ما من كاتب ومبدع قرأ النص الفريد »ألف ليلة وليلة« إلا وتأثر به تأثراً كبيراً، وترك فيه بعضاً من حكاياته وخرافاته وحيل أشخاصه، وتمثلت تلك الحكايات- فيما بعد- في إبداعات شعرية أو قصصية أو مسرحية، بشكل مباشر مثلما فعل توفيق الحكيم في مسرحياته مثل شهرزاد وشمس النهار وغيرهما، أو ألفريد فرج في بعض مسرحياته وأشهرها »حلاق بغداد«، كذلك نجيب محفوظ في »ليالي ألف ليلة«، كما استلهم معظم الشعراء قصصاً أشهرها السندباد، وأشهر من استلهم السندباد من الشعراء خليل حاوي وصلاح عبدالصبور، ثم هناك من نسج كتاباته علي منوال ألف ليلة وليلة، وأبرز هؤلاء رواية »ليلة القدر« للطاهر بن جلون، و»حكايات للأمة« ليحيي الطاهر عبدالله، والنقاد والدارسون فحصوا ووضعوا كثيراً من المقالات والأبحاث في تفنيد ذلك، واستدعاء واستلهام »ألف ليلة وليلة« لم يقتصر علي الكتّاب والمبدعين العرب، فهناك مبدعون أوربيون تأثروا بحكاياتها، وكتبوا مستلهمين أو متقاطعين مع هذه الحكايات، وأبرز هؤلاء الشاعر الألماني »جوتة« والذي ترجم له الدكتور عبدالغفار مكاوي الديوان الشرقي، وترجم له محمد عوض محمد »فاوست«، ويقول مكاوي: (صحب جوتة ألف ليلة وليلة وصحبته من صباه الباكر إلي شيخوخته المتأخرة، وأثرت حكاياتها الساحرة تأثيراً واضحاً وصريحاً علي الكثير من أعماله، ومضمراً وغير مباشر علي القليل منها، ويكفي أن نذكر عناوين بعض أعماله التي تجلت فيها صوره المختلفة، وأتحدث بطبيعة »الشهرزادية« في الشغف بالحكي والقص: نزوة العاشق، أحاديث المهاجرين الألمان، الابنة الطبيعية).. ويسترسل مكاوي في رصد الأثر العميق الذي تركته ألف ليلة وليلة في الشاعر الألماني جوته، وغيره من الشعراء الألمان، وبالطبع يمتد هذا الأثر إلي مبدعين آخرين في العالم كله، وفي أزمنة متعددة، ويكفي قراءة كتابات بورخيس لنقف عند البصمة العميقة التي انطبعت في تلك الأعمال، ولا مجال- هنا- لرصد هذه الآثار المتغلغلة في كثير من إبداعات كتّاب عالميين، فيكفي أن تورد الجملة الشهيرة التي أطلقها الكاتب الفرنسي (أندريه جيد) الحاصل علي جائزة نوبل عام 7491 عندما كتب يقول: »أمهات الكتب العالمية ثلاث: أشعار هوميروس، والكتاب المقدس، وألف ليلة وليلة«، وبالطبع أنا لا أريد سرد عناوين ولافتات للتدليل علي أهمية هذا النص الخالد، ولأحقيته الفاعلة في أن يتصدر الثقافات، ولكن هذه إشارات شبه عابرة إلي نص مازال يثير الجدل، ومازال يقلق عقولاً ووجدانات عقيمة، توقفت عند أزمة غابرة، واتشحت بثياب الدين، والدين منها براء.. إذن لا أود أن انتصر لنص هو منتصر بالفعل، وقائم ومؤثر وموجود في إبداعات العالم، ولكني أردت أن أسوق هذه المقدمة لألفت النظر إلي محاولة جادة وبديعة وفاتنة أنجزها الكاتب والشاعر والفنان الراحل عبدالرحمن الخميسي، وكادت هذه المحاولة أن تنسي، وتذهب أدراج الرياح، رياح الزمن، وهي »ألف ليلة وليلة الجديد« والتي صدرت طبعتها الأولي في جزءين عن سلسلة »كتب للجميع«، والتي كانت تصدر عن جريدة المصري، صدر الجزء الأول في مارس 8491، وصدر الجزء الثاني في أكتوبر من العام نفسه، ويكتب الخميسي في مستهله: »حكايات ألف ليلة وليلة تقف في الأدب العربي كالغابة الفطرية، غنية بألوانها وثمارها وقطوفها، وكأن هذه الحكايات تهيب بالكاتبين والشاعرين العرب أن يغتنموا من كنزها الكبير، ويخرجوا للناس الدرر الغوالي من أعماقها، وقد ترجمت ألف ليلة وليلة إلي جميع لغات العالم، تحمل بين سطورها عبق الشرق وروائحه وأساطيره وأخيلته.. واستلهم بعض الروائيين الغربيين ألف ليلة وليلة، فألهمته وأغنته في