أسوأ ما في القطيعة مع المجتمع والانغلاق علي مجموعة محددة من الأصدقاء، أن تورطي في مواعيد ليلية يجبرني علي الذهاب إلي البيت أولا بعد انتهاء العمل، ثم النزول بعد ساعتين أو ثلاث إلي مشواري، فلو أنني منفتح علي زملاء العمل مثلا لكنت أمضيت هذا الوقت معهم. علي سريري مددت جسدي ووضعت اللاب توب علي بطني، أشاهد علي موقع يوتيوب، ملخص وأهداف مباراة الأهلي والزمالك في كأس السوبر، التي خاضها الفريقان علي ملعب هزاع بن زايد في دولة الإمارات؛ أنا أهلاوي صميم، وأحب أن أعيد مشاهدة أهداف الأهلي في مرمي الزمالك دائما، لكن هذه المباراة بالتحديد تستهويني، فإلي جانب أنها شهدت انتصار فريقي المفضل علي منافسه التقليدي، فإنها كانت مباراة »فخمة»، الإستاد تصميمه رائع وأرضيته الخضراء تجذب المشاهد ولو كانت المبارة بين »بني عبيد» و»أسمنت أسيوط»، والإخراج التليفزيوني في غاية الدقة، والكاميرات كثيرة إلي حد الإبهار، والتصوير يأتي بزوايا لا أراها إلا في المباريات الأوروبية الكبيرة، حتي المعلق الخليجي كان يشعرني بأن فريقي يلعب نهائي كأس العالم، علي الرغم من أن اللقاء محلي صرف. هذا الملعب سيستضيف اليوم لقاء الأهلي مع فريق »إيه إس روما» الإيطالي، في مباراة ودية، وهي فرصة لا تتكرر إلا كل عام علي الأقل، لكنني للأسف لن أستطيع مشاهدتها علي الهواء، فالليلة حفل زفاف صديقي عماد النقيب، هذا الوغد ليس متابعا جيدا للرياضة، ولم يضع في حسبانه مشاعر البؤساء من أمثالي وهم كثر؛ لا أعلم إن كان يريد اختبار »غلاوته» عند الناس، لكنني لولا نذالتي معه في مواقف كثيرة لن أستطيع تعويضه عنها في فرصة أفضل من هذه لما قررت الذهاب. فكرت أن أعاقب النقيب علي هذه الهفوة القاتلة، بأن آخذ معي »البيبي دول» الذي نسيته فتاته السابقة عندما كانت معه في شقتي قبل أسابيع، وأقدمه له في »لفة هدايا»، وللحظة حاولت أن أتخيل رد فعل زوجته عندما تصل إلي قفص الزوجية وتفتح اللفة، تري هل ستفهم أنه تزوجها بطريقة »الصالونات» ليستفيد من واجهتها الاجتماعية؟ فوالدها مستشار مالي محلي لمستثمر عربي، أما هي فمحاسبة في فرع شركة المستثمر نفسه في مصر. ارتديت ملابسي التي حرصت علي أن تكون قريبة من النمط الكلاسيكي قدر المستطاع، لتتناسب مع مكان الحفل، فقد اختار الوغد أن يقيم الزفاف في قاعة أفراح فخمة شمال العاصمة، وهذا يعني أيضا أنني سأضطر إلي ركوب المترو وأواجه أكثر ما يزعجني ويضيق صدري في هذا العالم، الزحام، لكنني واسيت نفسي بأنني سآخذ هدنة في قاعة الأفراح، التي ستكون بالتأكيد مكيفة الهواء، ولن يكون ضجيجها مقرفا، فالمنظمون علي الأغلب سيجبرون الحضور علي سماع أغنيات تليق بفخامة المكان، دون أن يعبأوا بالفرع الشعبي في هذه الزيجة، وأعني بذلك أقارب وجيران عماد، فالوغد يعرف كيف يصنع هيبته بين أهالي منطقته الشعبية، وهو ما فهمته عندما تكرر إصراره علي دعوتي إلي كل مناسبات أسرته، منذ أيام الجامعة. في الميكروباص الذي يقلني من بيتي في