جامعة بنها ضمن أفضل 10 جامعات على مستوى مصر بتصنيف كيواس للتنمية المستدامة    وزير التعليم العالي يبحث سبل تعزيز التعاون مع السفير السعودي بالقاهرة    أسعار النفط تهبط بعد تقرير ارتفاع مخزونات الخام والوقود في أميركا    19 نوفمبر 2025.. أسعار الأسماك بسوق العبور للجملة اليوم    رئيس الجمارك: وزير المالية يسعى لتخفيف الأعباء عن المستثمرين لتيسير حركة التجارة    التضخم في بريطانيا يتراجع لأول مرة منذ 7 أشهر    تداول 97 ألف طن و854 شاحنة بضائع بموانئ البحر الأحمر    منال عوض تترأس الاجتماع ال23 لمجلس إدارة صندوق حماية البيئة    ما هي مبادرة الرواد الرقميون وشروط الالتحاق بها؟    "الأونروا" تؤكد استعدادها لإدخال مساعدات لغزة وتحذر من تفاقم الأزمة الإنسانية    حريق هائل يلتهم أكثر من 170 مبنى جنوب غرب اليابان وإجلاء 180 شخصا    رئيس القابضة لمصر للطيران في زيارة تفقدية لطائرة Boeing 777X    برشلونة يعود رسميا لملعب كامب نو في دوري أبطال أوروبا    ضبط 5.4 طن دجاج وشاورما غير صالحة في حملة تموينية بأجا بالدقهلية    أخبار الطقس في الإمارات.. ارتفاع نسب الرطوبة ورياح مثيرة للأتربة    الحبس 15 يوما لربة منزل على ذمة التحقيق فى قتلها زوجها بالإسكندرية    6 مطالب برلمانية لحماية الآثار المصرية ومنع محاولات سرقتها    معرض «رمسيس وذهب الفراعنة».. فخر المصريين في طوكيو    مهرجان مراكش السينمائى يكشف عن أعضاء لجنة تحكيم الدورة ال 22    وفد من المجلس العربي للاختصاصات الصحية يزور قصر العيني لاعتماد برنامج النساء والتوليد    جيمس يشارك لأول مرة هذا الموسم ويقود ليكرز للفوز أمام جاز    اليوم.. أنظار إفريقيا تتجه إلى الرباط لمتابعة حفل جوائز "كاف 2025"    موعد مباراة الأهلي وشبيبة القبائل بدوري أبطال أفريقيا.. والقنوات الناقلة    تنمية متكاملة للشباب    إطلاق أول برنامج دولي معتمد لتأهيل مسؤولي التسويق العقاري في مصر    وزير الري يؤكد استعداد مصر للتعاون مع فرنسا في تحلية المياه لأغراض الزراعة    ندوات تدريبية لتصحيح المفاهيم وحل المشكلات السلوكية للطلاب بمدارس سيناء    الإسكندرية تترقب باقي نوة المكنسة بدءا من 22 نوفمبر.. والشبورة تغلق الطريق الصحراوي    مصرع 3 شباب فى حادث تصادم بالشرقية    أبناء القبائل: دعم كامل لقواتنا المسلحة    زيلينسكي: الهجوم الروسي أدى لمقتل 9 أشخاص    بولندا تستأنف عملياتها في مطارين شرق البلاد    هنا الزاهد توجه رسالة دعم لصديقها الفنان تامر حسني    «اليعسوب» يعرض لأول مرة في الشرق الأوسط ضمن مهرجان القاهرة السينمائي.. اليوم    رحلة اكتشاف حكماء «ريش»    بعد غد.. انطلاق تصويت المصريين بالخارج في المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    الصحة: «ماربورج» ينتقل عبر خفافيش الفاكهة.. ومصر خالية تماما من الفيروس    صحة البحر الأحمر تنظم قافلة طبية مجانية شاملة بقرية النصر بسفاجا لمدة يومين    المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم 2026 بعد صعود ثلاثي أمريكا الشمالية    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    أسعار الفاكهة اليوم الاربعاء 19-11-2025 في قنا    بعد انسحاب "قنديل" بالثالثة.. انسحاب "مهدي" من السباق الانتخابي في قوص بقنا    الضفة.