لا يوجد أى جدل أن الآراء والأفكار الواردة فى المقالة الجيدة بقلم السيدة ناعومى وولف بعنوان «ديفيد كاميرون وحربه الثقافية» كلها صحيحة، ولا يمكن التشكيك فى أساسها الفكرى والعلمى وربما حتى السياسى . لتأكيد ذلك أترك أحد عظماء مصر الحقيقيين الذين أعطونى الإرادة والتصميم على إثبات الذات فى أى مجال وعلى الأخص المجال العلمى والفكرى يتكلم. هذا العظيم ليس أحد العلماء النابغين فى الخارج وإنما شاعر النيل حافظ إبراهيم ويقول فى مصر تتحدث عن نفسها «وارفعوا رايتى بالعلم والأخلاق فإن العلم وحده ليس يجدى»، التفاعلات الكيميائية وقوانين «أووم» فى مقاومة الأسلاك للكهرباء والإشعاع الذرى لا يعلمنا أى نوع من الأخلاق ولا حتى أخلاق البحث العلمى. أهم ما يعنينا هنا فى مصر هو أن نفهم الفرق بين وضع مصر بالنسبة للدول المتقدمة ووضع بريطانيا بالنسبة لأمريكا المقارنة التى تعقدها وولف بين بريطانيا وأمريكا واردة، ولكن هذا فقط لأن الاختلافات ضئيلة نسبيا الوضع فى مصر والبلاد النامية مختلف تماما. فى مصر يجب أن تكون هناك.أنواع البحث العلمى التى تطمع فى جوائز عالمية باهرة مثل جائزة نوبل وهى وبدون أى تواضع أو زهد زائف من أهم الأشياء لى شخصيا هذه الأبحاث لا قيمة لها بتاتا لمصر ولذلك يجب أن تكون من الأوليات. كذلك فنون الأوبرا والباليه وخلافه، لا يمكن أن تكون الأولويات بالنسبة لميزانية الدولة. العلوم الإنسانية والعلوم النظرية التى لا تجد تطبيقات تصب فى الاقتصاد لا يمكن أن يكون لها نفس المكانة فى الموازنة العامة كما هى للعلوم الهندسية والتطبيقية، هذه بديهيات، ولكن حذار أن تأخذ كل كلمة بدون حرص، الفن وخصوصا الفن المصرى بالنسبة للعالم العربى هو صناعة مهمة وجزء لا يستهان به من الاقتصاد المصرى،والحقيقة أن دخل دول مثل إيطاليا من وراء الفنون الجميلة يضارع كثيرا من الصناعات الخفيفة لدول متقدمة، ربما يتذكر القارئ الفريق الإنجليزى «البيتلز» أى الخنافس، لقد أدخل «جون لينون» و«بول مكارنتى» و«رنجو ستار» مئات الملايين من الدولارات إلى الخزانة البريطانية بسبب اسطوانات أغانيهم. تلخيصا لما سبق لا يوجد جدل بالنسبة للأهمية القصوى للعلوم الإنسانية والفنون وحتى سبقها على العلوم الدقيقة مثل الطبيعة والرياضيات، ولكن التخفيض الذى قامت به حكومة «ديفيد كاميرون» هو تخفيض وقتى لعدد من السنوات يرجع بعدها الأمر إلى ما كان. الإنسان هو الذى يصنع المنتج الصناعى ولذلك العلوم الإنسانية لها الأولوية، ولكن معنى هذا الكلام لابد أن يؤخذ بعمق وحذر.. يقول «برتلود برخت» فى مسرحيته الغنائية «أوبرا بثلاثة ملاليم» Three penny opra أعطنى آكل أولا ثم تكلم معى بعد ذلك عن الأخلاق». بالنسبة للدول النامية لابد أن تكون هناك أولويات. مصر مختلفة تماما عن دول أوروبية، وهذا لابد أن يؤخذ فى الاعتبار لكى نرفع رايتها مرة ثانية «بالعلم والأخلاق». وهناك نقطتان أخريان أحب أن أشير لهما : 1- قول السيدة ناعومى وولف أن العلوم البحتة تسطح العقل هو قول خطأ شكلا وموضوعا علميا وأدبيا - القول يشابه فى العلوم الإنسانية أن يقول أحدهم إن حب الشعر يفقد الإنسان المقدرة على فهم الموسيقى، موهبة الشعر غير موهبة الموسيقى ولكنهما متكاملتان ولا يوجد تعارض. كون أن ليوناردو دافنشى لا يكتب سمفونيات مثل «لودفج فان بتهوفن» لا يعنى أن ليوناردو دافنشى ليس فنانا عبقريا، خصوصا أن بتهوفن لم يكن أبدا معروفاَ عنه أنه رسام العلوم البحتة. نتطلب تعليما ومواهب مختلفة عن العلوم التطبيقية وعن الفنون الأستاذ الدكتور أحمد زويل هو عالم تجريبى رائع، وإذا أنا حاولت تقليده فى المعمل - بصرف النظر عن أنى فيزيائى وهو كيميائى - أقول إذا حاولت تقليده فى المعمل فسوف تكون النتيجة فاشلة تماما. وبنفس المعنى لا يمكن للدكتور أحمد زويل أن يعمل أعمالا نظرية مثل أعمال «هيزنبرج» أو «بول ديراك» أو حتى «الدكتور مصطفى مشرفة» ولا حتى أى أستاذ عادى للطبيعة النظرية فى جامعة أقل من عادية، أعتقد أن السيدة ناعومى وولف جانبها الصواب هنا كثيرا، بالإضافة إلى أن تفكير الرياضيات يتطلب موهبة فنية كبيرة. الرياضيات البحتة ليست حسابات إنها خيال. 2- أما عن عزوف الشباب عن العلوم والهندسة فى مصر فله أسباب متضاربة ومختلفة، أولا كلية الهندسة تأخذ أحد أكبر المجاميع مثل الطب، ولكن ما هى الفائدة عندما تجتهد وتعمل ليل نهار وتتخرج من الهندسة أو حتى من الطب ولا تجد العمل الذى يؤمن لك دخلا مناسبا، فرص العمل قلت بشكل كبير، أما السياحة فهى فى تقدم فى مصر وأشياء أخرى كثيرة لا تتطلب مجهودا دراسيا ضخما مثل الطب والهندسة. كلية العلوم مثلا كانت دائما مهجورة نسبيا لأن مصر ليست أمريكا أو اليابان. أين المعاهد البحثية مثل ibm أو أمثالها لكى يتوظف بها النوابغ. كل ما يمكن أن نحصل عليه هو التدريس فى قسم علوم فى جامعة، وهذا لم يعد يكفى لشد نوابغ الطلاب لكلية العلوم، وهذه الأشكال موجودة فى كل البلاد النامية بالإضافة إلى أن هناك الحلم بالمكسب السريع بالمجهود البسيط عن طريق العمل فى أى أعمال إدارية والوصول إلى كرسى المدير.. سواء مدير بنك أو رئيس تحرير جريدة كبرى.. سوق العمل هو الذى يحدد كل شىء فى النهاية، ولا يمكن لأحد أن يجذب الطلاب إلى العلم وكليات العلوم بالكلام الجميل. فقط الشباب يريد الزواج والمنزل، أى الدخل.. هذه هى الأولويات.