غرب القاهرة إلي المترو، تلقيت أولي دفقات الجحيم المرتقبة، فالشارع مزدحم للغاية، والأنكي أن السائق في أوج مراهقته، كما بدا من ملامحه الطفولية الظاهرة رغم الشعيرات النابتة في وجهه، والتي حاول أن يبرز بها رجولة مبكرة يخدم عليها بطريقة كلامه المعبأة بكثير من المصطلحات الشعبية، في فنيات القيادة كما في معاكسة الفتيات العابرات برأيه المجاني في أجسادهن أو طريقة مشيتهن، أو حتي ما يرتدينه من ملابس، مع أن جميعهن تقريبا يرتدين نفس العباءات السوداء ذات الطراز الخليجي، الذي اكتسب الصفة الشعبية، بينما تنبعث من كاسيت السيارة الأغنية التي دلل بها المطرب الإماراتي حسين الجسمي علي هواه المصري الشعبي »بيعدي ف حتة أنا قلبي بيتكسر ميت حتة أفضل في مكاني انشالله لستة الصبح بافكر فيه». فجأة قرر السائق الناشئ أن ينطلق عكس الاتجاه، ليختصر المنطقة المزدحمة من الشارع العمومي، فانحرف بشكل أجبر شابا يستقل سيارة ملاكي علي الامتناع عن التقدم في الطريق، ليصل إلي مسامعنا سيل من السباب الموجه إلي السائق، الذي رفع زجاج الشباك، والتقط الهاتف ليجري مكالمة لم تبد ذات أهمية، وسمح للشاب صاحب الملاكي بالعبور بعد أن كان تخطاه، فمن الواضح أنه ليس من هذه المنطقة، وعليه احترام غربته النسبية. أخيرا وصلت إلي المترو، بعدما تلقيت في الميكروباص جرعة كافية من البؤس الشارعي، جعلت من السهل علي تخطي الباعة والمتسولين الذين يسدون الممر المؤدي إلي سلم المحطة، من دون أن أسب عماد النقيب وكل من يريدون أن يتزوجوا، ويشترطوا »مرمطة» معارفهم معهم، كنوع من المشاركة الإجبارية فيما هم مقدمون عليه من »مرمطة كبري»، لكنني أعترف بأن معاناتي اللاحقة كانت أقل من المتوقع، فالقطار الذي ركبته كان حديث الطراز، ويبدو أنه مستورد، وسمح لي مكيف الهواء بالتغاضي عن التفكير في آدميتي المنتهكة، وسط العدد المبالغ فيه للركاب، الذين بدوا أحسن مزاجا مما كنت أراه في السابق، وقتما كان المترو القديم وسيلة مواصلاتي المعتادة. القطار أيضا به نظام صوتي ينوه باسم المحطة الحالية والتالية، وإرشادات الحفاظ علي نظافة العربة وسلامة الركاب، وباللغتين العربية والإنجليزية، وأبهرني سماع اسم محطة السيدة زينب وهو يُنطق »ALsayeda zainab station»، بل واكتشفت وجود شاشات رقمية مكتوب عليها اسم المحطة الحالية، أخذت أحدق فيها، وأتذكر الأيام الخوالي حين كنت أمتلك مهارة معرفة محطة نزولي، بتدريب عقلي الباطن علي عد مرات التوقف، دون أن أتعب نفسي بالنظر من النافذة كل بضع محطات لمعرفة أين أنا، وهو ما كان يزيح عني توترا إضافيا إلي جانب ذلك الناجم عن الحر والتكدس وضجيج القضبان. لفت انتباهي الأداء الصوتي لل »ناريتور» الذي يلقي الإرشادات، منبها الناس إلي أن المترو سيفتح الأبواب من جهة اليسار، كان يشبه أفلام كارتون الأطفال المدبلجة بالفصحي بلكنة شامية أو خليجية. للمرة الأولي في حياتي أجد تنظيما في الصعود والنزول، وأعتقد أن مكيف الهواء هو سبب