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يعتقل 100 فلسطيني شمالي الخليل    شهر جمادي الثاني وسر تسميته بهذا الاسم.. تعرف عليه    زيلينسكي يزور تركيا لإحياء مساعي السلام في أوكرانيا    بحضور ماسك ورونالدو، ترامب يقيم عشاء رسميا لولي العهد السعودي (فيديو)    زيورخ السويسري يكشف حقيقة المفاوضات مع محمد السيد    انقلاب جرار صيانة في محطة التوفيقية بالبحيرة.. وتوقف حركة القطارات    ما هي أكثر الأمراض النفسية انتشارًا بين الأطفال في مصر؟.. التفاصيل الكاملة عن الاضطرابات النفسية داخل مستشفيات الصحة النفسية    النائب العام يؤكد قدرة مؤسسات الدولة على تحويل الأصول الراكدة لقيمة اقتصادية فاعلة.. فيديو    أبرزهم أحمد مجدي ومريم الخشت.. نجوم الفن يتألقون في العرض العالمي لفيلم «بنات الباشا»    حبس المتهمين في واقعة إصابة طبيب بطلق ناري في قنا    آسر نجل الراحل محمد صبري: أعشق الزمالك.. وأتمنى أن أرى شقيقتي رولا أفضل مذيعة    دينا محمد صبري: كنت أريد لعب كرة القدم منذ صغري.. وكان حلم والدي أن أكون مهندسة    مشروبات طبيعية تساعد على النوم العميق للأطفال    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    هل يجوز أداء العشاء قبل الفجر لمن ينام مبكرًا؟.. أمين الفتوى يجيب    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ساحرة الليالى وملكة الألغاز
نشر في الأهرام اليومي يوم 04 - 07 - 2014

أجواء ساحرة خلابة .. بشر فى مختلف الهيئات يمشون فوق الزجاج ويطيرون فوق السحاب .. لصوص محترفون .. أولياء صالحون يتبرك بهم الناس.. شخصيات بسبع أرواح تتعرض للأهوال وتخرج سالمة.. خيول تطير بجناحين .. طيور تكشف أسماء المحبين .. كائنات خرافية .. لهو ومجون .. تقوى وورع .. جوار حسان وأمراء وشعراء وصعاليك ومدن فاضلة .. وألغاز تستعصى على الحل.. وأماكن مهجورة يسكنها الجان .. رجال يفكرون بحكمة ويتصرفون بحماقة .. سحرة تصادفهم على قارعة الطريق .. قصص حب وغدر وخيانة .
معمعة بشرية وحيوانات تنطق بالحكمة ..قصص شتى عن القضاء والقدر وأشجار تتحدث عن عذاباتها وعفاريت تقع فى حب إنسيات .. حكايات السندباد عن التيه والضياع والعود الحميد من جزر واق الواق .. حكايات على بابا وطاقية الإخفاء والحمال والثلاث بنات وحلاق بغداد .. خيالات وصور تحبس الأنفاس .. نوادر ومقطوعات فلسفية وزخارف ومنمنمات لغوية وقوى غيبية تشيد القصور وتهدم الجبال وتسافر عبر آلة الزمان.. حكايات تتداخل وتتناسل وتنطوى على أحاديث الجنس فى بعض الأحيان .. إنها «الياذة الشرق» ألف ليلة وليلة .. تلك التحفة الفنية التى أحدثت انعطافا فى الأدب العربى والعالمى وكانت دوما شهية كعنقود عنب يتدلى من شجرة الأدب الأزلية.
تحدث عن سحرها فولتير قائلا: لم أزاول كتابة القصص إلا بعد أن قرأتها 14 مرة.. وتمنى ستندال أن تزول من ذاكرته لكى يستعيد متعة قراءتها مرة أخرى.. تخيل مارسيل بروست نفسه فى صورة شهرزاد .. أما امبتريوايكو فأشار إلى أن الروايات الكبرى فى الثقافة الغربية من دون كيشوت إلى الحرب والسلام وموبى ديك وفاوست قد كتبت فى ظلها».. فيما يرى أندريه جيد أن أمهات الكتب العالمية ثلاث: أشعار هوميروس والكتاب المقدس وألف ليلة وليلة .. تحدث عنها نجيب محفوظ قائلا: «اكتشفت فى القراءة الثانية الناضجة لليالى أنها تعبر عن عالم بأكمله بعقليته وعقائده وخيالاته وأحلامه .. إنها أثر فريد يقف فى مصاف الأعمال الإنسانية العظيمة» وعلى هديها استلهم عدد كبير من كبار أدبائنا أعمالهم مثل توفيق الحكيم وطه حسين وغيرهم الكثيرون .. فما من شاعر أو روائى قرأها لم تتسرب إلى أعماقه .. فهذا الكتاب إقرار بمعجزة الفن ومكانته وقدرته على أحداث التغيير.
