مع كل التقدير لمعظم الأسماء التى دعيت للقاء الرئيس مبارك أخيرا، والاعتراف بالقيمة الأدبية الرفيعة، سواء لمن لبى الدعوة أو من منعته الظروف، فإنه من التغافل اعتبار هؤلاء المثقفين يمثلون تيارات سياسية وثقافية مختلفة، لمجرد أن بهم كاتبين أو ثلاثة لا يعملون بوزارة الثقافة أو على علاقة وطيدة بها، أو حتى من أصحاب الموقف المحايد!. ربما تم ترويضنا على معايير اختيار ضيوف هذه اللقاءات، ما جعل الصحافة تتغاضى عن هذه النقطة، فأسرع الزملاء فى مهاتفة أبرز الأسماء التى قابلت رئيس الدولة لمعرفة ما دار باللقاء، ولكن فوجئنا يومها بأن الجميع يرفض الحديث باستثناء الكاتبة عائشة أبوالنور التى أشارت إلى بعض النقاط السريعة، لدرجة أن المفكر الكبير السيد يس برر رفضه التعليق، صراحة، بأن «رئاسة الجمهورية ستصدر بيانا بما دار فى الاجتماع». لم يدر بخلدنا أن امتناعهم عن الحديث كان ضمن التحضير لنشر شهادات جماعية عن اللقاء فى جريدة الأهرام، جاء بعنوان «لقاء مبارك مع المثقفين بأقلام كتاب الأهرام». وهذا أمر مشروع، لكن الفاجعة كانت مضمون هذه الشهادات. لقاء رئيس الدولة لا شك أن له بريقا خاصا، ولكن ما كان لهذا البريق أن «يزغلل» عيون الضيوف فيخرجوا من قصر الرئاسة ليلخصوا الساعات الأربع، مدة اللقاء، فى طمأنة القارئ على صحة الرئيس. وفى غمرة الاستعجال، شاءت الظروف، أن تكشف بخطأ غير مقصود أن ضمن هذه الشهادات ما لم يكتبه صاحبها بقلمه، فتجد مثلا، فى مقال السيد يس فقرة تبدأ ب«وأضاف السيد يس»، فكيف لكاتب المقال أن يقول عن نفسه «وأضاف»؟. الكاتب صلاح عيسى، رئيس تحرير جريدة القاهرة، لسان حال وزارة الثقافة، رأى أن اللقاء اكتسب أهميته من أنه «الأول بعد انقطاع خمس سنوات، توقفت خلالها اللقاءات الدورية التى بدأت فى منتصف الثمانينيات بعدد محدود من الكتاب، ثم تزايد العدد تدريجيا حتى وصل إلى نحو 800 مثقف، وهو ما جعل الطابع الاحتفالى يغلب على اللقاء، وأفقده طابعه المميز»، فالكاتب الكبير يفضل أن يكون اللقاء «على الضيق»، حتى لا يشوشه «فيلق الثعالب الذى يفسد الكروم». نهاية، جاءت شهادات كتاب الأهرام بلا استثناء لتركز على رحابة صدر الرئيس، وتمتعه بصحة جيدة، واستقباله لكل الآراء بموضوعية شديدة، وكيف كان - الجو بحسب الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى «طلق ودود أسعد كل الذين حضروا»، فضلا عن ذكر بعض النقاط التى تمت مناقشتها، حفظا لماء الوجه، كأسعار الطماطم والفتنة الطائفية ومدى إصرار الرئيس على حرية صحف المعارضة مهما كانت آراء كتابها، وموافقة الرئيس على طلب د. جابر عصفور بصرف 20 مليون جنيه للمركز القومى للترجمة، «ليست من موازنة الدولة، أو من ميزانية الرئاسة»، كما قال الكاتب يوسف القعيد فى تغطية صحفية سريعة للجلسة، لم يوضح لنا فيها من أى ميزانية صرفت هذه الملايين! الدلالة الخطيرة لهذا المشهد تزيد اليأس من محاولات حل خيوط القضية الجدلية لعلاقة المثقف بالسلطة، والتى أفنى فيها بعض الكتاب والباحثين سنوات طويلة، يصرخون للتنبيه على خطورة التوظيف الخاطئ للمؤسسة الثقافية الرسمية، المتمثلة فى وزارة الثقافة، التى نعلم تماما أن لها بعض الإيجابيات، ولكن إذا تحدثنا عن السلبيات فحدث ولا حرج، أبسطها أننا نستطيع بسهولة ذكر عشرة أسماء على الأقل من قيادات الوزارة، خرجوا بقضايا فساد مشهورة، أو تسبب إهمالهم فى مصائب كبرى، ورغم ذلك لا نجد أى حرج فى الدفاع عنهم على اعتبار أن الوزير، كما قال أكثر من مرة، يرى فيهم الكفاءة المهنية، أما مسألة فسادهم من عدمها فهى مهمة الأمن. ربما كان كلام الوزير صحيحا إذا حدث ذلك مرة أو اثنتين، ولكن مع كل هذا الكم من قضايا الفساد والإهمال فالمسألة تستحق التوقف عند معايير الاختيار. وحتى إن كانت تصريحات الوزير مقبولة، وأنه غير مسئول عن فساد فلان أو علان، فلا يجب عليه التبرير والتعاطف