وكانت الاستقالة تعني اني نزلت من السماء إلي الأرض وخرجت من العمل الذي يتمناه كل شاب.. وأصبحت في الشارع. وابلغني مديري في شركة الطيران التي أعمل بها ان المدمن ليس له مكان أو مكانة.. وأمرني أن أكتب استقالتي فقد اكتشف الرجل إدماني للهيروين وسائر مصائب الادمان الأخري فضحني سلوكي علي رحلات الشركة.. والمضيف الجوي يلزمه صفات خاصة. وكانت الاستقالة تعني اني نزلت من السماء إلي الأرض وخرجت من العمل الذي يتمناه كل شاب.. وأصبحت في الشارع.. واكتملت دائرة السقوط عندما شاهدني اخي الضابط في بؤرة لتجارة المخدرات اشتري الصنف الذي لم أعد أن اعيش بدونه.. عرف بذلك من رقم سيارتي وبدأت أسرق ذهب زوجتي وأمي وأفك الودائع التي ادخرتها باسم ابنتي.. وطلبت زوجتي الطلاق وبدأت ابيع اثاث البيت حتي نفد كل شيء.. وتحولت إلي متسول امد يدي في اشارات المرور حتي اتمكن من شراء تذكرة جهنم.. حتي وجدتني في لحظة وجها لوجه امام زميل سابق من زملاء العمل.. وكأني أواجه نفسي لأول مرة بحقيقة ما وصلت إليه. في لحظة مواجهة زميلي السابق.. استعرضت شريط حياتي وكيف كانت الشمة الأولي هي الشرارة الأولي التي اندلع بعدها الحريق المدمر حتي وصلت إلي ما انا فيه.. اتذكر الشمة الأولي في رحلة إلي استنبول.. وكما تبدأ السيجارة بالهزار والدلع والفضول.. أخذتها من الفتاة الجميلة التي حولت حياتي إلي القبح نفسه.. في هذه اللحظة وزميلي لا يكاد يصدق ان المتسول الذي يمد يده اليه هو نفسه الزميل الذي كان يلبس اليونيفورم الجميل ويتطلع إليه الجميع حيث الشباب والمال والمستوي. أريد حياتي في هذه اللحظة قررت أن اتوقف وان استرد حياتي حتي لو كانت ضريبة ذلك موتي.. لكن كيف؟.. لا أعرف.. فقط نظرت إلي السماء وقلت بكل كياني: يارب يارب وبدأت اتحرك بقوة دافعة لا اعرف من أين جاءت ولا إلي أين تأخذني.. نزلت إلي بواب العمارة وطلبت منه عشرة جنيهات وانا الذي كنت أعطيه بالمائة كبقشيش.. واكثر تركت بيتي خلف ظهري.. وكانت الورقة الحمراء ذات العشرة جنيهات هي قاربي الوحيد.. تركت كل شيء خلفي واسرعت اجري.. ووجدت نفسي في محطة الجيزة.. ولا اراديا سألت عن السيارة التي تتجه إلي الوادي الجديد.. اردتها محافظة بعيدة.. ولا أعرف فيها من أحد.. هي المجهول وأنا ايضا المجهول فقط كنت قد قرأت انها المحافظة الوحيدة الخالية من المخدرات تماما.. الاتوبيس يقطع الصحراء.. وانا اكاد اتحول إلي طائر يفر من فوهة بندقية الصياد.. وامامي في سمعي يتردد قول طارق بن زياد: »المجهول من أمامك.. والدمار من خلفك» نزلت في المحطة.. وانصرف الركاب كُل إلي حال سبيله الا انا لم يكن لي من سبيل.. ولمحت مئذنة المسجد الشامخة امامي كأنها تناديني والمؤذن يشهد بصوته الهدوء الأخضر في تلك المحافظة.. الله أكبر.. حي علي الفلاح دخلت المسجد تبللني دموعي في ركوعي وسجودي.. وقد احاطت بي نظرات رواد المسجد.. فهم يعرفون بعضهم البعض.. وكان حالي يعلن عن نفسه من الاعياء.. والجوع والعطش.. انصرفوا إلي أهلهم.. وأنت يارب أهلي وسكني.. وملاذي.. فلا تتركني إلي نفسي وشيطاني.. وجاء أحدهم وقد فرغ بيت الله.. الا مني.. واقترب يهمس إلي: الاخ واضح انه غريب.. يا تري أقدر أساعدك!! اجابت نظراتي المنكسرة الدامعة.. وكل ما استطعت ان أقول له: لقد فررت من زحام القاهرة ومشاكلها وجئت ابحث عن عمل شريف هنا! وبلطفه وانسانيته لم يجادلني.. ومد إلي يده.. مرحباً بان اساعده في مزرعته التي حصل عليها من الحكومة وتبلغ 20 فدانا فهو خريج زراعة أسيوط وتمرد علي الوظيفة الحكومية.. لم يسألني عن خبراتي وبنفس النبرة العطوف سألني عن الأجر الذي اطلبه مقابل مساعدتي له في المزرعة وقلت له بدون تفكير: بحق الله في بيت الله.. لا اريد سوي كتاب الله.. لان المصاحف الموجودة هنا تخص المسجد.. واكثر من مكان للنوم ولقمة بسيطة لا اريد. اخذني الي المزرعة.. وفتح لي الغرفة التي ستكون بيتي.. وطلب مني ان استريح.. حتي اذا اصبحت جاهزا للعمل.. بدأ يعرفني علي المكان وطبيعة الشغل.. وقبل ان يتركني في ليلتي الأولي جاء إليّ بالمصحف الشريف.. وشيء من الطعام والشراب.. واستودعني الله علي الملتقي. وعندما اغلق باب الغرفة وهو يمشي.. ادركت انه اغلق ذلك الجسر بين ما انحدرت إليه.. وبين ما اسعي لبلوغه وكان شيطان ادماني قد بدأ يعلن عن حضوره وقد اصبحت وجها لوجه