شرارة الحكى
شهريار ملك من ملوك ساسان حكم البلاد بالعدل وبالرحمة واجه الناس .. فيما كان أخوه (شاه زمان) ملكا لسمرقند .. بعد مرور عدة أعوام اشتاق شهريار لرؤية أخيه فأرسل فى طلبه وفوجئ بسوء حاله وإحباطه .. لأنه اكتشف خيانة زوجته .. فخفف عنه شهريار وأجلسه فى قصر الضيافة الملحق بقصره .. وأثناء زيارته لأخيه الضيف متنكرا - وكانت من عاداته – وجد باب قصره ينفتح وشاهد زوجته تخونه مع عبد أسود فقتلها وقتل العبد وكل الجوارى فى القصر .. وسيطرت عليه كآبة وحقد وكراهية ولم يجد أمامه من سبيل إلا الهروب المادى والسفر مع أخيه إلى بلاد بعيدة .. وبينما هما شاردان على شاطئ البحر يستندان إلى شجرة عتيقة فوجئا بجنى عملاق يخرج من القمقم وعلى رأسه صندوق خرجت منه امرأة، ثم نام هذا الجنى وغافلته المرأة وتحدثت إليهما قائلة: «هذا العفريت خطفها فى ليلة عرسها ووضعها فى علبة ووضع العلبة داخل الصندوق وعلى الصندوق سبعة أقفال ونزل بها فى قاع البحر المتلاطم وهو يعرف إن المرأة منا إذا أرادت أمرا لم يغلبها شىء» .. ثم عادا أدراجهما وبهذه العبارة الأخيرة يمكننا قراءة وفهم شخصية شهرزاد .. تلك المرأة ذات المواهب الاستثنائية وابنة وزيره الذى كان يدفع إليه كل ليلة بجارية يتزوجها ثم يقتلها.. ولم يبق فى المدينة إلا شهرزاد وأختها دنيازاد .. فخاف الأب على ابنته .. لكنها بكل شجاعة وجسارة وبطولة قبلت التحدى وقالت لأبيها: إن مت كنت فداء لبنات المسلمين.. وإن وفقنى الله.. كان عملا جليلا ينقذ شهريار من شر نفسه .. وهكذا امتلكت زمام المبادرة ودائما من يملك المبادرة يكون النصر حليفه.. تجاوزت شهرزاد مخاوفها ورعبها فهى تعلم أنه ممنوع عليها أن تتلعثم أو تهتز .. حرصت على الموت فوهبت لها الحياة كما تقول الحكمة الشهيرة.
أصبح اسمها قرينا بفن الحكى والإغواء .. فهى ساحرة الليالى وأسيرة الملك والليل أيضا .. تحولت الحكايات على لسانها لما يعرف بظاهرة ألف ليلة وليلة .. شخصيات من صيد الخيال نفثت فيها عطرها الذى أدمنه شهريار .. إنه حكى لا يقاوم .. حكى تراكم عبر الأجيال وبه من المرونة والحرية ومسايرة الأمزجة ما يجعله قابلا للتطور ومن ثم الاستمرار.
