زمان أوى، كنا نسكن بجوار بيته، فى حى الهرم، كان عمرى الصغير جداً، لا يسمح لى باستيعاب ما تقوله "أمى" لى، حين تراه خارجاً من بيته، أو راجعاً له، "ده طه حسين يا نونا.. شفتى إحنا محظوظين إزاى عشان ساكنين جنبه وبنشوفه كل يوم.. بكره لما تكبرى، هتعرفى ليه أنا باحبه، وليه هو راجل عظيم يا نونا". وكبرت "نونا"، وعرفت مَنْ هو "طه حسين" الذى رحل فى 28 أكتوبر ,1973 منذ 36 سنة. فى يوم رحيل "طه حسين"، لا أهتم باللقب الذى يسبقه "عميد الأدب العربى"، أولاً، لأن "الأدب العربى" ليس "جامعة"، حتى يكون لها "عميد"، واللقب لا نعرف مَنْ الذى أطلقه على "طه حسين"، مثل بقية الألقاب المنتشرة فى حياتنا، ولا نعرف مَنْ أطلقها، أو طالبنا بالإصرار عليها. من سمات المجتمع العربى استمتاعه بلعبة الألقاب، منحها لمَنْ يشاء، وحجبها عمَنْ يشاء. وبالطبع ليس "طه حسين" هو الذى أوحى إلى "لجنة التسميات" بهذا الاسم له.. جزء من عظمة "طه حسين" أنه يدرك أن الألقاب الممنوحة من الشلل السياسية، والشلل الأدبية، والشلل الاجتماعية، والشلل الدينية، والشلل الصحفية، والشلل الإبداعية، والشلل الإعلامية، لا تصنف شيئاً له قيمة فكرية، أو إبداعية حقيقية متفردة، لصاحبها، أو لصاحبتها. من أجمل ما قرأت، من السير الذاتية، الإبداعية، كتاب "الأيام" ل"طه حسين"، إنها "أيام"، تغوص فى طين التربة المصرية، الفكرية، وتفضح إلى أى مدى، القرى، والأرياف، لا يصلها أى بصيص من العلم، إلى درجة أن يتسبب الأهل فى فقدان البصر لفلذات أكبادهم دون قصد. أعجبتنى أيضاً "الأيام" لأن "طه حسين" بكل براعة إنسانية، قبل أن تكون براعة أدبية، استطاع مزج مشاعره الدفينة الخاصة جداً، وأسراره المحتجبة بينه وبين نفسه، وبين ما نسميه "الحالة العامة الواقعية الموضوعية".. والتى أعتقد أنها "حالة" مخزنة فوق أرفف المكتبات، لا يقرؤها أحد، والسبب هو هذا بالضبط.. إنها "الحالة العامة الواقعية الموضوعية"، والتى نستطيع معرفتها، من مانشيتات الجرائد، ونشرات الأخبار، ودعابات الرجال على المقاهى. لكن "طه حسين" لأنه "صادق" لا يهمه النقاد، بقدر ما يهمه أن يكون "نفسه".. ولأنه "موهوب" فى كتابة الأدب.. تلك الموهبة، التى بداخلها، القدرة العجيبة، على ربط كل الأشياء.. وجميع العلاقات، ومزج ما يسمى خطأ "خاص"، بما يسمى خطأ "عام".. ولأنه كانت لديه "البصيرة" لا "البصر"، الذى لا يساوى شيئاً، بدون "البصيرة" الداخلية المتفردة، التى تسمع وترى، وتمس، وتلمس، وتنقد، وتتمرد، وتغير. أحب فى "طه حسين" بمناسبة ذكرى رحيله ال ,36 تواضعه.. هدوءه.. بطء خروج الكلمات منه.. التحدى الهائل الذى جعله "المبصر" الأول فى عصره.. يدافع عن مبادئه، وكأنها عيناه المفقودتان فى الطفولة. أحب "دعاء الكروان" و"الحب الضائع".. من كتابات "طه حسين"، التى تحولت إلى أفلام سينمائية. فى دعاء الكروان، فضح الذكورية الشرسة، التى تقتل فتاة ضحك عليها، البيه المحترم، ويقدم لنا مفارقة من مفارقات الحياة الوجودية، الفلسفية، حين تقرر أخت هنادى- الفتاة المقتولة بكلام الحب المعسول- الأخذ بثأرها والانتقام من البيه، المحترم، يقع الاثنان فى حب بعضهما البعض. أحببت "الحب الضائع"، ولا أعتقد أن هناك رواية أديب، رسم الصداقة العميقة المختلفة، بين صديقتين، حيث تقول واحدة "حتى زوجى الذى يحبك لن يستطيع إفساد صداقتنا". فى المجتمع الذكورى، كثيراً ما يحدث أن الرجال تفسد الصداقة بين النساء، وبين الزوجات. لكن "طه حسين" كانت "الذكورية" المتوحشة فى مجتمعنا، تهمه، وتؤرقه، ويراها أعمق بكثير من المبصرين والمبصرات. فى "الحب الضائع" يقول لنا "طه حسين" إن الصداقة بين امرأتين، بدأت منذ الطفولة، هى أجمل من العلاقة برجل، وتحتوى على أبعاد إنسانية أكثر ثراءً، من مجرد حب رجل، ووضح لنا، كيف أن كل صديقة، كانت تبكى من أجل الأخرى لا من أجل نفسها. والرسالة الثانية، التى يلمح لها، فى "الحب الضائع" واضحة من العنوان ف"الحب" كما نتمناه.. كما نشتهيه.. كما ننتظره.. كما نحلم به.. كما نفكر فيه.. كما نجد فيه الاكتمال، "حر" كالهواء، يأتى عندما هو يريد، وليس عندما نريد نحن، لأنه دائماً، يأتى فى الوقت غير المناسب، للبشر، لكنه الوقت المناسب له هو، للحب.. لا سلطان على الحب. لكننا نترك الحب، يضيع، لأننا لا نريد دفع ثمن الحب، الذى لا يأتى إلا مرة واحدة فى العمر.. وكل شىء بعد ذلك.. يهون. لذلك.. هذا الشهر أهدى وردتى إلى "طه حسين" بدون ألقاب.. يكفى أنه "طه حسين".. وردة "بيضاء".. نقيض الظلام الطويل الذى عاشه، وخلق منه طاقة من النور، الفياض المشع. ولأننى أعرف نبل أخلاق "طه حسين" فإنه لن يفرح بوردتى، إلا إذا أهديت "سوزان" رفيقة كفاحه، وزوجته، وشريكة أحزانه، وأفراحه.. المرأة الفرنسية الميسورة، التى أحبت شاباً فقيراً مصرياً، فاقد البصر، وقررت العيش معه إلى الأبد. إلى "سوزان".. الفريدة فى حبها.. النادرة فى وفائها.. حبيبة قلب طه حسين، أقدم لها وردة، لها اللون الأبيض، مثل وردتى لطه حسين- حتى لا يزعل منى- ويتهمنى أننى لا أقدر عطاء امرأة، عاشت من أجله، وماتت على أمل أن تلقاه. من بستان قصائدى من المهم جداً أن يقرأنى واحد أو أن تتذكرنى واحدة وأنا على ذمة النساء الأحياء لكن الأهم مَنْ يفعل هذا، ومَنْ تفعل ذلك وأنا مقيدة بنعى أخرس فى صفحة الوفيات