هكذا بدأت الحرب .. وهكذا انتهت في الخامس والعشرين من يونيو، عام 1950، في تمام الساعة الرابعة فجراً.. هناك علي الحدود بين الجمهورية الشعبية الاشتراكية الكورية الشمالية، وجمهورية كوريا الجنوبية.. آلاف من قذائف المدفعية انطلقت صوب موقع احتله جنود شماليون قبل ساعات قليلة مضت.. إنها حرب شبه الجزيرة الكورية التي استمرت ثلاثة أعوام ودمرت بقسوة ما كان يٌعرف باسم بلاد الصباح الهادئ. وينسب إلي دين أتشيسون، وزير الخارجية الأمريكي، إبان الحرب قوله "إذا حاولت أفضل الأدمغة أن تجد لنا أسوأ موقع في العالم لخوض هذه الحرب الملعونة، لكانوا أجمعوا علي كوريا." عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي كان ضمن نتائجها هزيمة اليابان واستسلامها للحلفاء عام 1945، وفي أغسطس من نفس العام عمد موظفان صغيران في وزارة الخارجية الأمريكية إلي تقسيم شبه الجزيرة الكورية متخذين من خط العرض ال 38 أساسا لذلك، واحتل السوفييت المنطقة الواقعة إلي شمال هذا الخط، بينما احتل الأمريكيون المنطقة الواقعة إلي جنوبه. وفي عام 1948 أعلن الزعيم الكوري الشمالي كيم إيل سونج قيام جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، أي بعد 3 سنوات من زوال الاستعمار الياباني لشبه الجزيرة الكورية، والذي بدأ عام 1910. وبنهاية عقد الأربعينيات، كانت دولتان قد نشأتا في شبه الجزيرة الكورية، ففي الجنوب، كان الديكتاتور المعادي للشيوعية سينجمان ري يتمتع بدعم أمريكي، بينما في الشمال كان الديكتاتور كيم إيل سونج يحظي بمساندة السوفييت والصينيين. ولكن لم يكن أي من الزعيمين راضيا بالبقاء في جانبه من خط العرض 38، إذ كانا يعتبران نفسيهما الممثل الشرعي لكامل كوريا، ولذا كثرت الاشتباكات الحدودية بين الطرفين وأصبحت أمرا دارجا. كرٌ وفرٌٌ الغزو الكوري الشمالي للجنوب كان أول عمل عسكري في حقبة الحرب الباردة. وتدخل الأمريكيون في الحرب في يوليو 1950 إلي جانب كوريا الجنوبية. وكان المسؤولون الأمريكيون ينظرون الي تلك الحرب علي أنها حرب مع القوي الشيوعية العالمية وتحديداً الاتحاد السوفيتي والصين اللتين كانتا في صف الشمال. وعقب كرٍ وفرٍ عبر خط العرض 38، دخل القتال مرحلة جمود، وتزايدت أعداد القتلي والجرحي دون أي نتيجة. وكان المسؤولون الأمريكيون يحاولون جاهدين التوصل إلي هدنة مع الكوريين الشماليين، إذ كانوا يخشون أن البديل سيكون حربا أوسع نطاقا تشمل الاتحاد السوفيتي والصين أو اندلاع حرب عالمية ثالثة. مع ذلك، فاجأ الغزو الكوري الشمالي للجنوب المسؤولين الأمريكيين الذين كانوا يعتقدون أن النزاع ليس مجرد نزاع حدودي بين نظامين ديكتاتوريين غير مستقرين في منطقة نائية من العالم، بل كان الكثير منهم يخشون من أنه يمثل الخطوة الأولي من حملة شيوعية تهدف إلي الهيمنة علي العالم. ولذا، فالامتناع عن التدخل في الحرب لم يكن واردا بالنسبة للكثيرين من صناع القرار الأمريكيين آنذاك. في 25 يونيو 1950 وبضغوط أمريكية وغياب للاتحاد السوفيتي عن الحضور فيما عُرف ب"سياسة المقعد الفارغ"، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارا اعتبر بموجبه التدخل الكوري الشمالي غزوا ودعا إلي وقف فوري لإطلاق النار. وفي 27 من الشهر نفسه، أصدر مجلس الأمن قراره 83 الذي قرر فيه إرسال قوات دولية إلي