حين أننا هنا، أهملنا هذا الكنز العظيم، ومحاولتي هنا هي إعادة كتابة ألف ليلة وليلة، ووضعها في قالب فني جديد يبعد بها عن الضعف في البناء والحركة في التعبير«. إلا أن الخميسي أراد أن يعيد إنتاج وتدشين وبناء ألف ليلة وليلة بتقنيات جديدة وأسلوب جديد، وربما بتأويلات وتغييرات واستطرادات أخري، فهل حقق الخميسي هذه الأحلام الصعبة، ولكن قبل أن أحاول التقليب في محاولة الخميسي لابد أن أشير إلي نص آخر سبق نص الخميسي بخمس سنوات، وهو »أحلام شهرزاد« للدكتور طه حسين، صدر في عام 3491، وافتتح به طه حسين سلسلة جديدة تحت عنوان »اقرأ«، صدرت عن دار المعارف. وفي نص طه حسين لا يتقاطع مع ألف ليلة وليلة، ولا يتوازي معها، ولا يعيد إنتاجها، لكنه يستكملها، ويبدأ حكاياته من الليلة التاسعة بعد الألف، عندما استيقظ وأفاق قهرياً من نومه مذعوراً وجعل يتسمع لعله يجد ذلك الصوت الذي أيقظه فلم يسمع شيئاً، وهذا النص يحتاج لقراءة مستقلة كأحد التداعيات التي انبثقت من نص ألف ليلة وليلة الأصلي. ونعود لنص الشاعر عبدالرحمن الخميسي الذي حاول فيه أن يحافظ علي روح النص الأصلي، ونفث فيه مسن روحه الخاص- أي روح الخميسي- وزوده- بالطبع- بتأويلات واستطرادات عصرية، واختار الخميسي عدداً من الحكايات التي رآها تناسب تأويلاته، وبالطبع كانت الحكاية الأصل حكاية شهرزاد مع الملكين شهريار وشاه زمان، أولاً ملك ساسان، وأدرجها الخميسي تحت عنوان: »عندما تريد المرأة« ثم حكايات (التاجر والعفريت، والمدينة المسحورة، وقصر العجائب، وعندما يشاء القدر، وحلاق بغداد، والشيخ الصامت، وكيد النساء، ونعيق الأبله وأخي قفه، وأخي.. الجزار، وسرداب الموت، والنديم الشهيد، وأنيسة الجليس) وسنجد أن الخميسي يدخل طوال السرد بمواقفه وآرائه، وينتصر لتأويله الأساسي، والذي يصرح به وهو أن ألف ليلة وليلة ما هي إلا الانتصار الأقصي للمرأة، والانتصار- أيضاً- لذكائها، وشهرزاد هي النموذج الذي أخضع السفاح شهرياً، للنزول عن جميع شروره، والاستسلام لها عبر خامتها السردية العالية، هذه الطاقة التي انطوت علي الحكمة والعظة والإرشاد والجمال والتأمل، والتي جعلت من الطود المغرور والفاشي أن يركع أمام أقدامها، ويستسلم لحكمتها.. إن شهرزاد انتصرت لبنات جنسها جميعاً، في سلسلة حكايات ما هي إلا خيوط سحرية لصناعة دفاع مستحكم عن ذكاء المرأة، هذه المرأة التي تريد، والتي تشيد عالماً فذاً وعجيباً، وهذا العالم هو موازاة رمزية ومقنعة لتاريخ الإنسانية، ومعناها وحكمتها، إن ألف ليلة وليلة هي دفاع عن حرية الإنسان وكرامته، وذكائه، وجماله المفرط، وإن السذاجة التي اسمت بها بعض الحكايات، هي القناع الأمثل الذي تستطيع الحكايات أن تمررها، وتشهرها- في الوقت نفسه- في وجه الطغيان عموماً، وليس شهريار فقط، إن شهرزاد التي أطلقها الخميس في نصه البديع، شهرزاد جديدة، ولئيمة، وجاذبة، وتنطوي علي قدر كبير وفذ من الحكمة.. لذلك نجد الخميسي في الجزء الثاني يخاطبها مباشرة: (عودي يا شهرزاد، فإننا نحب ما تقولين، لأن الذي تسردين علينا، يخلق لنا الأحلام، ويفتح لنا الآفاق، ويخلصنا من قيود المادة الطاغية، ثم يطير بنا إلي وراء كل مجهول، وإلي أعالي الأسرار في الحياة.. عودي يا شهرزاد ومن حولك القياثم في أيدي العازفين، والدفوف علي أكف الضاربين). إذن فالخميسي يعتبر نص ألف ليلة وليلة، نص شهرزاد- أساساً- واستطراد لنضالات المرأة ومحاولاتها للتخلص من ربقة الطغيان عموماً، وليس شهريار فحسب، وما شهريار إلا القناع التقليدي الذي يحتمل كل الخيارات التي تموج بها الحياة الإنسانية عموماً.