ثقافة شهرزاد
هى ابنة وزير وكانت أصول التربية الأرستقراطية فى القرون الأولى تقتضى أن تكون هذه الفتاة على قدر عال من الثقافة والاطلاع وسعة الأفق .. قرأت كتب التاريخ وسيرة الأولين وأمهات الكتب والنفائس الشعرية وفى الفلسفة والكيمياء وعلم الفلك والروحانيات وسير الملوك وأخبار الأمم .. باختصار كانت خزانتها الثقافية عامرة بكل ما يبعث على الحلم.. وتروى الكاتبة المغربية فاطمة المرنيسى واقعة طريفة تتحدث عن استخدام شهرزاد المعرفة كسلاح.. «فأثناء حوار جانبى بينها وبين زميل لها فى جامعة الحسن الثانى بالمغرب سألها عن اسم كتابها القادم ..فأجابت : شهرزاد ليست مغربية! فتدخل زميل آخر كان يمر بصورة عابرة والتقط الاسم وصرخ فيها قائلا: لماذا تقومين دائما بمهاجمة التراث؟ تقول: واندهشت من سعة جهله، وروت له هذه القصة الدالة التى ذكرها المسعودى فى كتابه الشهير «مروج الذهب» ذهب رجل إلى الوالى يشكو جاره مدعيا أنه تزندق، فسأله الوالى عن مذهب الرجل فقال : أنه مرجئ وقدرى ورافضى .. ثم أنه يبغض معاوية بن الخطاب الذى قاتل على بن العاص .. فقال له الوالى : ما أدرى على أى شىء أحسدك! على علمك بالمذاهب أم على بصرك بالأنساب» وتسترشد بهذه الواقعة النادرة فى أن الجهلة لم يترددوا منذ عشرة قرون فى الذهاب للشرطة للتشهير بجيرانهم .. وتشيد بالثقافة النادرة التى حازتها شهرزاد وتوظيفها لخدمة الآخرين .. وهذا ما لم تحققه المرأة العربية والمرأة المغربية بهذه الصورة الرائعة المشرقة وتقول : لو قرأ هذا الزميل لعرف أن شهرزاد ليست مغربية بالطبع ولكنها فارسية الأصل .. فالقصص اختلاق شعبى من الذاكرة الجمعية للشرق وللعرب فى القاهرة ودمشق وبغداد والقسم الأكبر من الحكايات تمت صياغته بين القرن العاشر والسادس عشر. ومعظمها قصص عربية المنشأة .. فى عصر تكوين الحكايات فى القاهرة وبغداد على وجه الخصوص.. وقد تعرضت للتنقيح والإضافة من الرواة بصفتها أدبا شفاهيا ..ازدهرت الليالى فى بداية عهد الاستشراق والجزء الأكبر من الصورة التى كونها الغرب عن أجواء الشرق المعتادة رسخ معظمها من ألف ليلة .. ولدت بذرة هذا الكتاب فى الهند وترعرع فى بلاد فارس وازدهر فى بلاد العرب.. احتفلت اليونسكو عام 2004 بمرور 300 عام على ظهور ألف ليلة وليلة «نسخة جالان» وهذا العام يواكب مرور 310 أعوام على ظهور هذا السفر العظيم الذى كتب بلغة رمزية للتعبير عن الأفكار وأصبحت هذه الطريقة معهودة فى الأدب العربى بصفة خاصة لحمايته من المصادرة.
ومنذ صدور الطبعة العربية (بولاق) عام 1835 والنقاد والباحثون لا يملون من السعى للحصول على المدونات والمخطوطات الأصلية للكتاب.. حمت مصر هذا الكتاب وطورته عبر العصور وكان يتناقل على ألسنة القصاصين .. لكن فى عام 1985 تعرض لمحاولات المصادرة من قبل قوى الظلام .. لكنها باءت بالفشل .. فأهمية التراث تكمن فى أنه يشبه الحفر فى الآبار الجوفية للارتواء خاصة فى أزمنة القحط والجدب الفنى.
اتبعت شهرزاد إستراتيجية فريدة فى الحكى (الإغواء) .. فكانت لديها براعة فى الاستهلال «بلغنى أيها الملك السعيد ذو الرأى الرشيد» وغزارة فى السرد مثل نحلة دءوب تعمل باتقان وانتظام لصناعة قرص عسل شهى .. استندت شهرزاد على مبدأ (الفضول) فكانت تمتلك مفتاحا لكل قصة ولا تنهيها إلا عند الجزء الأكثر إثارة وتشويقا واستخدمت ببراعة فائقة كل جماليات الشعر نظرا لعمقه ونفاذه إلى النفوس.. وفى ليلها الحزين فى البداية كانت تغترف من معارفها لكى تبدد ملل مليكها الذى استمع إلى قصة مشابهة لقصته أى «داوته بالتى كانت هى الداء» فاستعاد فضيلة الاستماع ومن ثم التأمل .. وعلمته الصبر والانتظار والتنبؤ لكنها حين تمرست عبر الليالى أجادت فهم لعبة الحياة ونصبت له الشباك ووقع فى الأسر وأصبح أسيرها بعد أن كانت أسيرته .. فعلت كل ملاعيب (شيحة) وشيحة كان شخصية ترتدى ملابس تنكرية خارقة فى سيرة الظاهر بيبرس بواسطتها استطاع تحقيق كل أغراضه.