كوريا. وهبت 21 من الدول الأعضاء في المنظمة الدولية (الولاياتالمتحدة وبريطانيا وكندا وتركيا واستراليا وأثيوبيا والفلبين ونيوزيلندا وتايلاند واليونان وفرنسا وكولومبيا وبلجيكا وجنوب أفريقيا وهولندا ولوكسمبورج) وساهمت في هذه القوات "الأممية"، التي شكلت القوات الأمريكية 88 ٪ من قوامها. وكانت كل هذه القوات تحت إمرة الجنرال الأمريكي دوجلاس ماك أرثر. قال الرئيس الأمريكي آنذاك هاري ترومان، "إذا خذلنا كوريا، سيواصل السوفييت تقدمهم وسيبتلعون البلد إثر الآخر". وكان الصراع في شبه الجزيرة الكورية بالنسبة للأمريكيين رمزا للصراع بين الشرق والغرب، وبين "الخير والشر". ولذا، وبينما كان الجيش الكوري الشمالي يحتل العاصمة الجنوبية سول، أعدت الولاياتالمتحدة قواتها لحرب ضد الشيوعية بحد ذاتها. كانت الحرب الكورية في أول الأمر حربا دفاعية تهدف إلي إخراج القوات الكورية الشمالية من كوريا الجنوبية. لم يحقق الحلفاء الغربيون نتائج مرضية في المراحل الأولي. فقد كان الجيش الكوري الشمالي جيشا منضبطا ومدربا تدريبا جيدا ومزودا بما يحتاج من معدات وسلاح، لدرجة أن الشماليين تمكنوا من احتلال سول العاصمة الجنوبية في ثلاثة أيام. أما قوات سينجمان ري، فكانت علي عكس ذلك خائفة ومضطربة وميالة للفرار من ساحات المعارك في أي مناسبة. كما دارت تلك المعارك في صيف ارتفعت فيه درجات الحرارة إلي معدلات قياسية، بحيث اضطر الجنود الأمريكيون العطشي إلي شرب الماء من مزارع الرز التي استخدمت فيها الأسمدة العضوية، ولذا أصيب الكثير منهم بالتهابات معوية وغيرها من الأمراض. بنهاية صيف عام 1950، كان الرئيس الأمريكي ترومان والقائد العسكري المكلف بالإشراف علي القتال في الساحة الآسيوية الجنرال دوجلاس ماك آرثر قد اتفقا علي أهداف محددة للحرب. وتحولت بذلك الحرب الكورية إلي حرب هجومية هدفها "تحرير الشمال من الشيوعيين." نجحت هذه الاستراتيجية مبدئيا في تحقيق أهدافها، فقد أفلح إنزال برمائي، مدعوماً بالتفوق الجوي الأمريكي ومساعدات من البحرية الأمريكية أيضا، في مدينة "أنشيون" في كوريا الجنوبية في طرد الكوريين الشماليين من سول وانسحابهم إلي شمالي خط العرض 38، إذ خافوا من عملية تطويق محكمة فانسحبوا في فوضي عارمة. ولكن، وبعد أن عمد الأمريكيون إلي اجتياز الحدود والتوجه الي نهر يالو (الذي يمثل خط الحدود بين كوريا الشماليةوالصين)، بدأ الصينيون بالتعبير عن قلقهم إزاء ما وصفوه "بالعدوان المسلح علي الأراضي الصينية." ولذا قام الزعيم الصيني ماو تسي تونغ بإرسال قواته إلي كوريا الشمالية وحذر الولاياتالمتحدة بضرورة الابتعاد عن نهر يالو إلا إذا كانت تريد خوض حرب شاملة. وبالفعل، وفي أكتوبر 1950، عبرت قوات صينية نهر يالو وانخرطت في الحرب إلي جانب كوريا الشمالية. وأدي التدخل الصيني إلي تقهقر "القوات الدولية"، التي انسحبت وواصلت تقهقرها إلي أواسط عام 1951. لم يكن هذا أمرا يريده الرئيس ترومان ومستشاروه، فقد كانوا متأكدين بأن توسيع الحرب سيؤدي لا محالة إلي تحرك سوفيتي في أوروبا واستخدام أسلحة نووية وملايين الخسائر. ولكن الجنرال ماك آرثر كان يري أن أي حرب أضيق نطاقا من حرب شاملة تعتبر "تنازلا" للشيوعيين. وبينما كان الرئيس ترومان يعمل كل ما في وسعه لتجنب الحرب مع الصينيين، كان ماك آرثر يبذل كل ما لديه من