قرأت باهتمام مقال « ناعومى وولف» حول قرار ديفيد كاميرون - رئيس الوزراء البريطانى - بتخفيض الإنفاق على الجامعات البريطانية والنزول بميزانياتها إلى حد لم تصل إليه من قبل، وذلك برغم السمعة العلمية الكبيرة التى تتمتع بها تلك الجامعات والتى أتشرف أننى واحد من خريجيها، وقد تركز التخفيض بالدرجة الأولى على أقسام الدراسات الإنسانية فى محاولة لتقزيم دورها وتحجيم تأثيرها بل وازدراء مكانتها ! ولنا على ذلك الملاحظات التالية: 1- إن التعليم الجامعى هو تعليم تكميلى ليس أساسيا، ولاشك أن « فوبيا» الشهادة الجامعية فى مصر ليست بالضرورة هى تلك التى يعرفها العالم المتقدم فمصر فى ظنى أحوج ما تكون إلى شهادات وسطية متخصصة التى تقترب من نموذج كليات «البوليتيكنيك» ومدارسها لتخريج الفنيين فى جميع التخصصات خصوصا أن التنمية فى مصر تبدو فى حاجة ماسة إلى ذلك، فالدول لا تبنيها الشهادات اللامعة، ولكنها تقوم على الخبرات الحقيقية الناشئة عن التدريب العملى والممارسة التطبيقية، وأنا ممن يعتقدون أنه يمكن اختزال الجامعات المصرية فى أعداد أقل وبكفاءة أعلى مع فتح أبواب الشهادات الوسطية البديلة والتركيز على عنصر «التدريب» باعتباره الأسلوب الأمثل لانتشال «مصر» من الأهرامات المقلوبة والخبرات المفقودة والإمكانات المهدرة. 2- إن المحاولة البريطانية لتقليص حجم الدراسات النظرية ليست جديدة، بل إننى أزعم أن مصر قد عرفت شيئا من ذلك منذ العصر الناصرى، عندما احتلت كليات القمة الهندسة والطب والصيدلة مكان الصدارة قبل أن تزاحمها فى العقود الثلاثة الأخرى كليات الاقتصاد والعلوم السياسية والإعلام مع عودة ملموسة لمكانة كلية الحقوق مع التحول الذى طرأ على المجتمع المصرى، وانتقل به إلى اقتصاديات السوق، بحيث بدأت النزاعات الاقتصادية والمشكلات الإدارية وجلسات التحكيم التجارى وعقود البترول، بل والنزاعات ذات الطابع الإقليمى محتاجة كلها إلى جيوش من المحامين الأكفاء، وهذا يعنى أن مصر قد مرت بمرحلة عرفت فيها تعظيم دور الكليات العلمية والعملية وازدادت فيها الدراسات النظرية والتخصصات الإنسانية، وهذا فى ظنى أمر خطير لأنه إذا كانت قضايا التنمية والإصلاح لا تستغنى عن العالم خريج الكليات العملية، فإنهما أيضا التنمية والإصلاح اللذان يحتاجان إلى المفكر من خريجى كليات الدراسات الإنسانية فعلوم القانون والاقتصاد والسياسة والاجتماع وعلم النفس، بل والفلسفة باعتبارها أم العلوم كلها هى لوازم للتطور لا تستغنى عنها المجتمعات ولا تنهض بدونها الشعوب. 3- إن التركيز على الدراسات العملية التطبيقية دون الدراسات الإنسانية النظرية هو تصرف عقيم يدعو المجتمع إلى أن يقفز بقدم واحدة لأنه مجتمع أعرج وناقص غير قادر على التحرك بامتداد جبهة عريضة تشمل نواحى الحياة فكرا وعلما، نظرية وتطبيقا، دراسة وتدريبا، وهذا المقال الذى نشير إليه يعالج واحدة من أخطر القضايا فى المجتمعات النامية وأكثرها تأثيرا على برامج النمو وأهداف التحول. .. هذه ملاحظات ثلاث نوردها حول قضية حيوية يجب أن يثور حولها النقاش وأن يمتد الحوار لأنها مسألة حاكمة خصوصا فى ظل الاعتراف الكامل والتسليم شبه المطلق بنظرية «وحدة المعرفة» وآثارها الإيجابية التى تؤمن بأن الفرد السوى يجب أن يملك ثقافة أفقية قبل أن يسعى لحيازة تخصص رأسى يتعمق فيه ويبحث ويصبح فيه حجة ومرجعا.. إن مصر تحتاج إلى كل التخصصات، ولكنها لا يجب أن تجرى وراء كل الشهادات، إن مصر التى تريد أن تقيم قواعد المستقبل على أسس راسخة يجب أن تدرك مرة أخرى أنه بالفكر والعلم معا تنهض الدول وتتقدم الشعوب وترتفع الأمم.