امامه.. تحولت آلام احتياجي إلي جرعة المخدرات إلي وحش رهيب.. يغرز اسنانه في لحمي ويقطعه بأظافره.. اردت ان اصرخ لكن كيف أعلن عن عاري في هذا الفضاء من أول ليلة.. ولم أجد سوي قطعة من القماش اسد بها فمي وأنا اتمزق واتحول إلي اشلاء بعضي يمزق بعضي كما قال الشاعر كامل الشناوي.. في هذه اللحظة وقعت عيني علي كتاب الله.. زحفت نحوه لكن قبلها توقفت لكي اتوضأ واطفئ نيران الشيطان الملعون بماء الوضوء.. فتحت المصحف.. وكأني فتحت صفحة جديدة في حياتي: »وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ، وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَي فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ، وَاتَّبِعْ مَا يُوحَي إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّي يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ». (105-109 يونس) وأنقذني كتاب الله يا الله.. هل هي صدفة أم رسالة منك ياربي أن أجد امامي هذه الآيات وكأنها تكلمني وتمس جراحي وتفتح لي بقعة ضوء بسيطة في نهاية نفق مظلم وموحش يا ألله.. ومع كل كلمة كانت الدموع تنهمر كأنها الشلال.. ومع الدمع كان شريط حياتي يمضي امامي.. وكيف نزلت من العلياء الي الحضيض.. وخسرت الوظيفة والحياة الناعمة والأسرة الطيبة.. حتي فقدت الزوجة والابنة والأهل ولم أجد إلا اشارات المرور وصفائح القمامة ابحث فيها عن أي شيء.. فلم يكن لي من هدف الا الجرعة.. وحاولت أن أهرب من هذا الجحيم وازداد اعتصامي بكتاب الله حتي غلبني النوم وقهرني التعب وكأني سقطت من أعلي قمة جبال افرست إلي سابع أرض.. هلاوس وتخاريف وأشباح كأني علي فراش من المسامير.. فتحت النافذة.. وتطلعت إلي الخضرة المبسوطة امامي علي مدي البصر.. وشربت جرعة كبيرة من الماء.. سرعان ما تحول إلي موجة من العرق الغزير. وجاء صاحب المزرعة يحمل صينية عليها اللبن والعسل والجبن والبيض وعرفت منه اني قد نمت 72 ساعة متواصلة حتي ظن الرجل كلما جاء يتطلع إلي حالي انني أحتضر بسبب الحمي بفعل العرق والهذيان. بلطفه.. سامحني عن تلك الاجازة التي أخذتها قبل ان ابدأ العمل.. وعاد يذكرني بانه يحترم اتفاقي معه بأن اجري هو كتاب الله. حاولت أن اتناول بعض هذا الطعام الطيب لكن الجسد المسكون بشيطان الإدمان يرفض كل شيء.. الا الجرعة.. وقلت لنفسي: هذه مرحلة وانتهت.. وتمسكت بكتاب الله.. واجبرت نفسي علي ابتلاع ملعقة من العسل.. وشربت الماء.. ولما جاء صاحب المزرعة ينظر إلي الاطباق وهي علي حالها الا العسل.. احضر لي بعضا من غذاء الملكة.. وأغلق الباب.. وانفتح باب الشيطان.. وعدت إلي النوم والمقاومة والكوابيس. كان الموت خلفي اذا عدت للهيروين.. والموت امامي اذا لم أجده.. وهنا لم اجده.. واتجهت إلي القبلة اناجي ربي واتوسل اليه بحبيبه ومصطفاه ان ينتشلني من هذه البئر السحيقة. بعد 15 يوما طاحونة تدور.. وأنا معها ادور.. ورحي تعتصرني بين شقيها وهي تكاد تمزق اضلاعي.. اغلقت صراخي ولجأت إلي القرآن الكريم.. اتوضأ واصلي واستعين بالعسل.. وتدريجيا بدأ نومي يقل ونشاطي يزيد ونزلت إلي المزرعة واعلنت انتصاري وانفلاتي من عنق الزجاجة.. وتدريجيا بدأت انتصر علي شيطاني إلي غير رجعة.. وسحقته كما سحقني.. عند هنا قررت ان اصارح صاحب المزرعة بحقيقة أمري من الألف إلي الياء.. وكانت المفاجأة ان الطبيب الذي احضره لكي يفحصني في معاناتي الاولي اخبره بادماني.. وكان الرجل الطيب قد احترم معركتي وها أنا امامه اخرج منها منتصرا، ومن فرحته بشفائي ونشاطي واخلاصي وصدقي معه.. أخذني إلي محافظ الوادي الجديد لكي يمنحني عشرة أفدنة.. وقدم لي الرجل الكريم ألفي جنيه كي ابدأ مشروعي الجديد علي بركة كتاب الله واعتبره اجري عن فترة عملي معه.. وبعد سنة بالتمام والكمال كنت امتلك ارضا ومحصولا.. وقبل كل هذا أمتلك نفسي وارادتي.. لكني بلا أسرة..!! وقررت أن أعود إلي القاهرة في اجازة أبحث خلالها عن زوجتي وابنتي.. ولم يدهشني انها كانت ايضا تبحث عني وتنتظر رجوعي.. عادت إليّ وعدت إليها.. وعدنا إلي شملنا وعشنا في الوادي الجديد.. بفضل كتاب الله والعسل وسبحان القادر الذي يقول للشيء كن فيكون وهو الذي قال في مصحفه الشريف: »ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّي كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (109-110 النحل)