ديك الصباح
ويختزن الخيال الشعبى اعتصام الجن والعفاريت بالجبال والكهوف، لأن هذه العفاريت تكون أرواحاً للموتى وتعود إلى باطن الأرض من رحلتها عند طلوع ضوء الفجر .. مع العفاريت ينعدم الإحساس بالزمن .. وكذلك كان حكى شهرزاد .. جرى حوار بين ابن سينا وقطب صوفى استنكر فيه ابن سينا العلاج بالعزائم والدعوات فقال له القطب الصوفى : وماذا تدرك أنت من هذه الأمور .. إنك حمار، فاشتاط الفيلسوف غضبا واحتقن وجهه وبدا محموما .. وكان هذا هو المقصود من هذه الشتمة .. هنا قال له الصوفى : عليك أن تتذكر دائما أن الإنسان الذى تمرضه كلمة مثلما حدث لك قد تشفيه كلمة ولو كان من اعلم العلماء أو أعظم الملوك!.
أدركت شهرزاد هذه المعانى وهى تنقب فى جراب الحكى الذى استخدمت فيه كل أساليب السرد والتوقع الذى يسبق الواقع وقد حفلت ألف ليلة بعشرات القصص التى تندرج تحت قصص الخيال العلمى – لو جاز التعبير – ولكن العجيب أن الكثير منها اثبته العلم فيما بعد .. وقد وضع الفرنسى «فيليب بولانجيه» مؤلفا عن العلم فى ألف ليلة وليلة أو ما كان العقاد يوصفه بأنه: «تخيل برخصة من العلم على مسئولية المتخيلين» .. وفى الليالى حديث عن أبواب علاء الدين السحرية ومتوالياتها العددية وهى من أبرز الأشياء التى تأكدت صحتها. أما ديك الصباح الذى كان يصيح إذا فجر لاح «وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح» فقد كان فيه من الشجاعة والصبر والخبرة بساعات الليل ما تعلمته منه شهرزاد وأبرزها تقسيط الحكايات وتقدير الزمن. يحكى أن الديك فى سالف الزمان كان له جناحان يطير بهما فى الجو وكان الغراب ذا جناحين كجناحى الديك ولكن لا يطير بهما .. وفى إحدى الليالى أفرط الاثنان فى الشراب فقال الغراب للديك : اعرنى جناحيك لأتيك بشراب! فأعاره جناحيه فطار بهما ولم يرجع إليه ومنذ ذلك اليوم والديك يصيح كل ليلة فى ساعات السحر باكيا جناحيه مناديا على الغراب المخادع الذى لن يعود أبدا .. كانت شهرزاد تستثير فى نفسها موعظة الديك والغراب (شهريار) ولم تكن تتوانى عن سد كل الذرائع التى قد تسول للغراب خداعها والإفلات من بين يديها فاستخدمت كل السبل من نفاذ شخصيتها وقوة تأثيرها وخصوبة خيالها واللامعقول الذى لم يبدأ مع صمويل بيكيت ويونسكو ولكن بدأ مع هذه السيدة التى صنعت لؤلؤة نادرة من الحكايات.
وفى نهاية الليالى أنجبت ثلاثة أبناء من الذكور وعفا عنها شهريار وتحولت طاقة الكراهية إلى طاقة حب.. وأهمية الليالى تكمن فى وحدة الفكر والأدب الإنسانى عالميا.. وبالرغم مما قيل من اقتحام بعض الرجال للقصص بالتعديل والتنقيح فإن الأدب يظل أدبا بعيدا عن التصنيفات المقحمة.
