أيهما يبنى الدول ويمنحها قوتها الناعمة وتأثيرها الحضارى.. العلوم التطبيقية البحتة أم العلوم الإنسانية؟ هذا السؤال طرحته المناقشات التى أثيرت مؤخرا فى بريطانيا بعد قيام ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطانى بتخفيض ميزانية التعليم بنسبة 40% وهو التخفيض الذى جاء على حساب دراسة العلوم الإنسانية مثل الآداب والفنون والفلسفة.. فى حين ذهبت أغلب الميزانية إلى أقسام العلوم والهندسة باعتبارها أصلح للعمل التجارى والصناعى.. هذه الرؤية اعترض عليها بعض الكتاب البريطانيين ومن بينهم الكاتبة والناشطة السياسية والناقدة الاجتماعية ناعومى وولف التى رأت أن العلوم الإنسانية هى التى تقود المجتمع وترقى بالشعوب والأمم وتحمى الشعوب من أن تكون فريسة للأنظمة القمعية.. وأن تجاهل دراسة هذه العلوم المهمة خطوة لتربية مواطنين خاضعين ونظرا لأهمية القضية ورغم أنها انفجرت فى بريطانيا إلا أننا رأينا مناقشتها على صفحات «روزاليوسف» من وجهة نظر مصرية وطبقا لظروفنا التعليمية والاقتصادية والثقافية والسياسية وبجانب مقال ناعومى وولف استضفنا على صفحاتنا د. مصطفى الفقى باعتباره أحد دارسى ومدرسى العلوم الإنسانية ومفكريها و الدكتور محمد النشائى العالم المصرى الدولى الشهير وأستاذ الفيزياء. «روزاليوسف» أعلنت حكومة رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون عن مجموعة من أشد برامج خفض الإنفاق العام صرامة مقارنة بأى برنامج حاولت حكومة أى دولة متقدمة تنفيذه فى هذا السياق. حتى إن وزير التربية والتعليم البريطانى أعلن مؤخراً أن تمويل الجامعات البريطانية سوف ينخفض بنسبة قد تصل إلى 40%. ولكن الجانب الأكثر ترويعاً فى هذه الخطوة هو أن أقسام الفنون والآداب والعلوم الإنسانية سوف تستهدف بشكل أكثر عدوانية مقارنة بأقسام العلوم والهندسة، التى يُفتَرَض أنها أصلح وأكثر نفعاً للعمل التجارى والصناعى. إن شن الحروب ضد الآداب والعلوم الإنسانية ليس بالأمر الجديد ولو أن هذه هى المرة الأولى التى تهاجر بها المعركة على هذا النحو المباشر إلى بريطانيا. فى ثمانينيات القرن العشرين قاد رونالد ريجان موجة من الحملات السياسية والدعائية فى الولاياتالمتحدة لإضفاء صبغة شيطانية على الوقف الوطنى للفنون والآداب. ومنذ ذلك الحين، عملت حكومات الحزب الجمهورى فى الولاياتالمتحدة على خفض تمويل الباليه والشعر والنحت فى المدارس، فى حين اكتسب زعماء الدهماء من أمثال عمدة نيويورك السابق رودلف جوليانى ثِقَلهم السياسى بمهاجمة الفنون البصرية المثيرة للجدل. بيد أن النهج الذى تتبناه حكومة كاميرون أكثر شراً وشؤماً من تكتيكات جناح اليمين القديمة المتمثلة فى استهداف التخصصات التى قد يتعامل معها البعض بازدراء باعتبارها تخصصات عقيمة أو منحلة. والواقع أن التخفيضات التى أقرتها الحكومة البريطانية تكشف عن وجود زخم عنيف لدى البلدان المتقدمة والذى بدأ أيضاً فى الولاياتالمتحدة لاستهداف ذلك النوع من التعليم الذى يؤدى إلى نشوء مجتمع مدنى مفتوح ونشط، وشعب يصعب قمعه. فى بلدان الكتلة السوفييتية السابقة كانت أعمال بعض الشعراء وكتاب المسرح ورسامى الكاريكاتير والروائيين تشتمل على رموز لمواضيع محرمة تتعلق بالحرية، وكانت الشرطة السرية تستهدف أفراد تلك الفئة من المبدعين. واليوم يتعرض أهل هذه الفئة