بعد اكتشافه الفضيحة، مثلما صرح فى أحد البرامج الرمضانية بتعاطفه مع «أيمن عبدالمنعم» رئيس صندوق التنمية الثقافية الأسبق، والمسجون فى قضية رشوة شهيرة، والذى أثار صعوده الصاروخى داخل وزارة الثقافة طموح شباب الموظفين، علهم يأخذون هذه المكانة يوما ما. كما كان على الوزير الفنان الابتعاد عن الشبهات وقطع علاقته بمستشاره الصحفى السابق محمد فودة، الذى كانت له هو الآخر قصة صعود غامضة، جعلت منه أحد أصحاب القرار داخل الوزارة، والذى يقال إنه صار يتردد على مكتب الوزير بشكل غير رسمى بعد خروجه من السجن فى قضية تربح من المنصب اشترك فيها مع محافظ الجيزة الأسبق، ماهر الجندى. وبالعودة إلى علاقة المثقف بالسلطة ومدى تأثيرها إيجابا وسلبا على المجتمع، نتوقف عند دراسة مهمة للدكتور حسين عبدالعزيز، مستشار ووكيل مجلس الدولة السابق، نُشرت فى «أخبار الأدب» منذ 6 سنوات، يناقش فيها مفهوم كلمة «الإنتلجنتسيا»، التى اختفت من «الساحة الثقافية والوطنية المصرية فى الزمن الراهن». و«الإنتلجنتسيا»، كما جاء فى الدراسة: «كلمة روسية، عرفها أحد الكتاب الروس بأنها تعبر عن المثقفين ذوى التفكير النقدى أو الذين يقتربون من الشعب ويبتعدون عن السلطة». عبدالعزيز يرى أن هذه النوعية من المثقفين اختفت، وطفت على السطح عدة صور جديدة للمثقف، وقسمهم إلى أنواع، فمثلا هناك «المثقف الإيديولوجى، الذى يروج لأفكار وسياسات السلطة من خلال الأجهزة التابعة لها، والمتصلة بالفكر والإعلام. هناك أيضا المثقف السياسى بالوكالة، وهو شخص يقوم بمهام سياسية محددة نيابة عن السلطة»، والنوع الأخير يوجد منه من يعمل فى الخارج، ويعرف بالدبلوماسية الشعبية، وهناك من يعمل فى الداخل فى تدجين المثقفين المناضلين وعقد الصفقات معهم، مثل تسكينهم فى وظائف بالمؤسسة، أو ما شابه، وترى الدراسة أن هذا الرجل الذى يدجن الآخرين، غالبا ما يكون آتيا من خلفية سياسية وتاريخ نضالى سابق، يوفر لهم الثقة اللازمة. الخطر الحقيقى فى هذه الظاهرة، ليس فى وجود مثقف حكومى، أو مثقف محترم يعمل داخل عباءة الدولة، ولكن عدم وجود المقابل الفعال لهذه الفئة له تأثيره السلبى، ليس فقط على مستوى السياسة. فأنت لا تستطيع تخيل ازدهار فى مستوى الثقافة لبلد ما دون وجود فئة مقابلة للمؤسسة الرسمية، سواء اختلفنا معها أو اتفقنا، وهذه هى الجريمة الحقيقية التى قامت بها المؤسسة عبر سنوات طويلة. حول هذه النقطة تحديدا، تُذكرنا دراسة «عودة الإنتلجنتسيا» بالتجربة الروسية فى القرن التاسع عشر، عندما نشأت شريحة من المثقفين ذوى العقلية النقدية، متباعدين عن السلطة، وقريبين من الشعب، استطاعوا توفير المناخ الملائم وخلق العصر الذهبى للثقافة الروسية فى كل المجالات: «وظهرت ألمع الشخصيات فى التاريخ الروسى والعالمى، فى ظل أسوأ حكم عرفته روسيا وأكثره استبدادا، وهو حكم القيصر نيقول الأول، وأصبحت روسيا القيصرية التى كانت سجن الشعوب، فى طليعة الثقافة والفن والأدب، ولم تمر سوى بضع سنوات حتى ظهر بها مبدعون عظماء على المستوى العالمى، مثل تولستوى، بوشكين، ديستويفسكى، وتشايكوفسكى». الأجواء ذاتها سجلها التاريخ المصرى فى صفحاته، فعلاقة المثقف بالسلطة تطورت لعدة أشكال، وغالبا ما كان للظرف السياسى تأثيره البالغ على انحدار أو ازدهار الثقافة والمثقفين وعلاقتهم بالشارع. وأذكر هنا دردشة مع الناقد الدكتور محمد بدوى حول هذه المسألة، كان رأيه «أن مثقفى السلطة يجب عليهم الانتباه إلى أننا نعيش مرحلة تغيير فى شكل التلقى، وبات من يجنون الشهرة والمال هم من يصرخون فى وجه النظام حتى ولو كذبا»، وهو بالطبع ما يدلنا على الشكل الذى آلت إليه العلاقة بين المؤسسة الرسمية والشعب. والتاريخ المصرى ملىء بمشاهد توضح كيف كان حفاظ المثقف على المسافة الفاصلة بينه وبين السلطة، معيارا فاصلا فى ازدهار الثقافة وفى علاقته بالناس.. وإلى حلقة مقبلة.