هذا التأدب المفاجئ، الذى امتد إلى نهوض أكثر من شخص من مقاعدهم داعين راكبا كفيفا إلى الجلوس، وقد لبى دعوة أحدهم واتجه ناحية صوته، وهو يجر خلفه شابة مبصرة لا تشبهه، ثم ترك يدها ليجلس، فاصطدم بالعمود القائم على طرف المقعد، الممتد بطول العربة كمقاعد إستاد كرة قدم.. تذكرت المباراة الفائتة باعتبار ما سيكون، ولعناتى التى يحتفظ بها قلبى لعماد النقيب. بابتسامة تليق بكفيف خفيف الظل، ساعدته «الطراوة» على الاستظراف بأريحية، صاح الأعمى بصاحب دعوة الجلوس: - يا راجل! مش تاخد بالك أحسن تقع؟ ضحك المحيطون، بينما اكتفيت بابتسامة، وفكرت فيما إذا دافع هذا الأعمى لإلقاء مزحته، هو محاولته للتأقلم مع الأمر الواقع بالسخرية من نفسه، أو إدراكه لمساحة القبول التى تفرضها عاهته، فيستغل ذلك مثل المحتالين. ترجلت من المترو واتجهت إلى قاعة الأفراح، وبمجرد عبور البوابة الخارجية أخرجت علبة سجائرى الجديدة، التى أهداها إلى صديق عاد قبل أيام من أبوظبى للاستقرار فى مصر بعد غربة دامت أكثر من خمسة عشر عاما، ليقضى على أملى أن يعثر لى على عملٍ معه هناك. فضضت بكارة سيلوفانة العلبة، غير أن نظافة المكان المبالغ فيها أجبرتنى ألا أطوح الورقة بطريقتى المعتادة، فكورتها وأفلتها بخفة، وأنا أتلفت حولى، لأحس فجأة أن الزمن عاد بى إلى الوراء، فجميع رفاق الجامعة تقريبا موجودون، حتى محمود غريب الذى سمعت أنه سافر إلى دبى للعمل، يبدو أنه عاد بخفى حنين. صافحت الزملاء القدامى بكثير من النوستالجيا، وأنقذتنى أغنية «بشرة خير» المنبعثة من ال «دى جى» بصخب غطى على لجلجتى الناتجة عن عدم تمرسى فى الحياة الاجتماعية، وأسعدنى أن السيارة التى تزف النقيب وعروسه وصلت بعد ثوان من وصولى، فكان التصافح مستعجلا، لنتمكن من التلويح لصديقنا بحفاوة كبيرة، توصل له رسالة مفادها «نحن جئنا مبكرين لتعلم كم أنت عزيز علينا»، ولنقطع عليه طريق معاتبتنا على الانصراف من الحفل قبل انتهائه؛ هذا ما يحدث عادة، أو على الأقل أنا أفعل، وبخاصة لو كانت هناك مباريات أريد مشاهدتها. لوحت لعماد وأنا أنحنى بجذعى ليرى وجهى جيدا من نافذة السيارة، ثم التفت إلى محمود غريب الواقف إلى جوارى، وضحكت بخبث وغمزت له غمزة فهمها على الفور، كونه وصل بالتزامن مع وصولى، وظفر دون انتظار طويل ب«أوبشن» التلويح المحمل بالرسالة إياها إلى العريس، وقلت له بنشوة مماثلة لشعوى عندما يحرز الأهلى هدف الفوز فى الوقت بدل الضائع: - On time فاجأنى مراهق بين المستقبلين، بأنه كان يتابع نظراتى وغمزاتى الموجهة إلى محمود غريب، ربما لأننا من المعارف «الشيك» الذين يستعرضهم النقيب أمام أمثال صغير المخلوق الشعبى هذا، الذى شرب المقلب لآخره على ما يبدو عندما سمعنى أتفوه بالعبارة الإنجليزية، فأراد التفاعل معى كنوع من إبداء الحفاوة وأيضا الجدارة بالتعامل مع أمثالى من «أولاد الناس» كما يعتقد أمثاله من فئة “أولاد تسعة”، الذين يزيلون بهذا المصطلح الفوارق الطبقية الظاهرة، فعقب