للمضايقات ومحاولات الإسكات والتعذيب فى أماكن مثل إيران وسوريا والصين وميانمار. من الواضح أن أحداً لا يستطيع أن يزعم أن الولاياتالمتحدة أو بريطانيا بلغت مثل هذه النقطة. ولكن الهجوم على الآداب والعلوم الإنسانية يشكل خطوة عملاقة فى اتجاه تربية مواطنين مذعنين لينى العريكة. والواقع أن الحرب ضد الآداب والعلوم الإنسانية فى الولاياتالمتحدة تزامنت مع ظهور مواطنين جهلاء وسلبيين وحكومة تخدم مصالح أصحاب المال والأعمال. إن الأكاديميين فى ميادين الآداب والعلوم الإنسانية مشهورون بأدائهم الردىء فى الدفاع عن الأسباب التى تجعل لأعمالهم قيمة. ولكن بعيداً عن تعزيز قوة المجتمع المدنى وتقاليد الحرية، فإن هذه التخصصات تعود على المجتمع بفوائد أساسية أيضا. ولكن من الذى يحتاج إلى القراءة بانتباه، والبحث عن الأدلة، والخروج بحجج منطقية قائمة على العقل والمنطق وهى المهارات التى تُصقَل بدراسة الشعر والرواية والتاريخ والفلسفة؟ ومن الذى يحتاج إلى دراسة اللغات والأدب المقارن؟ من الواضح أن رد كاميرون على مثل هذه التساؤلات هو: لا أحد على قدر كبير من الأهمية. ولنتخيل معاً حال بريطانيا فى الغد فى ظل برلمانيين لا يعرفون ما الذى أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، أو ما هى حركة التنوير؛ وصحفيين عاجزين عن الكتابة بإقناع؛ ومحامين وقضاة لا يملكون المهارات اللازمة لإحكام قضاياهم؛ وجواسيس ودبلوماسيين لا يفهمون الثقافات التى يعملون فى إطارها ولا يتحدثون لغاتها. لا شك أن بريطانيا بهذه الأوصاف سوف تبدو أكثر شبهاً بالولاياتالمتحدة اليوم. والعجيب أن كاميرون (الذى درس الفلسفة والسياسة والاقتصاد فى أكسفورد، بعد إتمام دراسته فى كلية إيتون، معقل التعليم الكلاسيكى) أنهى بجرة قلم أى نفوذ متبق لبريطانيا على الصعيد العالمى. لقد ظلت بريطانيا، بعد أن فقدت امبراطوريتها، محتفظة بنفوذ عالمى ضخم بفضل صناع قرارها الذين تشربوا واستوعبوا قوة حضارتها ونظامها التعليمى. وهذه الجاذبية القوية هى التى تجعل الطلاب الأجانب من البلدان الناشئة فى مختلف أنحاء العالم يتقاطرون على بريطانيا، ويزودون خزائن جامعاتها بالملايين من الجنيهات سنويا. وبخفض تمويل المؤسسات التى ساعدت فى إنشاء هذه الحضارة، فإن كاميرون يضمن لنا أن تتحول بريطانيا فى الغد إلى أمة خاوية من الساسة والكتاب والمبدعين الثقافيين العالميين، وعامرة بطبقة من التكنوقراطيين المختلين المزعزعين الذين نشأوا على البرامج التليفزيونية الرديئة، والعاجزين عن التأثير على أى أحداث تدور خارج حدود جزيرتهم الصغيرة. إذا لم يراجع هذا القرار الخطير فإن كاميرون وورثته الإيديولوجيين سوف يوجدون أمة من المواطنين المذعنين المسالمين الذين مثلهم كمثل أقرانهم فى الولاياتالمتحدة لا يصلحون إلا لمجتمع تتسم سياساته الرسمية بالانحياز إلى إرادة أصحاب المصالح من عالم المال والأعمال. ورغم أن المدخرات المالية الناجمة عن هذا القرار قد تبدو شديدة الجاذبية فى نظر كاميرون فى الأمد القريب، فإن التكاليف التى سيتكبدها الشعب البريطانى وبقية شعوب العالم التى تستفيد من حيوية بريطانيا وحضارتها وتقاليدها الديمقراطية سوف تكون باهظة. ناعومى وولف ناشطة سياسية وناقدة اجتماعية، وأحدث مؤلفاتها كتاب بعنوان «أعطنى حريتى: دليل الثوريين الأمريكيين».