حكايات وألغاز
تحفل الليالى بالجواهر والأحجار الكريمة فى كثير من الحكايات.. ولعل قصة الجارية «تودد» من أبرز القصص التى تتلامس مع الحكاية الإطار فيما يتعلق بثقافة شهرزاد .. فالجارية تودد كانت ملكا لتاجر ثرى يفقد ثروته التى تركها له والده ويستبد به الحزن .. فتطلب منه جاريته أن يعرضها للبيع على الخليفة هارون الرشيد مقابل عشرة آلاف دينار لأنها كانت بالإضافة لجمالها من أفقه العلماء فى عصرها وطلبت مناظرتهم .. وأراد الخليفة اختبار ذكائها وفصاحتها وسرعة خاطرها وقامت بكل ذلك باقتدار .. واعتبرت أن اللغز يحل معضلة تصعب على الآخرين ويترك خبرة نافعة .. المهم جاءت اللحظة الحاسمة التى برز فيها «النظام» وهو اسم أشهر فيلسوف فى ذلك الزمان وسألها: اخبرينى عن خمس فى الجنة لا من الأنس ولا من الجن ولا من الملائكة؟
أجابت : ذئب يعقوب وكلب أصحاب الكهف وحمار العزيز وناقة صالح وبغلة النبى صلى الله عليه وسلم.
الفيلسوف : أخبرينى عن قبر مشى بصاحبه؟
تودد : حوت يونس حين ابتلعه.
الفيلسوف : أخبرينى عن بقعة طلعت عليها الشمس مرة واحدة؟
تودد : الأرض التى ظهرت فى البحر عندما ضربه موسى بعصاه.
الفيلسوف : أخبرينى عن شىء يتنفس بلا روح.
تودد : قوله تعالى : «والصبح إذا تنفس» .. وهكذا كانت هذه الألغاز والأحجية من المساجلات العقلية فى هذه القرون وتحفل الليالى أيضا بسيرة الملك سليمان وقمقمه الشهير.. وفى قصة «الصياد والعفريت» نرصد التغييرات التى تحدث حين يكون الحديث بين عالمين مختلفين «الإنس والجن» ودلالة ذلك على اختلاف القيم والمعايير والقوانين بين البشر أيضا حين تتباعد عوالمهم.
اعتاد الصياد الصيد أربع مرات يوميا .. لكنه فى هذا اليوم اصطاد ثلاث مرات وباءت محاولاته بالفشل فى الفوز بصيد ثمين ولكن فى المرة الرابعة اصطاد القمقم النحاسى وحاول بيعه فى سوق النخاسين لكنه فشل.. ثم حاول أن يزيل طبقة الصدأ ويفتحه .. فانطلقت عاصفة من الدخان وصلت إلى عنان السماء وظهر الجنى وهو يقهقه.. إننى سأقتلك، لقد نذرت هذا الأمر .. من يخرجنى من هذا (السجن) سأقتله .. فاستعطفه الصياد كيف يكون جزاء الإحسان هو الإساءة .. فروى له الجنى قصته وكيف أنه عصى النبى سليمان فحبسه فى القمقم منذ 400 عاماً وحين كان يمر عليه قرن من الزمان كان يندر أن يقضى ثلاث أشياء لمن يخلصه ولكن توالت القرون ولم يخلصه أحد فغضب غضبا شديدا وندر أن يقتل من يخلصه انتقاما من هذا السجن الطويل والعزلة الأليمة.. والقصة تشير إلى سر جاذبية الليالى وديمومتها .. وهى ترمز لما يفعله الإحباط وطول الانتظار وتملك اليأس من البعض وفى علم النفس فالعدوانية تزداد مع ازدياد الإحباط .. وقرر الجنى بناء على ذلك أن من ينقذه سيموت شر قتلة وسيصبح ذلك قانونه الخاص الذى يحدد أفعاله .. وتتداخل القصص من قبيل هذه الحكايات لكنها تدعو للتأمل فى معانى العصيان والاغتراب عن الزمن «الجنى مسجون 400 عاماً» وحين حاول قتل الصياد .. حاول الصياد بدوره إعادته إلى القمقم ولكنهما فى النهاية توصلا لصيغة رضى بها الصياد والعفريت على السواء .. وتتكرر حكاية ثنائية الخير والشر فى الليالى.. فالشر يتنامى حين يسكت عنه الأخيار .. وحين سئل عمر بن الخطاب عن فلان الذى لا يعرف الشر أجاب : ذلك أحرى أن يقع فيه .. قياسا على ذلك كل من لا يعرف الخوف فلن يتجنب الخطر فالفضيلة تكمن فيمن يعرف الخوف ويتغلب عليه ويقهره مثلما فعلت شهرزاد .. التى تركت هذا المتحف الحافل بالحكايات.. فسلام على هذه الجمرة المتوهجة منذ أكثر من عشرة قرون والتى شرفت بنات جنسها بعلمها وأخلاقها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.