وهو ينظر لى مبتسما ببلاهة: العريس مش معانا خالص دلوقتى. لم أتمالك نفسى من الضحك، وأنا أنظر إليه وأراقب ابتسامته الظافرة الناتجة عن ظنه الخاطئ أننى أضحك من مزحته، التى لا تخلو من إيحاء ما ب «ليلة الدخلة»، وتجنبا لمزيد من التداخل، توجهت وحيدا ناحية باب القاعة، حيث لمحت بالداخل تجمهرا يشبه الشجار، فاقتربت بما تبقى عندى من إرث الجدعنة الشعبية، لأساعد فى إنهاء المشهد حفاظا على «فرح الغالى»، ولكننى وجدت «الخناقة» فى آخرها، ربما لحرص الجميع على مجاملة النقيب. لحقنى محمود غريب، واخترنا منضدة فى آخر القاعة، حتى نحصل على رؤية بانورامية للمكان ومن فيه، أول ما لفت انتباهى «النجفة» الملكية المدلاة من وسط السقف، والتى أثارت ضخامتها خيالى اللغوى، فقررت أن هذه هى التى تستحق مفردة «ثريا» الفصيحة، ثم شطح خيالى فتساءلت عما كان يدور فى مخيلة الحمقى الذين يسمون بناتهم «ثريا»، هل كانوا يدركون أن اسم ضحيتهم يعنى «نجفة»؟ بخطى تشبه الحركة البطيئة فى إعادة اللقطات الهامة فى مباريات كرة القدم، تقدم عماد وعروسه نحو منتصف القاعة، بينما انطلق من السماعات الضخمة صوت شاعر يلقى قصيدة «نبطية» بدا أنها غزلية لكثرة ما بها من ضمائر مؤنثة، تبعتها أغنية خليجية عاطفية هادئة بصوت حسين الجسمى، الذى يبدو أنه يصر على ملاحقتى اليوم. بعد وصول العروسين إلى المكان المحدد، تحلق حولهما الأهل لالتقاط الصور، قبل أن يفاجئنى صوت أكاد أجزم أنه هو نفسه الذى أسمعه فى جميع مناسبات عقد الزواج؛ كانت المرة الأولى التى أرى فيها المأذون الشرعى يعقد زواج العروسين فى قاعة الزفاف، فى مشهد ذكرنى بالمراسم الغربية التى تعقدها الكنيسة، ولم يكد ينته من خطبته القصيرة ودعائه المقتضب المليء بحروف «الجيم» المعطشة، حتى انطلقت من السماعات زغاريد مسجلة، وفرت على سيدات الحفل عناء إطلاقها من حناجرهن كعادة المصريات، وتبعتها أغنية بدوية ذات نغمات راقصة إلى حد ما، رافقت تحرك العروسين نحو المنصة المخصصة لهما، بينما المصور يوجه عدسة الكاميرا نحوهما ويسير إلى الوراء، فقررت أن هذه هى اللحظة المناسبة للمغادرة بطريقة خبيثة، فتحركت نحو عماد وصافحته بحرارة واحتضنته، ضامنا لنفسى ظهورا فى الفيديو، يوثق حرصى على الحضور والاحتفال به. طريق العودة كان أسهل، فالليل قد جن والشوارع أصبحت أقل زحاما، ما منحنى خيار الهروب من المترو الذى لا أعتقد أننى سأحبه يوما، فاستقلّلت أحد الأتوبيسات الجديدة المكيفة المستوردة من الإمارات. كنت مشتاقا إلى معرفة نتيجة المباراة، فلم أكد أدخل البيت، حتى فتحت اللاب توب وتصفحت «يوتيوب»، لأجد فريقى قد هزم الطليان بأربعة أهداف مقابل ثلاثة، وبفرحة بدأت أشاهد الملخص والأهداف، وأسعدنى أن المعلق المصرى المتميز الذى افتقدته منذ أن انتقل للعمل بالقناة الإماراتية، هو الذى تولى التعليق على هذه المباراة.. شاهدت الهدف الأول المبكر، والمعلق يؤكد: - قلت لكم يا جماعة.. الملعب دا وشه حلو ع المصريين.