أننا بالكاد وجدنا بضع قطرات من ماء تروي ظمأنا، ألقيتُ نظرات علي آلاف الزجاجات التي أفرغ الحاضرون محتوياتها في جوفهم عبر ساعات الاحتفال، لم تكن زجاجات مياه فقط، بل كانت تحتوي كل أنواع المشروبات. انتهت الليلة بعد أن فجرت جدلا جديدا حول أسلوب تعاملنا مع تراثنا التاريخي، وظلت ذاكرتي محتفظة بمعظم تفاصيلها، إلا ما سقط منها بحكم تقدم العمر. عبر السنوات التالية عدتُ إلي أمسيات رأس السنة المعتادة، أقضيها في المنزل وسط أسرتي الصغيرة. حتي مكالمات التهنئة أصبحت تاريخا، فرسالة جماعية عبر »واتس آب» تؤدي الغرض بضغطة زر واحدة، لتصل إلي عشرات من البشر، يردون عليها برسائل سابقة التجهيز، وهكذا تتزايد غربتنا كلما تطورت وسائل التواصل. الجديد هذا العام شعور شخصي بالإحباط، بدأ في نهاية عام رحل، لكنه ترك بداخلي آثاره التي تتنامي، وتقاوم كل محاولات طردها. لا أود تصدير كآبتي إليكم، فكل عام وأنتم بعيدون عن الإحباط.