أظن أن تباعد تقاطر نشر مقالي في الأهرام منعني الاشتباك مع موضوع هذه السطور, وتلبية البعد الإخباري في الوقت المناسب, ومع ذلك فإن الزاوية( الحدثية) للملف. ربما ليست الأكثر حضورا فيما أود طرحه, لأن الزاوية( الموضوعية) تظل الأكثر إلحاحا بالنسبة لي. الجوائز الثقافية والإبداعية, التي تمنحها الدولة تحت مسميات مختلفة في كل عام, كانت في الأعوام الماضية نموذجا كلاسيكيا لإهدار المعايير, والشللية, وإثابة الأصدقاء, والأنصار, والمعضدين, والمنتمين الي تيار فكري وسياسي واحد تقريبا. لا بل ووصل الحال في إحدي السنوات أن سألت أحد المسئولين الكبار عن منح تلك الجوائز حول أمر حالة بعينها فأجابني: أصلها ألحت علينا واتصلت بأعضاء اللجنة المانحة واحدا واحدا. يعني منطق الحشد أو الإلحاح هو مؤثر حاضر في منح جوائز الدولة الثقافية والابداعية, فضلا عما ذكرناه من الشللية, والرغبة الحارقة في تدليل شخص بعينه. وفي هذا العام بالذات ضمت لائحة الحاصلين علي جوائز الدولة متنوعة الدرجة والمستوي, أسماء رائعة وغير قابلة للمناقشة, ولكنها كانت غطاء أخفي تحته نفس القيم المعيبة في الاختيار والترشيح لأسماء أخري. ولعل اللافت للنظر أن كبار المسئولين عن منح تلك الجوائز والمحتلين أرفع المواقع بوزارة الثقافة غالوا كثيرا هذا العام في الحديث عن أن جوائز الدولة( نزيهة) و(شريفة) و(عفيفة) علي نحو أكد ظنون وهواجس المجتمع في أن جوائز الدولة لم تك كذلك في الأعوام الماضية, أو معظمها في أكثر التعبيرات كياسة! يعني بعبارة أكثر مباشرة فإن المبالغة الشديدة في الحديث عن نزاهة الجوائز هو محض تحسس لبطحة تعلو دماغ جهة أو شخص. فالأصل في الجوائز ومعايير التقويم أن تكون نزيهة, وشريفة, وعفيفة, فهل يود مسئول هنا أو هناك أن نرسل له باقة ورد علي المنزل, أو نحجز له مساحة إعلانية في الصحف لنشكره فيها علي أن الجوائز نزيهة؟! ما أود مناقشته اليوم هو:( ديمقراطية منح الجوائز). بعبارة أخري.. الي أي مدي يمكن للدولة المصرية, ومؤسساتها الثقافية رفيعة المقام, أن تتخلي عن الانصياع لفكر التقسيمات الحدية, التي تصنف المثقفين الي( ناس معنا) حق عليهم التدليل, والطبطبة, والنغنغة, و(ناس ليسوا معنا) حقت عليهم اللعنة, والحصار, والخنق, والإبعاد, واغتصاب الحقوق المهنية والشخصية. يعني أنا مثلا أحد الذين بالقطع وكما يعلم الجميع المختلفين مع التيار الديني, أو معظم طروحه السياسية والفكرية, وعبرت عن ذلك في ساحات الصحافة, والإعلام, والأدب, والأكاديمية ما وسعني التعبير, ولكنني حتي اللحظة لا أفهم الإبعاد العمدي عن قصد وتدبر لأسماء بعينها من ساحة التقدير وجوائزه لمجرد ارتباطها بتيار فكري إسلامي. نحن ضد تسييس الدين, ولكننا لسنا ضد الدين ذاته, بحيث اذا اتشح أحد المبدعين أو النقاد بما يمكن اعتباره قيما إسلامية عامة, وجب علينا عقابه علي نحو وبيل, فيه كل ذلك الانكار, والرغبة اللدودة في سلب الحقوق, وإهانة تراكم المنجز الابداعي, والإنساني الذي حققه علي امتداد حياته. واذا كانت لجنة الجوائز الموقرة سمحت في عام سابق بمنح جائزة كبري لأحد الأدباء المعارضين من مربع اليسار, فأعلن في صدمة مروعة رفضه علانية لها مسببا بمواقف سياسية معارضة للنظام, فما هي المشكلة إذن في منح الجائزة لشخصيات تنتمي الي التيار الديني, ولها منجزها الذي نختلف معه أو نتفق, ولكنه في نهاية المطاف, تعبير عن رؤية خاصة للحياة وفلسفتها, ولأصحابه أو بعضهم وزن دولي كبير من خلال مؤسسات, وجامعات, تحتفل بالنتاجات الكبري لمثل أولئك المبدعين, وتناقشها, وتدرسها, وتطبعها, وتوجه الي إعداد أطروحات الدراسات العليا عنها. يعني جوائز الدولة صارت مقصورة علي فصيل سياسي وفكري واحد,( سواء