جهود لإذكاء حرب كهذه. في مارس 1951، بعث ماك آرثر برسالة لزعيم الجمهوريين في مجلس النواب جوزيف مارتن - الذي كان يؤيد موقف ماك آرثر بإعلان الحرب علي الصين - قال فيها إنه "لا يوجد بديل للنصر" في الحرب علي الشيوعية العالمية.. كان ماك آرثر واثقا بأن محتويات الرسالة ستسرب إلي الصحف، ولكن بالنسبة لترومان كانت تلك الرسالة هي القشة التي قصمت ظهر البعير. وفي 11 أبريل 1951، طرد ترومان ماك آرثر بتهمة التمرد. وتقول بعض المصادر الأمريكية إن ماك آرثر كان قد جهز خطة لضرب 6 مدن، من بينها بيونج يانج وبكين وميناء فلادوفسكي في روسيا، وهنا قرر ترومان إحالة ماك آرثر للتقاعد، إذ كان من شأن تنفيذ خطته إشعال حرب نووية مع السوفييت مما كان سيؤدي إلي فناء نصف البشرية علي الأقل، وحل محل ماك آرثر الجنرال ريدجواي. اتفاق الهدنة في يوليو 1951، شرع الرئيس ترومان وقادته العسكريون الجدد في مفاوضات للسلام جرت في قرية بانمونجوم الحدودية بين الكوريتين، ولكن القتال استمر في منطقة خط العرض 38 بعد أن تعثرت المفاوضات. وكانت عقدة الخلاف بين الجانبين تتمثل في وجوب إجبار الأسري الكوريين الشماليين والصينيين علي العودة إلي بلدانهم، إذ كان الصينيون والكوريون الشماليون يصرون علي ذلك، بينما رفض ذلك الأمريكيون. ولكن، وبعد أكثر من سنتين من المفاوضات وقعت الأطراف المتحاربة علي اتفاق للهدنة، في 27 من يوليو 1953، سمح للأسري بالتوجه إلي البلد الذي يرغبون، ومنح كوريا الجنوبية مساحة أرض إضافية لتبلغ مساحتها 1500 ميل مربع قرب خط العرض 38، وشكّل "منطقة منزوعة السلاح" يبلغ عرضها ميلان ما زالت موجودة اليوم. ومنذ ذلك الحين ما زالت شبه الجزيرة الكورية في حالة حرب من الناحية الرسمية. الخسائر كانت الحرب الكورية حربا قصيرة، ولكنها اتسمت بدموية استثنائية، فقد قتل فيها قرابة ال5 ملايين إنسان أكثر من نصفهم من المدنيين شكلوا 10٪ من مجموع سكان الكوريتين. وكانت نسبة الخسائر تلك أعلي من الخسائر المدنية في الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام. كما قتل في الحرب نحو 40 ألفا من العسكريين الأمريكيين فضلا عن إصابة أكثر من 100 ألف. غير أن تبادل الابتسام والتصافح بالأيدي، الذي حدث يوم الجمعة الماضي بين زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون ورئيس كوريا الجنوبية مون جيه-إن في المنطقة منزوعة السلاح شديدة التحصين بين البلدين، وتعهدهما بالسعي لتحقيق السلام بعد عقود من النزاع، وتوقيع إعلان يتضمن الموافقة علي العمل من أجل "نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية"، والتعهد بالعمل علي التوصل إلي اتفاق لتحقيق سلام "دائم" و"راسخ" في شبه الجزيرة، يجعل العالم بأسره عند نقطة تحول تاريخي، بعد فترة من الرعب علي وقع تهديدات باستخدام أسلحة نووية بين كوريا الشماليةوالولاياتالمتحدةالأمريكية. وشمل إعلان الزعيمين تعهدات بالحد من التسلح ووقف "الأعمال العدائية" وتحويل الحدود المحصنة بين البلدين إلي "منطقة سلام" والسعي من أجل إجراء محادثات متعددة الأطراف مع دول أخري مثل أمريكا. وأصبح كيم أول زعيم لكوريا الشمالية تطأ قدماه الجنوب منذ انتهاء الحرب، بعد أن صافح مون فوق حاجز خرساني قصير يرسم الحدود بين البلدين في قرية بانمونجوم التي تعرف بقرية الهدنة.