نجح الشعب وسقط المتربصون تابعت المعارك الانتخابية علي مدي ثلاثة عقود مضت.. ولم أشهد خلالها ما حدث أثناء المرحلة الأولي من الانتخابات البرلمانية التي تمت الأسبوع الماضي.. وتابعت بزهو ممزوج بالدهشة إقبال المصريين علي التصويت.. وأجريت حوارات طويلة علي مدي يومين مع الناخبين في بعض دوائر جنوبالقاهرة.. وجمعت الإجابات والمشاهد ومشاعر الفرحة والجو الاحتفالي والسلوك الحضاري لكل من شارك في العملية الانتخابية.مشاهد رائعة جمعتها.. منها مشهد الرضيع الذي أرهق أمه الشابة.. فسارعت النساء والفتيات في «الطابور» للتناوب علي حمله.. وعندما حاولت الأم الشابة استعادة رضيعها.. ضاحكتها إحدي السيدات قائلة «خلاص ابنك بقي ابن الطابور». ومنها مشهد الجندي البسيط الذي رفض أن يأكل وجبته «الميري» إلا بعد أن مر بها علي الواقفين في الطابور يدعوهم بإصرار لمشاركته الطعام ومنها أيضا مشهد الرجل العجوز رقيق الحال الذي وجد الطابور ممتدا لمسافة طويلة لا يحتملها ضيق المكان أمام اللجنة.. مما بدأ يؤدي إلي التدافع والاحتكاك فدعا الجميع إلي تقسيم الطابور إلي ثلاثة طوابير متوازية ليتسع المكان للواقفين فيه.. واستجاب له الناس.. وعندما سألت أحدهم لماذا استجبت لنصيحة الرجل العجوز - قال يا سيدي الناس تسعي لتحقيق مصالحها.. وتستجيب لمن يحقق لها تلك المصالح.. لذلك استجبنا حتي يقف الجميع مرتاحين بلا تدافع. المثير أن المسيحيين حضروا بكثافة لدعم من يمثلهم.. وعندما سألت بعضهم عن تفسير ذلك قالوا: «بصراحة الإخوان والسلفيين عاملين شغل جامد.. وممكن يحصلوا علي الأغلبية في البرلمان.. وبالتالي يصبح من الضروري وجود قوة تحدث توازنا معهم.. هي دي الديمقراطية».. وسمعت من البعض أن هناك من يشارك خوفا من غرامة التخلف عن الإدلاء بصوته.. وهناك من جاء لدعم مرشح يعرفه جيدا.. بينما أكد البعض أنهم يتحملون الوقوف لساعات طويلة إيمانا بمبادئ عامة بدأ تحقيقها يلوح في الأفق مثل الحرية والتنمية والعدالة والديمقراطية.. إلخ. وعندما سألت بعض أصحاب اللحي الطويلة عن سبب إصرارهم علي الفوز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان.. قالوا: إن تيار الإسلام السياسي هو الأقرب للناس.. منذ زمن طويل ونحن نعمل معهم.. ونشعر برغبتهم في تأكيد هويتهم الدينية ونقدم لهم منذ عقود طويلة الدعوة الدينية.. والحلول لمشاكلهم من العلاج للمساعدات الإنسانية للدروس الخصوصية بأسعار رمزية.. باختصار نحن مع الناس في كل وقت وكل مكان ومعهم في الحزن والأعياد ومعهم في الدين والدنيا.. إنه جهاد في سبيل الله.. وعندما سألت البعض: لماذا لم يتخوف المصريون مما رددته بعض وسائل الإعلام وما أكده بعض خبراء السياسة حول احتمالات حدوث أعمال شغب وبلطجة وما قيل عن سلبية الشعب المصري.. قالوا.. خبراء الإعلام والسياسة «أكل عيشهم كده».. يقولون كلاما لا علاقة له بالشارع والناس.. زمان كانت السلطة تغتصب إرادة الناس بتشجيع البلطجة والشغب والتزوير.. وبدعم الأحزاب الكرتونية