قبل يومين من إجراء الانتخابات البريطانية التشريعية في 6 مايو، كشفت استطلاعات رأي نشرتها صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية التقارب الشديد بين حزبي العمال الحاكم بزعامة رئيس الوزراء الحالي جوردون براون(59 سنة)، وحزب المحافظين بقيادة ديفيد كاميرون (44 سنة)، فيما بدا طموح حزب الأحرار الديمقراطيين بقيادة نيك كليج (43 سنة) لتحقيق مركز يتيح له أن يكون " رمانة الميزان " في البرلمان البريطاني، إذا ما أسفرت الانتخابات عن سيولة حزبية لاتبيح لأي من الحزبين الأغلبية المريحة. وفي هذه الحالة، سيؤدي الوضع السياسي في بريطانيا إلي " برلمان معلق "، وهي الحالة الأولي من نوعها، منذ أزمة البترول العالمية في عام 1974، الأمر الذي ستكون له عواقب وخيمة علي الاقتصاد البريطاني . وفي الأجواء الانتخابية البريطانية، يقال إن حزب الأحرار الديمقراطيين، (وهو حزب تأسس في عام 1988 بعد دمج حزبين هما :الحزب الليبرالي، والحزب الديمقراطي الاجتماعي)، قلب الموازين السياسية في بريطانيا من خلال الآداء السياسي المميز لزعيمه نيك كليج، خاصة أثناء المناظرات التليفزيونية، حيث أظهرت الاستطلاعات بعدها حصول كليج علي 51 % من الأصوات، مقابل 29 % لكاميرون (محافظين) و 19 % لبراون (عمال)، وذلك بعد عقود من سيطرة المحافظين والعمال علي السياسة البريطانية. ويلاحظ أن مشاعر كثيرين من الشعب البريطاني تنسجم مع كليج، الذي عارض حرب العراق، والسياسة الأمريكية، الأمر الذي يتوافق مع حصول الحزب علي 52 مقعدا في البرلمان في 2001، و62 مقعدا في 2005، علي حساب حزب العمال. وكان دور حزب الأحرار الديمقراطيين هامشيا طوال 22 سنة، ولم يحظ باهتمام الناخبين بالمقارنة مع حزب المحافظين اليميني، وحزب العمال اليساري، حيث يتبادل هذان الحزبان الدور في الحكم منذ 1920 تقريبا، بعد أن بزغ حزب العمال الذي تأسس في مطلع القرن العشرين. تأتي هذه التطورات في ظل حالة من الاحباط واليأس وخيبة الأمل من جانب الناخبين إزاء الحزبين الكبيرين، بسبب الركود والأزمة الاقتصادية، وفضائح الفساد السياسي، الأمر الذي جعل الناخبين يدخلون حزب الأحرار الديمقراطيين في دائرة حساباتهم الانتخابية، بل إن استطلاعا للرأي أجرته "صنداي تايمز " أنبأ بأن كليج ربما يحقق مركزا سياسيا، هو الأكثر شعبية منذ زعامة ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية. التغيير .. والاقتصاد يبدو أن الرهان الذي ارتكزت عليه دعاية حزب الأحرار الديمقراطيين هو التجاوب مع رغبة الناخبين البريطانيين في " التغيير " والتخلص من سيطرة الحزبين العتيقين علي السياسة والساحة السياسية، وتكررت مقولات المقارنة بين نيك كليج، وباراك أوباما، والتمسك بشعار "التغيير " لذلك يقدم حزب الأحرار الديمقراطيين نفسه علي أنه الحزب الذي سينقذ بريطانيا، وينجز التغيير الكبير في السياسة البريطانية. ولكن خصومه يقولون إن برنامجه الاقتصادي بوجه عام لايقدم مقترحات جذرية قاطعة لمعالجة الأزمة الاقتصادية في بريطانيا، وكيفية تحسين الخدمات، بدون مساس بالضرائب. ويركز حزب الأحرار الديمقراطيين علي وعود بإصلاح قانون الانتخابات، وإلغاء التوريث في مجلس اللوردات، وتحويله إلي مجلس يتم انتخابه عبر التصويت الشعبي. وركز حزب المحافظين، دعايته الانتخابية علي مقولة " ثلاثة عشر عاما تكفي " في إشارة إلي أنه الحزب الذي ينقذ بريطانيا من سياسات حزب العمال، بعد أن بلغ العجز بين الموارد والنفقات في الميزانية 170 مليار جنيه استرليني ويراهن علي وعود بخفض العجز 6 مليارات جنيه في السنة الأولي لتسلمه