كان أعضاؤه موالين أو معارضين), وانتبذت مؤسسية الثقافة الرسمية بذلك الفصيل ركنا قصيا, حتي يتفرغ قادتها لتدليله وهشتكته! واذا كانت ديمقراطية نظام الرئيس مبارك اتسعت لنري علي الساحة العامة وفي مجالات تعبير مختلفة أسماء: الدكتور محمد عمارة, والمستشار طارق البشري, والأستاذ فهمي هويدي والدكتور محمد سليم العوا والدكتور كمال أبو المجد. فإن المرء ليتساءل: هل تخدم السياسات الثقافية ومعايير التقويم في لجان منح الجوائز نظاما آخر غير نظام الرئيس مبارك, عامدة الي تكريس كل تلك الرغبة في الخندقة, والاستقطاب, والاحتراب, وإنكار معني( التعددية في الكل), والاقتصار علي معني( التعددية في الجزء). لا بل ان الأمر لم يقتصر علي الأسماء التي ذكرتها آنفا, وانما شملت الظاهرة مبدعين كبارا أيهم عالي المقام والمكانة علي نحو يجعل من تجاهله سلوكا معيبا, ينبغي أن تعتذر المؤسسة الثقافية وجهات الترشيح والمنح عنه مئات المرات كل يوم, حتي نقبل بعد ذلك بما تسبغه تلك الجهات علي نفسها من صفات, مقسمة بأنها:( شريفة) و(نزيهة) و(عفيفة). وأذكر هنا اسمين فقط لمن شاء أن يتفكر وهما اسم الأستاذ الكبير أحمد بهجت صاحب الإبداعات الصحفية, والفنية والأدبية الملهمة, واسم الناقدة المسرحية الكبيرة الأستاذة صافيناز كاظم, احدي أهم الكاتبات المصريات علي امتداد عمر صحافتنا. ولا أرغب في سياق ما أطرح الآن الدخول في جدل, أو سفسطة, أو لجاج, أو سماجة, أو لبط, يحاول أصحابه خلط الأوراق, وتسييس عملية منح الجوائز, أو التعلل بالنواحي الإجرائية التي يتم الترشيح بناء عليها, إذ إن كل النشاط الثقافي, بات يقوم علي منطق( الإبعاد), وليس فكر( الإدماج), واذا كنا نطالب رموز ونجوم الفكر الإسلامي بعدم تسييس الدين, فالأولي بنا ألا نسيس معايير تقويم الإبداع. إن المرء ليتساءل: هل نفهم الديمقراطية, والليبرالية بطريقة أخري غير تلك التي تسود معانيها في الدنيا بأسرها؟ لا بل وأواصل التساؤل: هل نفهم ديمقراطية نظام الرئيس مبارك علي نحو يفسره كل منا علي كيفه ومزاجه وهواه؟ ومن المدهشات المضحكات, أن درجة تشدد مؤسسات الدولة إزاء( الاختلاف) تتفاوت علي نحو لافت, فمؤسسة الإعلام تبدو أكثر تسامحا إزاء المعارضة, مقارنة بمؤسسة الثقافة, وهي لا تفعل ذلك هبلا أو استهبالا, ولكنها تحاول التناغم مع معطيات ومقتضيات مرحلة جديدة تعيشها البلاد, وأطلقها الرئيس مبارك نفسه, محيطها بحمايته الشخصية أيا كانت التجاوزات. وصحيح أن مؤسسة الإعلام لا تمد مظلة تسامحها الي التيار الديني بشكل كبير, لأن طبيعة خطاب الإعلام سياسية في معظمها, ولكننا في حالة الثقافة نتكلم عن الإبداع, والنتاج الفكري, والفني, والأكاديمي, فما هو مبرر تلك الروح المكارثية التي تسود عملية التقويم ومنح الجوائز. وجزء من فكر ظاهرة الشوارعيزم القائم علي الاستقواء هو منطق( الاستبعاد والحصار والتجاهل وإهدار جزء من قوة الدولة وفاعليتها كنتاج لسيادة روح التقسيم والتصنيف). وللأسف فإن الدولة المصرية مارست ذلك السلوك لعهود وعقود حين كانت تصنف السيدة أم كلثوم كوكب الشرق, والأستاذ محمد عبدالوهاب موسيقار الأجيال, والأستاذ توفيق الحكيم أسطورة المسرح والحوار بوصفهم( رجعيين) و(يمينيين)!! وتعلمت هذا المنطق من الدولة, قوي الاستقواء الجديدة, أو قوي الشوارعيزم الصاعدة( بعض كوادر الإدارة+ المتمولين من رجال الأعمال+ إرهابيي الصوت والقلم من الصحفيين والإعلاميين المأجورين), وبحيث صارت مؤسسات الدولة تستبعد أسماء معينة, وكأن عليها الجرب لأنها تنتمي لقوي الاختلاف, علي حين استبعدت مؤسسات الصحافة والإعلام الخاص أسماء أخري لأنها تنتمي الي كيان النظام وبدنه.. وفي الحالين.. مصر هي الخاسرة.. هي الخاسرة!!{