التي تزين الصورة المزيفة وبذلك ينجح رجالها دائما في الانتخابات.. لذلك لم يكن المصريون يقبلون علي التصويت لأن النتيجة محسومة لرجال السلطة وأصوات المصريين لا قيمة لها.. الآن الوضع تغير تماما بعد ثورة يناير.. الآن الشعب المصري يثق في المجلس العسكري.. وفي قدرته علي إدارة العملية الانتخابية بشفافية ونزاهة.. وبطريقة تأمين جيدة يختفي معها الشغب والبلطجة والفوضي.. وبأسلوب حضاري يحترم إرادة الناخبين.. والدليل علي ذلك أن هذه الانتخابات تأتي في أعقاب أحداث العنف التي شهدها ميدان التحرير مؤخرا - والتي سقط فيها نحو 40 قتيلا و1700 جريح -وهو ما كان يمثل تهديدا للعملية الانتخابية.. ورغم ذلك أقبل المصريون بكثافة علي المشاركة في العملية الانتخابية التي تتم بسلاسة لم تشهد مصر مثيلا لها.. باستثناء بعض التجاوزات التي يجب علاجها بزيادة عدد اللجان والصناديق.. والاستفادة من تجربة الهند في التصويت الإليكتروني.. إلخ. وكانت الإجابات عن أسئلتي تطرح عندي المزيد من الأسئلة.. وكان المصريون من كل الأعمار والمستويات الثقافية والتعليمية يجيبون بتلقائية تثير الإعجاب بتحضرهم ووعيهم الرائع.. وبدأت أتعلم منهم أن السلطة الحقيقية للشعب يمنحها لمن يختاره من خلال الانتخابات النزيهة.. لذلك يشاركون هذه المرة لاقتناعهم بنزاهتها.. ويشاركون لأنهم يريدون الانتقال إلي مرحلة السياسة المؤسسية المبنية علي ممارسة الحكم من خلال المؤسسات.. ورغبتهم في تحقيق الاستقرار الديمقراطي المبني علي التمثيل الحقيقي للناس.. وشرحت صيدلانية ذلك قائلة: الحكاية بسيطة، يعني مثلا لو المحافظ اختار رئيس الحي، فمن الطبيعي أن يعمل لصالح سيادة المحافظ وفي خدمته - لكن لو سكان الحي انتخبوا رئيس الحي سيعمل لحسابهم والحي يبقي زي الفل لأنه لو لم يفعل ذلك سيفقد منصبه في الانتخابات القادمة.. فهمت؟!.. وقالت مدرسة: الناس اقتنعت بعد ثورة يناير أن الانتخابات النزيهة هي الطريقة المثلي للتعبير عن رأيها بطريقة سلمية.. وبدلا من الفوضي والاحتجاجات وأعمال العنف وقطع الطرق.. والشعب فيما أعتقد سيراقب أداء من نجحوا في الانتخابات.. ومن يثبت فشله لن ينجح مرة أخري حتي لو كان رئيس الجمهورية.. وهكذا توالت آراء المصريين الرائعة وتعلمت منها بصراحة الكثير.. وفهمت أن المصريين يصرون علي تحقيق مصالحهم التي وجدوها في الشرعية الدستورية.. والانتقال من حالة الثورة الدائمة إلي الدولة المستقرة ذات المؤسسات الديمقراطية التي تتيح تداول السلطة بسلاسة.. وإنهم مع التقدم والتنمية والكرامة الوطنية والتفوق الحضاري وتحقيق العدالة الاجتماعية.. وغيرها من الأهداف التي قامت من أجلها ثورة يناير.. وهكذا فاز بالبرلمان القادم «حزب الكنبة» كما كان يسميهم البعض. باختصار اكتشفت أن المصريين العاديين يعرفون مصالحهم ومصالح بلدهم أكثر من أغلب الإعلاميين وخبراء السياسة ومن يزعمون أنهم يتحدثون باسم الشعب المصري.. فتحية لكل المصريين الذين بهروا العالم بأدائهم وسلوكهم الحضاري.