السلطة، وبعدم زيادة الضرائب، وتخفيض ضريبة الضمان الاجتماعي. وتجميد معاشات 4 ملايين موظف في القطاع العام لمدة عام لخفض الدين الوطني، ويعد كاميرون بتقليص نفقات الحكومة. حزب العمال يؤكد أن الأزمة الاقتصادية لن تمكن بريطانيا من خفض الانفاق العام، والتحسن الاقتصادي قبل عام 2011، وأنه من الخطر الشديد تنفيذ أيا من مقترحات المحافظين، أو الأحرار الديمقراطيين، لما لذلك من أثار وخيمة علي اقتصاد ومستقبل بريطانيا. وفي مواجهة التحدي الذي يواجه حزب العمال، يطرح براون " خطة من أجل المستقبل" تقوم علي : عدم زيادة ضريبة الدخل، وإلغاء ضريبة الرسم العقاري عند شراء منزل لأول مرة، ورفع الحد الأدني للأجور، وإصلاح النظام البرلماني، ويقترح تحويل النظام الانتخابي إلي النظام النسبي مما يسمح لحزب الأحرار الديمقراطيين، والأحزاب الصغيرة بالتمثيل في البرلمان . انتخابات بريطانية بنكهة أمريكية في الدوائر البريطانية، يقال إن انتخابات بريطانيا المرتقبة تسعي جاهدة لاستنساخ أساليب وروح ونمط انتخابات الرئاسة الأمريكية، ففي الماضي، كانت انتخابات بريطانيا تجري أساسا كمنافسة بين سياسات، ولكنها اليوم تدور بصفة أقوي بين " شخصيات "، وذلك بتطبيق نظام المناظرات الأمريكي، والذي يستلهم الصفات الشخصية للمرشحين، ومدي تحقيقهم لانطباعات جذابة لدي الناخبين. ومن هنا، كان من العوامل المؤثرة مايقال عن جوردون براون من أنه يفتقد الشخصية الكارزمية، علي عكس كليج الذي حاز قبولا شخصيا لدي الناخبين. زيادة علي ذلك يجري استلهام النموذج الأمريكي فيما يتعلق باستخدام الانترنت في الحملة الانتخابية كما فعل أوباما، وأيضا استخدام المستشارين السياسيين، وقيام زوجات المرشحين بدور واضح في الانتخابات، علي غرار ما يذكره الناخب البريطاني عن دور ميشيل اوباما، وراء زوجها، وهي تحظي عموما بشعبية في بريطانيا. توجهات السياسة الخارجية من المعروف أن سياسة بريطانيا الخارجية تبدو وكأنها صدي لسياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية، نظرا للتطابق الكبير بين السياستين، بدءا من تأييد إسرائيل، وخصوصية العلاقات معها، وتأييد حربي أفغانستان والعراق والمشاركة فيهما، وإعلان الحرب علي الإرهاب، ومحاربة القاعدة، وصولا إلي الملف النووي الإيراني، ومشاورات مجلس الأمن في هذا الصدد وهناك تقارب في السياسة الخارجية بين الحزبين العتيقين المحافظين والعمال، الأحرار الديمقراطيين. وهو ما يختلف فيه معهما حزب الأحرار الديمقراطية في قضايا منها الموقف من الولاياتالمتحدة والموقف من "الأسرة الأوروبية " والاتحاد الأوروبي والموقف من حربي أفغانستان والعراق والموقف من الفاتيكان والموقف من تجديد المنظومة النووية البريطانية، والموقف من إسرائيل. فحزب المحافظين والعمال ليس لديهما تحفظات قوية علي الانضمام للاتحاد الأوروبي وأيضا لايؤيدان ذلك بقوة، بينما يؤيد حزب الأحرار الديمقراطيين مشاركة " الأسرة الأوروبية"ومع ذلك يري بعض المحللين أن علاقة حزب العمال مع الاتحاد الأوروبي غامضة، وهناك بريطانيين يتشككون في توجهات الاتحاد الأوروبي، ولايرغبون في الانضمام لمنطقة اليورو، وهناك جناح متشدد في حزب المحافظين يرفض أوروبا الفيدرالية، ويعارض اتفاقية لشبونة. وقد شن الكاتب يوهان هاري حملة ضد كاميرون في الاندبندنت منتقدا ما أطلق عليه "فزع المحافظين من الاتحاد الأوروبي وقرارات بروكسل". وكان حزب الأحرار الديمقراطيين الوحيد المعارض للحرب في العراق، وينتقد تورط الجيش البريطاني في ممارسات مشينة بما يتعارض مع " القيم البريطانية الأصيلة " التي تقوم علي دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحكم القانون. ويؤيد الحزب إعادة صياغة السياسة الخارجية البريطانية بما يتفق مع مصالح بريطانيا، وليس مصالح واشنطن. بالنسبة للموقف من إسرائيل، تقول المسؤلة في حزب الأحرار الديمقراطيين "نحن نبقي ملتزمين بالبحث عن حل سلمي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني،.. في إطار دولتين منفصلتين اسرائيلية، وفلسطينية " وتقول إن حزبها يؤيد إسرائيل، وأيضا الفلسطينيين، وينتقد الممارسات الإسرائيلية في غزة، ويعتقد حزبها أن بريطانيا والاتحاد الأوروبي لم يقوما بالضغط المناسب علي اسرائيل من اجل السلام. هذه التوجهات من جانب حزب الأحرار الديمقراطيين جعلت إسرائيل في زعر من إمكانية فوز هذا الحزب، وكتبت هاآرتس الإسرائيلية إن اللوبي الإسرائيلي يهزون رؤوسهم خشية أن تؤدي نتائج الانتخابات إلي تعيين نيك كليج رئيسا لخارجية بريطانيا. أما القضية التي مثلت خطا فاصلا بين الأحزاب البريطانية فهي الموقف من تجديد منظومة الأسلحة النووية البريطانية، فبينما يعارض حزب الأحرار الديمقراطيين خطوة تجديد المنظومة النووية، بدعوي أنها ستكلف ميزانية الدولة 100 مليار جنيه استرليني فإن العمال والمحافظين يؤيدان ذلك. سيناريوهات محتملة من المتوقع أن تكون نتائج الانتخابات البريطانية مفاجأة ثقيلة بكل المقاييس، ومع أن أحد استطلاعات الرأي منح حزب الأحرار الديمقراطيين 46 % من الأصوات، إلا أن السيناريوهات الأخري لها أهميتها. ومنها : أن يحصل المحافظون علي أكبر عدد من الأصوات، وفي الوقت نفسه، يفشل في الفوز بالعدد من المقاعد الذي يوفر له الأغلبية وبالتالي تكون النتيجة برلمانا معلقا. ويبدو أن احتمالات عدم حصول أي من حزبي العمال والمحافظين علي نتيجة قوية هي الأكثر، ويقول بيتر وولف في الفاينانشيال تايمز إن كلا من الحزبين يستحق الهزيمة بجدارة، وبالتالي ترتفع التوقعات ببرلمان معلق، والمعني المباشر للبرلمان المعلق هو إتاحة الفرصة لأحزاب الأقليات الإقليمية مثل الاتحاد الديمقراطي لأيرلندة الشمالية، والحزب الوطني السكتلندي، وحزب بلايد كامري في مقاطعة ويلز، ولها جميعا 66 مقعدا برلمانيا. أما السيناريو الآخر فهو أن يظل حزب العمال أكبر أحزاب البرلمان البالغ عدد مقاعده 650 مقعدا، برغم أنه قد يحل في المركز الثالث في الانتخابات. وفي الساعات الأخيرة قبل الانتخابات، يعلو صوت كليج، وحزب الأحرار الديمقراطيين، مقدما نفسه علي أنه أصبح (القوة الرئيسية التقدمية في صناديق الاقتراع)، بعد أن حلت الليبرالية محل الدولانية التي تعني تركيز السلطة الاقتصادية والتخطيط بيد الدولة). ويؤكد كليج علي خطوط رئيسية منها : إصلاح النظام الانتخابي، وإلغاء رسوم التعليم الجامعي بالتدريج، وإجراء تعديلات ضريبية جذرية، وعدم ترحيل المهاجرين، ومنع تصدير الأسلحة إلي إسرائيل، وسحب قوات بريطانيا من أفغانستان، ومعارضة مشروع "ترايدنت" للردع النووي، ومنح الجنسية البريطانية للمهاجرين غير الشرعيين، الذين أمضوا في البلاد اكثر من 10 سنوات بدون اقتراف جرائم . وعلي الرغم من تأثير ظاهرة المناظرات السياسية علي الانتخابات البريطانية، إلا أن تعليقات عديدة تري أن مناظرات الزعماء الثلاثة براون وكاميرون وكليج، غلب عليها طابع الشركاء في مؤسسة اقتصادية، أكثر من كونهم زعماء سياسيين، وأصحاب رؤي سياسية، تهدف إلي إخراج بريطانيا من واقعها السياسي المتردي، وترسم لها استراتيجية دولة قوية متقدمة، لذلك يقال إن بريطانيا تعيش مرحلة تفتقد فيها زعامة قوية، لذلك فهي في حاجة ماسة للتخلص من مرحلة (حكم الحزب الواحد).